أكد المفكر الإسلامي طه عبد الرحمان، أن ما أصاب الأمة الإسلامية والعربية من «تأخر» ثقافي وحضاري إنما هو من البلى الذي طرأ على عقلها والهوان الذي لحق طلاب العلم فيها، وقال في كلمة وجهها إلى طلبة بجامعة فاس ، إن الشباب هو الذي يملك القدرة على تحمل الأمانة التي بفضلها تتحقق كرامة الإنسان، وهو الذي يختزن الطاقة التي بفضلها يتحول مسار الزمن، مشددا على أن المجتمع الذي لا يقدر شبابه حق قدره، ما هو إلا مجتمع ميت لا يخرج أبدا من ظلماته. وأشار الفيلسوف المغربي، في كلمته المنتدى الفكري الذي تنظمه منظمة التجديد الطلابي بتعاون مع المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة ومؤسسة بن عبود للأبحاث ودراسة الإعلام، أن «تجديد العقل» من أكثر تحديات التغيير التي يتصدى لها «الشباب الطلابي» على وجه الخصوص، لأنه يؤمن بأن في رفع هذا التحدي خروج مجتمعه من حلك الظلمات إلى نور الحياة. وانتقد طه، الذين يتشبثون بأن تقدم المسلمين ينبغي أن يأتي على الوجه الذي تقدم به الآخرون سواء بسواء، ويعتقدون أن نهضة الأمة لن تأتي إلا بأن نحدو حدو الغرب والإغتراب عن الذات، وقال «إن هذه مفارقة عجيبة كون أي تقدم لن يكون إلا بوجود الاستيلاب، مضيفا أن تقليد الآخر لا يجدد عقل الأمة ولا يحييها، لأن الحياة التي تليق بمقامها، والتي تسأل عنها ليست حياة خلقتها المادية، وإنما حياة فطرتها الروحية التي تمد عقلها بكل قواه.وأكد المحتفى به في الدورة السادسة للمنتدى، أن الأمة الإسلامية بموجب رسالتها قدر لها أن تتأسس خلقتها على فطرتها، بخلاف الآخر الذي قرر صرف هذه الفطرة بالكلية، مجتزئا بالخلقة المادية. وأوضح طه أنه يحمل هموما شتى يجتهد لتحقيقهم، الهم الأول، أن يستعيد خطاب الأمة قوتين عقليتين أساسيتين فقدهما منذ أبد بعيد، وهما «القوة المفهومية»التي تجعله يستقل بمعانيه وتصوراته، و»القوة الاستدلالية»التي تجعله يستقل بأدلته ونصوصه، الثاني؛ أن يدل الأمة على حقيقة الإبداع وكيف يمكن أن تأخذ من «عقل الآخر»مع الحفاظ على مقومات فطرتها، والهم الثالث؛ أن يقدم نموذجا يتمثل في فلسفة إسلامية تجعل الأصل في تجديد الأمة هو تجديد الإنسان، وتجعل الأصل في تجديد الإنسان هو تجديد الروح. وفي كلمة له خلال الجلسة الافتتاحية، اعتبر محمد لبراهمي رئيس منظمة التجديد الطلابي أن تنظيم المنتدى يأتي في سياق إسهام المنظمة في البناء المعرفي والفكري العلمي الأكاديمي، لأن الفكرة تثمر ممارسة وفعلا وبمشاريع تؤسس للحضارة، وأوضح المتحدث، أن اختيار نموذج طه عبد الرحمان لم يأت اعتباطا بل في إطار الأهداف الكبرى التي تسعى المنظمة إلى تحقيقها في كل مناشط فعلها، وقال لبراهمي إن طه هو «مدرسة فكرية ومشروع أصيل مبدع تمرد على الحضارة الغربية، وإن تربى في أحضانها ونهل من فكرها، دون أن تقتل فيه العقل الناقد والمفكر المبدع ولم يخضعه بريقها وإغرائها، مضيفا أن المحتفى به هو نموذج المفكر الذي أعلن الحرب على التقليد في شقيه الحداثي الغربي والأصولي المنطوي على الذات رافعا شعار الاجتهاد ولو أخطأ. بدوره، أكد رشيد الجرموني عن المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، أن الملتقى يأتي في إطار تجديد الفكر والنهضة عند المجتمعات الإسلامية، باعتبار مشروع طه عبد الرحمان فكر أصيل تجديدي ومبدع، عمل على استلهام نقد مزدوج ينتقد الذات والآخر، ويقدم مجموعة من الأفكار تحمل في طياتها معالم مشروع فكر أصيل، وقال المتحدث في كلمة له، إن ما وقع من ثورات في العالم العربي والتحولات في المشهد السياسي والثقافي والديني والفكري تفرض العودة إلى مشروع طه عبد الرحمان، خاصة بعد فشل مشاريع التحديث القادمة من الغرب، ودعا الجرموني المشاركين في أشغال المنتدى الفكري إلى إنشاء مركز طه عبد الرحمان للدراسات والأبحاث الفكرية. يذكر، أن المنتدى في دورته السادسة المخصصة للإحتفاء بفكر طه عبد الرحمن، تنظمه منظمة التجديد الطلابي بتعاون مع المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة ومؤسسة بن عبود للبحوث ودراسات الإعلام بجامعة فاس. وفيما يلي نص كلمة كلمة طه عبد الرحمن في افتتاح المنتدى الوطني الفكري بجامعة فاس" ما أصاب الأمة من «تأخُّر»حضاري مِن الهوانِ الذي لَحِق طلاَّبَ العلم فيها بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على الصادق الأمين أيها السادة الأساتذة الأعزاء! أيها الباحثون الأفاضل! أيها الطلبة البَرَرة! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد، لا عجَبَ أن يكون الشباب، بموجِب فطرته، سبَّاقا إلى طلَب التغيير في الأَنفُس والآفاق، وساعيا، بجِد وكَدّ، إلى تحصيل أسبابه ووسائله؛ إذ هو الذي يَملِك القدرةَ على تَحَمُّل الأمانة التي بفضلها تتحقق كرامة الإنسان، وهو الذي يَختزِن الطاقةَ التي بفضلها يتحوَّل مسار الزمان؛ والمجتمعُ الذي لا يُقدِّر شبابَه حقَّ قَدْرِه ما هو إلا مجتمعٌ ميّتٌ لا يَخرُج أبدا من ظُلُماته؛ ولعلَّ «تجديدَ العقل» هو أكبر تحديات التغيير التي يتصدّى لها «الشباب الطلابي» على وجه الخصوص، وما ذاك لأنه يؤمن إيمان الصادقين بأنَّ في رفع هذا التحدي خروجَ مجتمعه من حَلَك الظلمات إلى نور الحياة؛ فالعقل يَبْلَى كما يَبْلى الثوب؛ وبِلَى العقل على درجات، أخفُّها أن تَفْتُر قُواه قليلا، ثم لا تلبث أن تسترجع تَدفُّقها كما تسترجعه المجتمعات المتقدمة عند تعثُّرها؛ وأسوأُ هذه الدرجات أن تَجمُد هذه القُوى طويلا، حتى كأنها لا تنبعث أبدا كما هو الحال في غير هذه المجتمعات؛ والشبابُ الطلابي، أنىَّ كان، لا يفتأ، من خلال نشاطه ونضاله، يُنبِّه على علامات هذا البِلَى العقلي الذي يصيب المجتمعات في مختلِف أطوارها، ويحذِّر من آثاره التي تتفاوت ضرَرا من مجتمع إلى مجتمع ومن طور إلى طور. ولا شكَّ أن ما أصاب الأمة الإسلامية والعربية من «تأخُّر» ثقافي وحضاري إنما هو مِن البِلَى الذي طرأ على عقْلها والهوانِ الذي لَحِق طلاَّبَ العلم فيها؛ وما أن وَضعَ السائلُ السؤالَ الفاصل: «لماذا تأخَّرْنا وتَقدَّم غيرُنا؟» حتى تداعت الأجوبة وتكاثرت الآراء، لكنها وآأسفاه! تضاربت فيما بينها بقوة، حتى كأن أصحابها ليسوا من أنباء الأمة الواحدة، مُتفرّقين تفرُّق الثقافات الأجنبية التي نهلوا منها؛ وربما ساهمت، في هذا التفرق الشنيع، صيغةُ هذا السؤال نفسِه، إذ جاءت مُجمَلةً ومبهمةً، بحيث يجوز أن يُفهَم منها أن تقدُّمنا ينبغي أن يأتي على الوجه الذي تَقَدَّم به الآخرون سواءً بسواء كما لو كانت أسبابُ تأخُّرِنا هي عَيْنُ أسبابِ التأخر الذي خرج منه هؤلاء؛ وهكذا، تقرّر في الأذهان أن تقدّمنا لا يتحقق إلا بأن نحذو حذوهم، وإلَّا فلا أقلَّ من أن نقتفي أثرهم؛ فذهب بعضنا إلى أنه لا يُمكِن أن نتقدَّم إلا متى اغترَبنا عن ذاتنا وفَنَينا في ذوات غيرنا، مُرتكبين مفارقة عجيبة وهي أنه لا تَقدُّمَ إلا مع وجود الاستلاب؛ فاندفعوا في إنشاء مشاريع ورؤى فكرية تدعونا إلى أن نكون أشباحا ثقافية هائمة؛ وذهب آخرون إلى أنه لا يمكن أن نتقدم إلا إذا انتقينا من تراثنا ما يجعلنا نتشبَّه بغيرنا، آتين بِمفارقة لا تقلّ عَجَبا عن سابقتها، وهي أنه لا تَقدُّمَ إلا مع وجود التشبُّه؛ فتعاطوا وضعَ مشاريع ورؤى أخرى تدعونا إلى أن نصير كيانات عقلية متباينة. ولم يَسَعْني، وأنا أتأمل هذه الدعوة الرهيبة إلى التقليد، استلاباً كان أو تَشبُّهاً، وأتألَّم لِمَا تَنِمُّ عنه من ضيق في الرأي وانسداد في الأفق، إلا أن أتصدَّى لها بكل ما أوتيت من علم وعمل، يَقيناً مني بأن تقليد الآخر لا يُجدّد عقل الأمة ولا يحييها، لأن الحياة التي تليق بمقامها، والتي تُسأل عنها ليست حياةََ خِلْقتها المادية، وإنما حياةَ فطرتها الروحية التي تَمُدُّ عقلَها بكل قواه، ذلك لأن هذه الأمة، بموجب رسالتها، قُدِّر لها أن تتأسَّس خِلْقَتُها على فطرتها، في حين أن هذا الآخر قرَّر صرف هذه الفطرة بِالكُلية، مُجتزئا بالخِلْقة المادية؛ وعلى هذا، فلم أجد بُدّا من أن أجعل همّي هموما شتى؛ أحدُها، أن أجتهد في أن يستعيد خطاب الأمة قوتين عقليتين أساسيتين فَقَدهما منذ أمَد بعيد، وهما: «القوةُ المفهومية» التي تجعله يستقل بمعانيه وتصوُّراته، و»القوةُ الاستدلالية» التي تجعله يستقل بأدِلَّته ونصوصه؛ والهمّ الثاني، أن أَدُلَّ الأمة على حقيقة الإبداع، وأَكشف لها عن أسبابه وآلياته، موضِّحا لها كيف يمكنها أن تأخذ مِن «عَقْل الآخَر» مع الحفاظ على مُقوِّمات فطرتها؛ والهمّ الثالث، أن آتي بنموذج لهذا الإبداع يُصدِّق ما أدعو إليه، ويتمثل هذا النموذج في فلسفة إسلامية تَجعل الأصلَ في تجديد الأمة هو تجديدُ الإنسان، وتجعل الأصلَ في تجديد الإنسان هو تجديدُ الروح. وتَحت هذه الهموم هموم أخرى قد يتولى الكشفَ عنها جمعُكم الموقَّر بفضل ثُلَّة خَيّرة من الأساتذة والباحثين الذين أبوا، متفضّلين، إلا أن يقاسموني هذه الهموم، باذلين وقتهم وجهدهم في تدارس إنتاجي، فأشكُر لهم سابق فضلهم وخالص سعيهم؛ غير أني أهيب بهم أن ينظروا إلى هذا الإنتاج على أن العلاقة التي تربط صاحبَه به لا تختلف عن العلاقة التي تربطهم به؛ فقد أصبح هو نفسُه قارئا له كما يقرأون، وناظرا فيه كما ينظرون. كما أشكُر للمؤسسات الثقافية الثلاث: «منظمة التجديد الطلابي» و»المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة» و»مؤسسة المهدي بن عبود للدراسات والبحوث»، جميلَ تعاونها على هذه المبادرة التي تجلّت في تخصيص المنتدى الفكري السادس لتدارس هذا الإنتاج؛ ولَكَمْ يُحمَد لِجامعة سيدي محمد بن عبد الله ولِكلية الآداب والعلوم الإنسانية أن احتضنتا، في رحابهما، هذه المدارسة لمشروع فكري مهموم! فمَنْ هو أَحقُّ من الطلبة بمتابعة هذا النشاط ومناقشته؛ أليسوا هم الفتية الذين تسمو هِممُهم ولا تنحط، بَاقين على قُرب العهد بالفطرة الأولى! ومَن هو أسعدُ مِمَّن سوف تتيح له هذه المدارسة أن يُجدّد صلته بهؤلاء الفتيان ولو عن بُعد، متأسّفا عن قاهر غيابه، ومتأثِّرا بواسع حِلمهم! فلَمْ يَتْرُك «تداعي الصحية» لِبَدنه قدرةً على طَيِّ هذا البعد ولو أن الروح تَطويه طيّا؛ فليبارك الله لكم هذا النشاط الفكري الخالص، وليهدينا ويَهديكم سبيلَ إحياء الأمة وتجديدَ عقلها، إنه سميع مجيب؛ والسلام عليكم ورحمة الله. ما أصاب الأمة الإسلامية والعربية من «تأخُّر» ثقافي وحضاري إنما هو مِن البِلَى الذي طرأ على عقْلها والهوانِ الذي لَحِق طلاَّبَ العلم فيها؛ وما أن وَضعَ السائلُ السؤالَ الفاصل: «لماذا تأخَّرْنا وتَقدَّم غيرُنا؟»