ميداوي: "النظام الأساسي" لموظفي التعليم العالي يلتزم بالمسار الطبيعي    المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يحتفي بحرف "تيفيناغ" ويرصد التحديات    "جبر أضرار سلفيين" ينتظر الحسم    تحويل المكتب الوطني للهيدروكاربورات إلى شركة مساهمة على طاولة مجلس الحكومة    والي بنك المغرب يدعو الحكومة إلى إنجاح برامج تمويل المقاولات الصغرى    توقعات استقرار التضخم بالمغرب عند 1% نهاية 2025 وارتفاعه إلى 1.8% في 2026    النفط عند أدنى مستوى في أكثر من أسبوع بعد إعلان ترامب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران    المغرب يستعين بشركات ودفاتر تحملات لمواجهة خطر النفايات الطبية    نجاح إصدار سندات ل"اتصالات المغرب"    إيران تقول إنها "أرغمت" إسرائيل على وقف الحرب "من طرف واحد"    تنفيذ المرحلة الأولى من حملة الإغاثة المغربية لفائدة 1000 عائلة من النازحين في مخيمات غزة    إيران تعلن مقتل 610 أشخاص على الأقل منذ بدء الحرب مع إسرائيل    حكم كندي يدير مباراة الوداد والعين    فيلدا: "اللبؤات" يقاتلن من أجل اللقب    بنفيكا يذيق بايرن ميونيخ الهزيمة    أشرف حكيمي أفضل لاعب في مباراة باريس سان جيرمان أمام سياتل ساوندرز الأمريكي    طنجة.. كلب على متن سيارة يعض فتاة والسائق يدهس شابًا أثناء الفرار أمام سيتي مول    طنجة.. حملة أمنية تسفر عن توقيف لصوص ومروّجي مخدرات بالمدينة العتيقة    "ملعب عشوائي" يثير الجدل بالدروة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    دفاع بودريقة يستدل بصور مع الملك وماكرون وأخنوش لدحض تهمة النصب    مؤسسة أحمد الوكيلي تطمح إلى إخراج "الآلة" من النخبوية الموسيقية    تقنية الهولوغرام تعيد جمهور مهرجان موازين لزمن عبد الحليم حافظ    اتفاق أمني مغربي فرنسي جديد يرسم خارطة طريق لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة    باستعمال الدرون والكلاب البوليسية.. حجز 3 أطنان من الشيرا كانت موجهة للتهريب الدولي    أزمة مالية تهوي بليون الفرنسي إلى الدرجة الثانية        بعد غياب طويل.. عودة الإعلامية لمياء بحرالدين للساحة الإعلامية بشكل جديد    بركة: 300 كيلومتر من الطرق السريعة قيد الإنجاز وبرمجة 900 كيلومتر إضافية    بنعلي: المغرب حقق قفزة نوعية في مشاريع الطاقات المتجددة    الصوديوم والملح: توازن ضروري للحفاظ على الصحة    الجامعة تعلن عن موعد وملعب نهائي كأس العرش بين نهضة بركان وأولمبيك آسفي    الحسيمة .. دعوات لمقاطعة شركة "ارماس" تقسم نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي    الأداء الإيجابي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    بعد مسيرة فنية حافلة.. الفنانة أمينة بركات في ذمة الله    المملكة المغربية تعرب عن إدانتها الشديدة للهجوم الصاروخي السافر الذي استهدف سيادة دولة قطر الشقيقة ومجالها الجوي    ترامب: إسرائيل وإيران انتهكتا الاتفاق    مهرجان "موازين" يتخلى عن خدمات مخرجين مغاربة ويرضخ لشروط الأجانب    العراق يعلن إعادة فتح مجاله الجوي    دراسة تكشف ارتفاع معدلات الإصابة بالتهاب المفاصل حول العالم    الإكثار من تناول الفواكه والخضروات يساعد في تحسين جودة النوم    هل تعالج الديدان السمنة؟ .. تجربة علمية تثير الدهشة    قبيل حفله بموازين.. راغب علامة في لقاء ودي مع السفير اللبناني ورجال أعمال    في برنامج مدارات بالإذاعةالوطنية : وقفات مع شعراء الزوايا في المغرب    في مهرجان موازين.. هكذا استخفت نانسي عجرم بقميص المنتخب!    بلكوش: المنتدى العربي الإفريقي للمقاولة وحقوق الإنسان تعزيز لمواصلة الشراكة والتعاون بين المنطقة العربية وعمقها الإفريقي    إسرائيل تعلن رصد إطلاق صواريخ إيرانية بعد إعلان وقف إطلاق النار وطهران تنفي    الوداد يطمئن أنصاره عن الحالة الصحية لبنهاشم وهيفتي    بوغبا يترقب فرصة ثمينة في 2026    قهوة بالأعشاب الطبية تثير فضول زوار معرض الصين – جنوب آسيا في كونمينغ    ترامب يعلن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار شامل بين إسرائيل وإيران    ميزانية الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها    رمسيس بولعيون يكتب... البرلماني أبرشان... عاد إليكم من جديد.. تشاطاراا، برويطة، اسعادات الوزاااار    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر المغربي محمد بودويك
نشر في بيان اليوم يوم 23 - 11 - 2018

يُعَدُّ الشاعر، والناقد محمد بودويك من الأصوات الشعرية المتفرّدة؛ فهو شاعر عُرف بتطويعه للغة، وتبحُّره في انزياحاتها، كما هو دائم البحث عن امتلاك أدوات نقدية جديدة؛ لتجويد نصوصه الشعرية، فهو بهذا المعنى، وذاك “شاعر لا يُحصى”:
كيف نفرق بين محمد بودويك “الشاعر”، ومحمد بودويك “الناقد”؟ وأيهما الأقرب إليكم؟
لا فرق بينهما في المجاز بالمعنى اللغوي لكلمة مجاز؛ لأن الشعر مجاز موصل إلى النقد، والنقد مجاز يفضي إلى الشعر ذهابا وإيابا، أي أن الشاعر ناقد نفسه، ناقد ما يكتبه بالدرجة الأولى، وهذا يقتضي منه التشطيب والمحو تلو المحو حتى يستوي النص نصا شعريا وعملا إبداعيا قمينا بالقراءة، حقيقا بالإضافة النوعية. إذاً، هناك تلازم بين الشاعر والناقد فيَّ. وربما هذا ما يجعل الكتابة لديَّ بطيئة، تفكر في نفسها قبل أن تتعرى، وتبدي جمالها أو”بشاعتها” للمتلقي. ولربما كان اهتمامي بنقد الشعر مدعاة إلى قراءتهما معا لأُصَلِّب أدواتي القرائية، ومقترباتي النقدية “العلمية” من دون تفريط في ذوقي الجمالي الشخصي الذي هو حصيلة تربية ثقافية معينة، واختيارات بين المقروءات والمراجع، والكتب المختلفة. ولذلك، فإن متابعتي، لما يصدره الشعراء المغاربة وغير المغاربة، نابعة من إصراري على معرفة “الفتوحات” الإبداعية، والاقتراحات الكتابية، وقراءاتي لتلك المتون الشعرية، تجمع ما بين “السَّبْر الأكاديمي”، والتذاذي الشخصي بما بين يديّ. وقد أفادتني مطالعاتي لمدونة الشعر العربي، إفادة ثرية جمَّة بحيث جعلتني أقيس ما أكتبه من شعر، بالملمترات النفسية، وجرعات فائقة من التهيب والخوف مما أكتب. إنه القلق الإبداعي الذي يشحذ القصيدة، والقلق المعرفي الذي يجعل النقد المزدوج، بمعناه الذاتي والموضوعي، متيقظا فيَّ. ومن ثم، فالشعر والنقد ليس بينهما برزخ لا يبغيان، بل هما أُسَّان رئيسان يُقوِّمان تجربتي في الكتابة، ويوجهانها الوِجْهَة المبتغاة، أو “المنزاحة”، عما أبتغيه.
ومع ذلك، فالشعر هو الأول لدي، والنقد هو الثاني.
* طفولتكم كانت وقتا بين “الورد” “والرماد”، وقد ولدتم بمدينة جرادة شرق المغرب. حبذا لو حدثتمونا عن نزق الطفولة، وعن الشاعر الطفل الذي يسكنكم منذ المرحلة المبكرة؟
توصيف طفولتي ووضعها بين مرحلتي “الورد” و”الرماد”، هو توصيف مُسْتَقَى من أحد عناوين قصائد الشاعر أدونيس. ووجدت أنه عنوان على بساطته الظاهرة ووضوحه يختزن أعماقا وأبعادًا، وزمنية نَاسَتْ بين الفرح والحبور والهناءة الطفولية، وبين الترح والألم والشقاوة، وسقوط الأحلام مثلما تسقط الورود البلاستيكية الشائهة من مزهرية منكفئة.
كانت جرادة مسقط رأسي وقلبي، سمائي الأولى وأرضي الأولى، وهوائي الأول الذي أبقاني على قيد الحياة رغم شَوْبِه واختلاطه بدخان الفحم الحجري الذي كان يخضب بالرمادي والأصفر الكبريتي سماءنا، وأفقنا، ويخلط بشقشقة النار في المواقد والمدافئ الفحمية، منامنا وأكلنا، واستعدادنا للمدرسة في الأيام والأشهر المقرورة الثلجية والصقيعية. رفعنا التحدي عاليا ونحن أطفال، نرى الموت يحصد ليل – نهار “دزينة” من خيرة الرجال، مخلفين أرامل في شرخ الشباب، وأطفالا زغب الحواصل، للريح والجوع والضياع. واعتدت كما أترابي، على ليلات البصاق الدموي، والسعال الذي كان يفتك بصدور آبائنا وجيراننا، وعمالنا، إذ إن المرض الذي كان يفتت رئاتهم، ويطرد الأوكسجين منها، هو مرض: “السيليكوز”. ولكننا رفعنا التحدي، وأقبلنا على الدرس والتحصيل في ظروف أقل ما يقال عنها أنها ظروف عصيبة أليمة، عرفنا فيها ألوانا من الأمراض، والقهر، والشقاء، وقلة ذات اليد.
ورفعنا التحدي، ونحن نشكل فرقا تلهو وتلعب، وتغازل بنات الجيران وزميلات المدرسة، وتذهب إلى الغابة القريبة منا حيث النبات والشجر والطير من كل جنس، نقتات منها ونتغذى على الجلثوم والقثَّاء وفاكهة “ساسْنو”، والبلوط، وما إلى ذلك. ونسجنا/ نسجت خيوط الزمالة والرفقة والصداقة مع أبناء الفرنسيين والبلجيكيين الذي كانوا يقتسمون معنا فضاء وهواء وسماء جرادة، ولا يقتسمون معنا – طبعا – الخبز الشهي، والجبن الفرنسي الثمين، والموز والتفاح وغيرها. تلك النعم كانت أبعد عنا، أبعد من قرطبة.
ولعلمك، فإن أمشاجا وأشتاتا مما قلت، وما لم أقله، بلورته في ما كتبت شعرا ونثرا. فبعض دواويني الشعرية هي عبارة عن سيرتي الشخصية، وسيرة المكان والزمان. فضلا عن نصوص نثرية أنوي جمعها ضمن دفتي كتاب، وللمريد إذا شاء الاستزادة أن يقرأ ما أشرت إليه، تحت عناوين كالتالي: “في ترعة كطفولة منكرة”، و”كأن الموجودات الأولى تتناهبني” و “ذكريات شعرية”، ومرح الشقاوة وملح البلاهة” و”وقت بين الورد والرماد”، وديواني الأول “جراح دلمون”، و”يتبعني صفير القصب”، و”مركبة السنجاب”.
ما أهم البواعث التي تدفع الشاعر محمد بودويك للكتابة الشعرية؟
النرجسية، ربما. الاعتداد بالذات، قد يكون. الخوف من النسيان، بالتأكيد. إقرار وتثبيت الحضور بين الزملاء والزميلات، والصديقات والأصدقاء الشعراء والأدباء: نعم. لكننا – وأنا لا أستثني نفسي من ضمير الجمع – نكتب لأن الكتابة تبدع وتنشئ خَلْقاً آخر، واقعا ثانيا، حياة مغايرة، حلما ورديا، وهما جميلا لذيذا يغري بالبقاء العنيد، والإقبال على الحياة رغم مرارتها، وعذابها. ففي الكتابة حياة مديدة بما لا يقاس.
وفيها طعم ونكهة، وماء، وأغنية، وألوان مبهجة، لا قِبَل للكاتب بتوصيفه لأنها لا مرئية، منفلتة، زئبقية، لكنه يعيشها بملء قلبه ورئتيه، وعقله، ووجدانه، وحسه، وبصره، وتبصرته. هي ذي البواعث التي تدفعني إلى الكتابة، إلى كتابة الشعر تحديدا. وبما أنني أحرص على الزمالة والصداقة. وتوسيع دائرة معارفي، فإنني أكتب النقد أيضا لأنه مجاز إلى نسج العلائق مع الآخرين، وتأصيل الصداقة معهم، والاعتراف بما يكتبونه ويبدعونه.
كيف تقيمون واقع الشعر العربي الآن؟ وهل ثمة أسماء لامعة في سمائه؟
يصعب علي وعلى غيري تقييم واقع الشعر العربي حاليا وراهنا؛ لأنه من الشسوع والوساعة، ما يجعل كل سعي مشكور إلى فعل ذلك، يخطئ الحكم والتقويم، والرأي السديد. قد أقول من باب الفضفضة والتعميم، أنه هنا، موجود وحاضر، ومجتهد. ذلك أن الشعر العربي المعاصر يشهد إبدالا ملموسا، وتحولا محسوسا على مستوى اللغة والبناء والتخييل، داخل الشكل الإيقاعي الذي ارتضاه جل الشعراء العرب راهنا، وهو قصيدة النثر. ففيها فتوحات لغوية مبهرة، على أيدي أفذاذ من شعراء العربية – مغربيا ومشرقيا، وخليجيا، وفيها – وهذه سنة الأشياء – الفقاقيع، والجروح اللغوية لا الاجتراحات، والأعطاب الأسلوبية، والأنيميا الجمالية والمعرفية.
وإذا شئت أن أذكر لك أسماء لامعة، فهي أكثر من أن أحصيها في حوار كهذا. لأقل مثلا هناك: قاسم حداد وعباس بيضون وعبد المنعم رمضان ورفعت سلام وشوقي بزيع وعقل العويط ومنصف الوهايبي وسعدي يوسف وغسان زقطان ومحمد زكريا وآمال موسى وآخرون..
لم أدرج اسم شاعر مغربي، أو شاعرة مغربية من بين هؤلاء، لا جبنا ولا خوفا، ولا تملقا لهذا دون ذاك، بل لأنهم كثير. أما خوفي فمن إسقاط أحدهم، أو السهو عن ذكر اسمه.
هلا ذكرتمونا بأبرز الشعراء العالميين الذي شكلوا رافدا لوعيكم الشعري؟ ومن من الأسماء الأقرب إلى نفسكم؟
يطرح السؤال بداية مشكلة الإحصاء العددي، والحضور الكمي للشعراء الكونيين الذين أغنوا التجربة الشعرية، وكانوا ضوءا لها وكنزا مثقلا بالنفيس والثمين من التجارب اللغوية والتخييل البديع، والصور المبهرة، والمفارقات الأسلوبية المدهشة.
ومع ذلك، يمكن أن أشير – خَطْفاً – إلى: بابلو نيرودا وناظم حكمت ولوركا وماتشادو وماياكوفسكي وأراغون وإيلوار وكلوديل وبول فاليري وبودلير ورامبو وبول فيرلين وإليوت وييتس ووايت وايتمان وريتسوس، وطائفة من شعراء التيارات الفنية المتمردة كالسورياليين، والدادئيين، والتصويريين، وشعراء الجيل الضائع الأمريكي.
كل هؤلاء أقرب إليَّ من حبل الوريد. وإليهم، إلى متونهم الشعرية، وخبراتهم في الحياة، وجنونهم، أعود كلما سمحت الفرصة، وشعر شعري بالجفاف أو اليباس يدب إليه.
ما رأيكم في “قصيدة النثر”، أهي قصيدة نثر أم “شعر حر”؟ وهل فعلا أن الشعرية الحديثة تراهن على حركية اللغة والمجاز؟.
رأيي في “قصيدة النثر” عبرت عنه غير ما مرة، إنْ ضمن ملتقيات وطنية، أو موائد مستديرة، أو في مقالاتي. والحوار سانحة لأضع النقاط على الحروف: وهو أن ما يسمى ب “قصيدة النثر” ينبغي أن توصف ب “الشعر الحر”، ما دام أنها تخلو من الوزن العروضي، وتنأى بنفسها عن القافية إلا ما وقع اتفاقا، أو دعت إليه الحالة الشعرية.
إن قصيدة النثر هي النص الذي وجب أن يكتب بالطول والعرض على صفحة الورقة. ما يعني أن النص الشعري النثري، من مقوماته الشكلية الخارجية، أن يستغرق الصفحة من أولها إلى نهايتها، كالقصة القصيرة تماما، سوى أنه يختلف عنها بالخيال المجنح أو المفارقة المدهشة، أو توتير جمل النص وتمزيقها بما يخدم الانزياح المطلوب، والمجاز الضروري. التمزيق هنا لا يعني الإتلاف، والتقطيع والتشذير، بل يعني قلب المسند والمسند إليه، وشقلبة المجاز العقلي، والمجاز المرسل أو محوهما من أجل تسييد بياض المعنى، وشهقة الغياب في الحضور، والحضور في الغياب.
ما نقرأه الآن تحت “يافطة” قصيدة النثر في جل ما ينشر، ما هو إلا شعر حر “طليق”، يختار أسطره الشعرية بعناية، وفق الفيض النفسي والشعوري، والدفق اللغوي. وربما تكون الشاعرة نازك الملائكة هي من أسهم في نشر هذا الغموض. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا نسمي النص الشعري ذا الإيقاع المستل من العروض الخليلية؟ إنه قصيدة التفعيلة باختصار. وفي هذا ما فيه من وجوب احترام الأشكال، وتسهيل مأمورية مقاربتها على النقد والنقاد.
كيف تنظرون إلى المواكبة النقدية للشعر، وهل هناك أزمة نقد أم أزمة نقاد؟
كتبت مقالا في هذا الموضوع الإشكالي، وكان مداخلة، في إحدى اللقاءات الثقافية بمدينة أصيلا التي تمحورت حول هذا الإشكال المعرفي؟ وقد خلصت في هذه المداخلة التي ضمها كتاب نقدي جماعي أصدرته الأمانة العامة لمنتدى أصيلة الثقافي الدولي، خلصت إلى أن الأزمة المعرفية والثقافية تطولهما معا: تطول الشعر والنقد. وأن النقاد العرب في جملتهم، لا يذهبون مباشرة إلى تسمية الأشياء بأسمائها. لا يغربلون وهم يقرؤون ويقاربون مدونة الشعر العربي الحديث والمعاصر، إما لخوف، أو إيثارا “للسلامة”، أو لشللية وزبونية، أو لإهمال وكسل وخمول. فهذه الحالات التثبيطية، هي ما جعل الأزمة قائمة، بل وتتفاقم سنة عن سنة، حتى بتنا لا نعرف الشاعر من المتشاعر، والشعر من اللاشعر، إذ غاب المنهج، والفحص والتمحيص، وغابت المسؤولية والموضوعية والنزاهة.
نعم، هناك أزمة نقد ونقاد. ولست الوحيد من يصدع بهذا الكلام، بل جل الشعراء يجدون أنفسهم ضحية صمت مريب، وأكاد أقول: مؤامرة مبيتة وممنهجة. وحاصل الأمر أن ليس هناك مؤامرة ولا يحزنون، هناك تقاعس عن القراءة، والمتابعة، وفيض كاسح مما ينشر، وأكثره ليس بشعر، ما يجعل أمر المتابعة النقدية عسيرا بل مستحيلا.
ماذا تمثل لكم الجوائز الشعرية في العالم العربي، وهل تقدم شيئا للشاعر، ولتجربته الشعرية؟
ينبغي أن نتفق أولا، أن الجوائز لا تصنع الإبداع، ولا تصنع الشاعر، ولكنها في المقابل، تدفعه قُدُماً لِيُجَوِّدَ بضاعته، ويُجَمِّلَ صناعته، ويُثَقِّفَ خَلْقَه. وليس كل الجوائز ذات صدقية. إنها أحيانا تخضع لحسابات معينة، ولمزاجية ما، ومحسوبية ربما، وللأسلاك الهاتفية، ما خلا بعضها الذي ذهب حقا إلى صاحبه أو صاحبته.
ولنا في جائزة البوكر للرواية العربية، أكبر مثال، وأسطع برهان، فقد تقدمت روايات، وتخلفت أخرى أمام دهشة القارئ المتلقي المتمكن، المُتَمَحص والذي لا يدري أي معيار من المعايير اعتمد، وتحكم في الاختيار بتفضيل هذا على ذاك، وهذه على تلك.
أما الجوائز المرصودة للشعر والشعراء، فهي قليلة بل ونادرة قياسا إلى الجوائز الممنوحة للروائيين. والذين فازوا بجوائز الشعر في العالم العربي، قلة – كما تعلم – ولكنهم – في غالبيتهم- جديرون بها، بالتتويج كشعراء انطلاقا مما راكموه، وانطلاقا من حضورهم المستمر والمتميز ككتاب، ومشاركين، ومساهمين في البحث الدائم والدؤوب عن شعرية عربية متميزة، شعرية لا تُزْري بالشعر العربي حين المقارنة والمقايسة بالشعريات الكونية الأخرى. لا، ليس كل الجوائز محفزة ودافعة إلى الكتابة والاستمرار فيها، بل هناك من الأدباء والشعراء من استنام لكسل وعسل الجائزة، فغاب عن المشهد الشعري والثقافي العام، واكتفى كما الديك ببيضة واحدة في عمره.
مشاريعكم الشعرية والنقدية القادمة؟
لي مجاميع شعرية منجزة “مكتملة” تنتظر الهواء والماء والضوء فقط. وهي أربع مجاميع أمامي تنظر إليَّ. واحدة منها هي قيد الطبع بدعم من وزارة الثقافة، سينشرها بيت الشعر في المغرب. وعنوانها هو: “في أبهاء الضوء والعتمة”، وهو عمل شعري أراهن عليه، لأنه في زعمي: إضافة نوعية إلى ريبرتواري الشعري، وتَخَطٍّ لكتاباتي السابقة و”تجاربي” الشعرية الأخرى. لقد تركته ينضج على نار شعرية ومعرفية هادئة إلى أن أصبح على ما هو عليه.
أضحى في – تقديري قمينا بالنشر والمتابعة. وللنقد كلمته الأولى والأخيرة فيه.
ولي في مجال النقد والرأي، كتب استوت على عودها، وتنتظر إشارة النشر مني أو من إحدى دور النشر، ويمكن أن أسمي واحدة منها: “الثقافة والمثقف في عالم معولم ومتحول”.
بِمَ تنصحون الشعراء الشباب في العالم العربي، وما انتظاراتكم من القصيدة الشبابية؟
إذا كان لي من نُصْحٍ للشعراء الشباب، شعراء القرن الحادي والعشرين، مع أنني أكره الموعظة والنصح، فهو أن يعملوا – كل حسب موهبة وقدراته وثقافته على تَظْهير القصيدة العربية المحدثة. تظهيرها بالتجويد، وجمع “القش” لها من هنا ومن هناك. لا بمعني تقليد من سبقوهم، فأولئك لا يصلحون إلا للاستئناس، والوقوف على “فتوحاتهم” الشعرية، و”فذاذتهم” الكتابية، بل بالحفر الذاتي، والبحث الشخصي عما يجعل سؤالهم الشعري جديدا إبداعيا، ومعرفيا، ومنخرطا في العصر، مستجيبا لتحولاته، وتطوراته، وكشوفاته في المجالات المختلفة والميادين المتعددة. إن هذا يتطلب الصبر والمجاهدة، والمدارسة المستمرة في أفق بناء شعرية قوية بديعة مختلفة ونوعية.
وذلك ما أنتظره من القصيدة الجديدة، أن تضخ دماءً جديدة في أوْتانِها، وشرايينها، وماء رقراقا في أعطافها ومفاصلها، ومساربها، ونارا لغوية مشبوبة تصهر في دخيلتها عناصر، ومكونات، وشرائط، ومقتضيات العصر التكنولوجي الذي شرع – منذ فترة- يأكل القيم والمثل العليا التي صنعت مجد الإنسانية، وآدميتها في أحقاب زمنية متفاوتة.
شباب القصيدة هو الأهم لا قصيدة الشباب. أقصد حيويتها وعنفوانها، وإشراقها وبهاءها، وتَشَرُّبَها لضوء وماء، وجديدِ ما تلده الحياة، وينتجه العقل البشري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.