قاض يعلق على الأحكام الصادرة في حق المتورطين في أحداث "جيل زد"    وزير النقل واللوجيستيك يترأس أشغال تقديم/تجريب نموذج السيارة الذكية    الملك يتمنى التوفيق لرئيس الكاميرون    النيابة العامة تؤكد ضمان المحاكمة العادلة في "جرائم التجمهرات" بالمغرب    الطالبي العلمي يستقبل رازا في الرباط    "حماس" تؤجل موعد تسليم جثة رهينة    "لبؤات U17" يغادرن مونديال الفتيات    واشنطن تُسرّع خطوات فتح قنصليتها في الداخلة قبل تصويت مجلس الأمن    صدمة في طنجة.. قاصر تُنهي حياة رضيعة داخل حضانة غير مرخصة    مسرح رياض السلطان يطلق برنامج نوفمبر 2025: شهر من التنوع الفني والثقافي بطنجة    اغتصاب وسرقة بالعنف يقودان إلى اعتقال أربعيني بسيدي البرنوصي    هل نأكل الورق بدل القمح؟ التويزي يكشف اختلالات خطيرة في منظومة الدعم بالمغرب    بمشاركة مغربية.. "مجلة الإيسيسكو" تحتفي بالهوية والسرد والذكاء الاصطناعي في عددها الرابع    فرق المعارضة بمجلس النواب .. مشروع قانون المالية يفتقد إلى الجرأة ولا يستجيب لتطلعات المواطنين    الأمن الوطني يحصي 32 وفاة و3157 إصابة وغرامات ب8.9 مليون درهم خلال أسبوع    الحكومة البريطانية تجدد التأكيد على دعمها لمخطط الحكم الذاتي    شهيد يرد على الأحرار: "تُشيطنون" المعارضة وتجهلون التاريخ وحقوق الإنسان والممارسة السياسية (فيديو)    بورصة الدار البيضاء تغلق على ارتفاع    ندوة فكرية بمراكش حول "مجموعة اليواقيت العصرية"، للمؤرخ والعلامة محمد ابن الموقت المراكشي    الصحراء المغربية على أعتاب لحظة الحسم الأممية... معركة دبلوماسية أخيرة تُكرّس تفوق المغرب وعزلة الجزائر    الفريق الاستقلالي: المناطق الجبلية تعاني التهميش.. والمؤشر الاجتماعي يعرقل تنزيل الورش الملكي    "الديربي البيضاوي".. الإثارة والتنافس يلتقيان في مركب محمد الخامس    توقيع اتفاقية برنامج "تدرج" بالدار البيضاء    لقاء أدبي بالرباط يحتفي برواية «أثر الطير» لثريا ماجدولين    سعيد بوكرامي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ابن خلدون سنغور للترجمة    لقاء أدبي مع لطيفة لبصير بتطوان احتفاء ب«طيف سبيبة»    العصبة الاحترافية تعلن تغيير موعد مباراة الوداد واتحاد طنجة    "أمازون" تستغني عن خدمات 14 ألف موظف وتتجه إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي    ريال مدريد يعلن خضوع كارفخال لعملية جراحية ناجحة    إغلاق نهائي لسجن عين برجة بسبب تدهور بنيانه وخطورته على النزلاء    11 قتيلا في تحطم طائرة صغيرة بكينيا    الاتحاد الإفريقي يدين "فظائع الفاشر"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مندوبية السجون تعلن الإغلاق النهائي لسجن عين برجة    مايكروسوفت: المغرب ثالث أكثر الدول الإفريقية تعرضا للهجمات السيبرانية    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية:أضواء على صفحات منسية من تاريخ الحركة الأدبية بالمغرب، من خلال سيرة الشاعر أحمد الزعيمي وديوانه المحقق..    صورٌ ومشاهد من غزة بعد إعلان انتهاء العدوان (8)    عبد الإله المجدوبي.. العرائشي الذي أعاد للذاكرة دفئها وللمكان روحه    فضيحة تحكيمية تهز كرة القدم التركية    قيوح: نعمل على اقتناء 168 قطارا جديدا بينها 18 قطارًا فائق السرعة    بدوان تحمل العلم الوطني في المرحلة 11 "سباق التناوب الرمزي المسيرة الخضراء"    تعديل الكربون.. آلية أوروبية تضع الشراكة مع المغرب في اختبار صعب    ميسي يتطلع للمشاركة في كأس العالم 2026 رغم مخاوف العمر واللياقة    صلاح وحكيمي ضمن ترشيحات "فيفبرو"    النمل يمارس التباعد الاجتماعي عند التعرض للأمراض والأوبئة    دراسة حديثة تحذر من مغبة القيادة في حالة الشعور بالإرهاق    إقبال متزايد على برنامج دعم السكن..    المغرب يتوفر على إمكانات "مهمة" للنهوض بفلاحة مستدامة (ممثل الفاو)    طنجة وتطوان تدخلان عصر النقل الذكي بعد استقبال 56 حافلة عصرية ضمن المرحلة الأولى    تقرير أممي يتهم أكثر من 60 دولة بينها المغرب بالمشاركة أو التواطؤ في إبادة غزة    أمن طنجة يوقف سائق عربة لنقل العمال دهس سائق دراجة نارية ولاذ بالفرار    مواد سامة وخطيرة تهدد سلامة مستعملي السجائر الإلكترونية    اكتشاف خطر جديد في السجائر الإلكترونية يهدد صحة الرئة    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في رحاب الفكر: السنَّة والإصلاح المستحيل 2/2
نشر في بيان اليوم يوم 04 - 08 - 2011


قراءة في كتاب عبد الله العروي «السنَّة والإصلاح»
الذاكرة والتاريخ
تساءل عبد الله العروي: «هل بإمكاننا التنصل كلية من الوعي بالتاريخ»؟ وأجاب «لا أحد في الماضي أو الحاضر استطاع أن يفعل ذلك؛ وهل في مقدور الحي ألا يتذكر؟ وأردف أن «الطريق مفتوح لمن يود التوبة إلى الذات، لمن يقرر ألا يخاطب أبداً إلا الفرد في الإنسان»[6].
تعمد أستاذنا الكبير، على ما يبدو، أن يربط بين الذاكرة والتاريخ، على نحو يجعلنا نعتقد أن «الوعي التاريخي»، لدى كل جماعة أو مجتمع، هو الذاكرة الجمعية، وأنه، من ثم، جزء لا يتجزأ من وعي الذات. بهذه العودة إلى الذات والذاتية، ينحل التاريخ في الذاكرة، ويكتسب معنى غير معناه المعروف لدى الفلاسفة والمؤرخين والعاملين في حقل التأريخ، ومنهم العروي نفسه. وغير معنى التاريخانية، الذي حاول العروي إرساءه، في الفكر العربي المعاصر، لمعانقة الكونية، وتمييز الخصوصية من الأصالة، لدحض الأوهام الذاتية، ولا سيما وهم الأصالة والاستمرار التاريخي اللذين يقوم عليهما المنهج التقليدي[7].
لنسجل مباشرة أن العروي يتراجع في هذا الكتاب عن المنطق وطابعه الكوني إلى الإبيستيميلوجيا، أي إلى قواعد التفكير لدى جماعة بعينها، هي العرب المسلمون، ويقيم تطابقاً بين العروبة والإسلام، ويخرج أهل الكتاب أو أهل الذمة من دائرة «الأمة»، على طريقة القوميين من العرب. المنطق حاكم على الإبيستيميلوجيا حكم العام على الخاص والكلي على الجزئي والكوني على المحلي. المنطق لا ينحل في مبادئ التفكير، لدى هذا الفرد أو ذاك، أو لدى هذه الجماعة أو تلك، بل هو النقطة | النقاط التي تتقاطع فيها الذات والموضوع، الذي لا قوام للذات من دونه، إن لم نقل هو وحدة العقل والعاقل والمعقول، بتعبير ابن عربي، الذي يبهر بموضوعيته بقدر ما يبهر بذاتيته.
هنا يحسن تمييز الذاكرة الفردية من الذاكرة الجمعية، ثم تمييز الذاكرة من التاريخ. السؤال المهم هو: كيف تتشكل الذاكرة؟ هل بالتبادل الداخلي والتبادل الخارجي، مع الوسط أو المحيط ومع العالم والكون، أعني التبادل الذهني | النفسي الذي لا ينفك عن التبادل المادي ولا ينفصل عنه. هل بهذه العملية الجدلية، المركبة من عنصرين مادي وفكري أو روحي، لا ينفك أحدهما عن الآخر، والتي يعبر عنها عمل القلب والرأس والجوارح، وينجدل فيها البيولوجي والنفسي والذهني والاجتماعي، حتى ليصعب الحكم في مسألة أيها هو الحاسم في تشكيلها؟ وكيف تتشكل الذاكرة الجمعية؟ هل بالتجربة المشتركة وفي خلالها وأثنائها، أم بالتربية والتعليم والتلقين والمسارَّة وتمثل الثقافة السائدة وإحياء تراث السلف، أم بإنتاج العادات والتقاليد والأعراف والشرائع والقيم وإعادة إنتاجها نظاماً عاماً، جماعياً أو اجتماعياً، يؤطر حياة الفرد أو يحيط بها من كل جانب، أم في سياق الدفاع عن الذات الجمعية والعمل على تحصينها، أم بفعل الانكسارات والهزائم أو الانتصارات والغنائم، أم بإنتاج السنة [8] وإعادة إنتاجها وتجديدها، وهذه تتضمن الافتراضات الأربعة الأخيرة، ولا تعنى بالتجربة المشتركة وملابسات الحياة العامة، بل تنزع منها كل هو ما عام ومشترك، وتعظِّم كل ما هو خاص وحصري؟ هنا يتبدى لنا الفرق والتعارض، لا بين الفردي والمجتمعي فحسب، بل بين الذاكرة والتاريخ، بين الوعي والوجود، بين السنة والتجربة الحية، أيضاً.
نفترض أن التجربة التاريخية المشتركة هي تجربة جماعة ينتمي أفرادها إلى أعراق مختلفة ويتكلمون لغات مختلفة ولهجات مختلفة، ويدينون بأديان ومذاهب مختلفة، وينتظمون في فئات اجتماعية مختلفة ..، لا ما يفترض (ذهنياً) أنها تجربة جماعة متجانسة ونقية، لا تتجاوز الحدود التي تعينها عبارة: «هذا النبي العربي ...». سنلاحظ على الفور الاختلاف والتشابه بين السنة والتجربة التاريخية المشتركة: السنة تتضمن الافتراضات الأربعة السابقة مجردة من كل ما هو عام ومشترك مع غير أهلها، أما التجربة المشتركة فتتضمن الافتراضات الأربعة اللاحقة، بجميع منطوياتها العامة والخاصة، وهو فرق جوهري أو نوعي، كما نظن. وهو ما يسوغ لنا معارضة السنة بالتجربة التاريخية المشتركة، ومعارضة الذاكرة بالتاريخ. فليس ثمة من فرد أو فردية خارج نطاق الجماعة والمجتمع.
«التوبة إلى الذات»، بما تعنيه من قراءة «كتابنا العزيز» بلا أي وساطة، ومحاكاة تجربة النبي محمد أو إحيائها وتحيينها، لا يمكن أن تجري إلا باستبعاد التاريخ، ولا سيما تاريخ الكتابة وتطور لغة العرب ورسم حروفها، وتطور الثقافة، فضلاً عن «أسباب النزول» والغزوات، وتعيين حقوق الأفراد والجماعات وتثبيت الأحكام الشرعية .. ولا يمكن أن تجري إلا بالتملص من أي حد موضوعي، (لقراءة الرسالة بالرسول)، والاستنجاد بالذاكرة المنقولة إلينا من جماعة «لم تعد تربطنا بها أي رابطة موضوعية»، أعني الجماعة التي صنعت شخصية النبي محمد جيلاً بعد جيل، ودونت سيرته، بعد أكثر من مئة سنة على وفاته، والذاكرة التي دونت «كتابنا العزيز» بعد أكثر من ثلاثين عاماً على «انقطاع الوحي».
لعل العروي قد تخلى، في كتابه «السنة والإصلاح»، عن التاريخانية الماركسية أو الماركسية التاريخانية، وبات أقرب، هذه المرة، إلى من يرفعون من شأن «التاريخ | الذاكرة» واللغة، ويعدونهما معاً أساساً لنشوء الأمم، وسنداً للخصوصية والتفرد أو التفوق. في حين يرى بعضهم أن النسيان أحد عوامل نشوء الأمم[9]، ولا تذكر بلا نسيان. وفي جميع الأحوال نحن نتذكر أقل بكثير مما نعرف، وأقل بكثير مما نختبر، ما يطرح علينا سؤال المعرفة وسؤال الخبرة، أو سؤال المعرفة | العمل، قبل سؤال الهوية. ولعل النسيان نوع من إعادة ترتيب الذاكرة وتشذيبها، لتمثُّل الحدث، والتكيُّف مع حركة الزمن، وتحقيق المنفعة، وكلما تحققت المنفعة يصير ما شُذِّب نسياً منسياً [10].
لا يسير أي مجتمع وفق مبادئ الحق والأخلاق المجردة، بل وفق مبدأ المنفعة، الذي يقرر، في نهاية التحليل، ما هو حق وعدل، وما هو ظلم وجور، وما هو خير وما هو شر. المجتمع مصدر جميع القيم، والطبيعة مصدر جميع الحقائق. ولعل التملك أو الملكية هو أو هي التعبير العملي عن المنفعة وعن الحرية. ومعروف، في التاريخ، أن الملكية، بدءاً من ملكية الفرد لنفسه، إلى ملكية الأرض والأدوات ووسائل الإنتاج، هي أساس الحق والحقوق، وأساس الحرية. ملكية الفرد لنفسه، لجسده، هي أساس حقوق الفرد وحريته، وأساس حقوق الإنسان والمواطن. على أساس الملكية يتحدد موقع الفرد في الجماعة والمجتمع، ولهذا التحديد أثر حاسم في تشكل الوعي الذاتي، وتشكيل الذاكرة.
اللغة والتاريخ كلاهما نتيجتان من نتائج الاجتماع البشري؛ ونشوء المجتمعات والأمم الحديثة خاصة لا يتوقف على اللغة والتاريخ، أكثر مما يتوقف على الذاكرة الجمعية والتجربة المشتركة بين جماعات مختلفة اجتماعياً وإثنياً ولغوياً ودينياً ومذهبياً، ناهيك عن الإرادة، بما هي وحدة الإرادة وموضوعها، وحدة من يريد وما يريده. ويجب أن نلاحظ أن الذاكرة الفردية والجماعية، على السواء، تتضمن النسيان، أو الحذف والاختزال والتأويل، لذلك لا نستطيع الجزم في مسألة أيهما أكثر تأثيراً في تشكل الجماعات والمجتمعات والدول: الذاكرة أم النسيان. ولكن، هل حللنا مسألة التاريخ، ومسالة الوعي التاريخي؟
من البديهي، والحال كذلك، أن الوعي بوجه عام، والوعي التاريخي بوجه خاص، ينتمي إلى دائرة الذاتية، في حين ينتمي التاريخ والتاريخانية إلى دائرة الموضوعية. فإن مخزون الذاكرة الجمعية، كمخزون الذاكرة الفردية، لا يتعلق بالحقيقة | الحقائق الموضوعية، بل بحقيقية الذات وشروط وجودها ونمط حياتها، وكيفية إدراكها لوجودها في الوجود، فردية كانت الذات أم جمعية. «فما من قول يصدر عنا إلا ويعبر عن هم ذاتي، أو بعبارة أدق: كل قول يقال لا يفهم إلا إذا نسخ في تجربة ذاتية ... فلا ينفلت من قبضة الذات إلا من غادر عالم النطق» (11). ولكن الموضوع هو أساس الذات؛ فما القول حين يكون الإسلام، أي إحياء تجربة النبي محمد وتقليدها، هو الموضوع أو حين تكون السنة هي الموضوع؟ ألا يغدو هذا الإسلام هوية المسلم، مثلما «السنة» هي هوية السنَّوي؟ وهل من فرق، سوى في التجربة الوجدانية الفردية أو المفردة، التي لا تقبل التعميم والتجريد؟ وعلى أي أساس تتعين علاقة الفرد بالمجتمع والدولة، اللذين يمنحان الفرد هويته الفعلية، وهذه نتاج عملية عقلية معقدة قوامها التفريد والتعميم والتجريد؟
«خارج حيز المجتمع كل شيء جائز، الأنا حر طليق». حيز المجتمع هو حيز الحياة العامة؛ خارج هذا الحيز كل شيء جائز، الأنا حر طليق، وعصي على التقنين والتقعيد وعصي على التعميم والتجريد. ولنلاحظ أن الحياة الفردية أو الخاصة أكثر غنى ورحابة، بما لا يقاس، من الحياة العامة، لأن مبدأها هو الحرية، مع الاختلاف، بل بسبب الاختلاف. ومن المعروف أن مبدأ الحياة العامة هو العرف الوضعي أو الشريعة العرفية (الدين الوضعي) أو القانون الوضعي، بحسب درجة تطور الجماعة المعنية والمجتمع المعني، من جماعة | جماعات طبيعية إلى مجتمع مدني، التطور الذي يُدرك، ويُفهم، بمنظور التاريخ، فقط، لا بمنظور الذاكرة. وإذ لا فرد ولا فردية، ولا ذات ولا ذاتية إلا في إطار المجتمع، فإن العلاقة بين الحياة الفردية الخاصة والحياة العامة لا يمكن تبينها إلا من خلال العلاقة الجدلية بين العشوائية والنظام، أو بين الحرية والقانون أو بين الخاص والعام.
لمعرفة أي مجتمع لا بد من معرفة تجربته الخاصة، وذاكرته الجمعية، ورأس ماله الرمزي، وما يتبناه من أفكار وتصورات وقيم؛ ولمعرفة نموه وتطوره واتجاه سيره، لا بد من معرفة تاريخه، على خلفية التاريخ الإنساني وفي سياقه. وهذان مجالان مختلفان من مجالات المعرفة وميادين العلم والعقل. أي علم من العلوم لا يكفي وحده لمعرفة أي شيء، ولا سيما حين يكون موضوع المعرفة هو الإنسان. سؤال الفلسفة يطرح نفسه من جديد، «تفكيراً في الزمن» وفي الإنسان، لكشف الروابط الضرورية بين الطبيعيات والأخلاقيات والجماليات وارتسامها في المعرفة والعمل. القول بموت الفلسفة وبقاء المنطق لا يؤدي إلى شيء إذا لم نعرِّف المنطق بأنه منطق الواقع ومنطق التاريخ، منطق النفي ونفي النفي، منطق الحياة والموت والتشكل والانحلال، وتحول ما هو موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، قبل أن يكون، ولكي يكون منطق الفكر، وإذا لم نعترف بأن علاقة الفرد بعالمه هي ما يحدد منطقه الذاتي، وإذا لم نعترف بأن عالم الإنسان هو الإنسان ذاته، هو المجتمع والدولة، في المكان والزمان. المنطق هو منطق الموضوع، لا منطق الذات، المعرفة بنت العمل، لا بنت التأمل. كون العقل هو عقل الكون، فهل ثمة من معرفة لدنية، كشفية، غير الحدس؟
الوعي هو الوجود مدركاً ومحولاً، ومحوراً، أو مؤولاً، في نفس الإنسان. وليس بوسع أحدنا أن يعرف، على وجه الدقة والضبط، كيف يتشكل الوعي الجمعي، والوعي الاجتماعي، وكيف يصيران إطاراً اجتماعياً ومجتمعياً لوعي الفرد، بمعزل عن التجربة | التجارب المشتركة. إذاً، الوعي إزاء الوجود، والفرد إزاء الجماعة والمجتمع، بوصفهما شكلين من أشكال وجوده، وجهان لإشكالية واحدة، هي إشكالية الاختلاف والوحدة: اختلاف أشكال الحياة الاجتماعية للفرد والجماعة ووحدة مضامينها. وإذا كنا لا نتحدث عن مفاهيم مجردة، فإن الوجود هو دوماً وجود معين، في المكان والزمان، في العالم، بما هو عالم الإنسان، وفي التاريخ، بما هو تاريخ العالم وتاريخ الإنسان، لا ذاكرة الفرد ولا الذاكرة الجمعية. التعارض، الذي يقيمه العروي بين الفلسفة واللافلسفة، أي السنة، ينحل في التعارض بين التاريخ الموضوعي والذاكرة الذاتية، ويطرح من جديد إشكالية الوعي الذاتي أو إشكالية الهوية، والقلق الملازم للفرد والجماعة حيال تأسيس الذات في العالم وفي التاريخ.
أما التاريخ، ظل الإنسان على الأرض، فهو عملية | عمليات تحويل وتحوُّل ما هو موجود بالقوة إلى موجود بالفعل، أي توقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى، في الزمان والمكان، أو تغيير أشكال العالم، بالعمل البشري فحسب؛ وهذه عملية | عمليات جدلية، ديالكتيكية، لا تني ولا تفتر ولا تتوقف ولا تنتهي ولا تكتمل. ولعل إحدى أهم إبداعات آدم سميث وكارل ماركس اكتشاف الطابع الاجتماعي والإنساني للعمل البشري، ولعملية الإنتاج، سواء في ذلك الإنتاج المادي والإنتاج الروحي. وليست التاريخانية سوى محاولة قراءة التاريخ، أو تأويله، بدلالة موضوعية الوقائع والظاهرات وقابليتها للتأويل والفهم والعقل، وبدلالة وحدة التاريخ البشري، ووحدة اتجاهه. ويكمن امتيازها في مبدئها أو نقطة انطلاقها، أعني كلية الإنسان وكونية العقل.
لا أحد يملك الحقيقة قبلياً، فيحدد ما يصلح وما لا يصلح لخير المجتمع وسعادته وتطوره ونموه. الحقيقة ينتجها المجتمع شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم، بالمناقشة والحوار، في خضم العمل والتنافس وتعارض المصالح والأهداف. الحقيقة تَنتُج وتصير وتتغير. الحقيقة هي الواقع، مفهوماً فهماً صحيحاً، بوصفه واقعاً جدلياً، تناقضياً واحتمالياً وإمكانياً ومتغيراً على الدوام. المصادفة، في الواقع، تضع القانون، والعشوائية تضع النظام، واللاتعين يضع التعين أعتقد أن التاريخانية، مفهومة على هذا النحو، تعيِّن الحدود الفارقة بين الذاكرة والتاريخ.
تحت مقولتي: الحاضر والوعي الذاتي، بما هو الوجود مدركاً على نحو ما، سواء في ذلك وعي الفرد أو وعي الجماعة، يمكن تلمس عملية | عمليات تشكُّل السنة وتجديدها، وتلمس أثر الذاكرة خاصة في تشويش الوعي، وفي التشويش على الزمن. السنة، أي سنة، ليست اللافلسفة فحسب، بل هي اللاتاريخ أيضاً، هي الذاكرة فقط. كل مذهب من المذاهب الجديدة، القومية والإسلامية والاشتراكية سنة جديدة أو تجديد للذاكرة. هذه «المذاهب القويمة» جعلت من الإنسان | الفرد مادة أو سماداً للسلطة، وموضوعاً لها، ووسيلة لغاياتها، تحت مقولات التضحية والفداء والشهادة. لقد قرأ العروي الأيديولوجية العربية المعاصرة بدلالة حضور «الغرب»، يجب إعادة قراءتها بدلالة غياب الإنسان | الفرد، أي بدلالة غياب الحرية. الفرد، في هذه المنطقة، «بين المحيط والسد»، لا يزال إما مطرقة وإما سنداناً، ولا يغير من هذه الحقيقة شيئاً إذا غلفناهما بالحرير.
في هذه المنطقة، «بين المحيط والسد»، من يعرف لا يتكلم، ومن يتكلم لا يعرف، بل يتذكر فحسب.
- عن موقع الأوان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.