هلال يحرج السفير الجزائري حول أسباب تواجده في كاراكاس    باحثون يعددون دور الدبلوماسية الأكاديمية في إسناد مغربية الصحراء    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    ارتفاع الودائع البنكية إلى 1.177,8 مليار درهم عند متم مارس الماضي    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    كأس العرش.. مولودية وجدة يضرب موعدًا لمواجهة الرجاء في النصف النهائي    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    شرطي يشهر سلاحه على سائق سيارة بطنجة والأمن يدخل على الخط ويوضح    ذكرى تأسيس الأمن الوطني.. 68 سنة من الحفاظ على النظام العام وحماية المواطنين    سفارة المغرب ببانكوك توضح بخصوص وضعية المغاربة المحتجزين بميانمار    انطلاق القافلة الثقافية والرياضية لفائدة نزلاء بعض المؤسسات السجنية بجهة طنجة تطوان الحسيمة من داخل السجن المحلي بواد لاو    مصرع شخصين في انقلاب شاحنة بتيفلت    القمة العربية بالمنامة.. السيد عزيز أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    مربو الماشية يؤكدون أن الزيادة في أثمنة الأضاحي حتمية ولا مفر منها    قافلة GO سياحة تحط رحالها بجهة العيون – الساقية الحمراء    وفاة الفنان أحمد بيرو، أحد رواد الطرب الغرناطي    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    لجنة ال24.. امحمد أبا يبرز دينامية التنمية الشاملة في الصحراء المغربية    طقس الخميس حار نسبيا مع تشكل سحب وكتل ضبابية    مطالب لوزارة التربية الوطنية بالتدخل لإنقاذ حياة أستاذ مضرب عن الطعام منذ 10 أيام    صعود أسعار النفط بفضل قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    رسالة اليمامة لقمة المنامة    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    "إف بي آي" يوقف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بالمطار ويحقق معه حول مواقفه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    نسخة جديدة من برنامج الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات الرياضية والتفاعل مع مشاعر البشر    هنية: إصرار إسرائيل على عملية رفح يضع المفاوضات في مصير مجهول    منتدى عربي أوروبي لمكافحة الكراهية    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    بروكسيل.. معرض متنقل يحتفي بمساهمة الجالية المغربية في المجتمع البلجيكي    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الأمم المتحدة تفتح التحقيق في مقتل أول موظف دولي    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و 2033    وزير النقل يعلن عن قرب إطلاق طلبات العروض لتوسيع مطارات طنجة ومراكش وأكادير    الأمثال العامية بتطوان... (599)    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    النقابة الوطنية للتعليم fdt وضوح وشجاعة لاستشراف المستقبل    إلزامية تحرير الجماعات الترابية من « أشرار السياسة »    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    الأمثال العامية بتطوان... (598)    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سليمان القانوني (المشرع) والتقيد بأحكام الشريعة بين ابن حجر الهيثمي وأبي السعود العمادي..؟
نشر في هسبريس يوم 05 - 01 - 2014


في ضوء تحقيق كتاب (أربعون حديثا في العدل) «6»
في كل حديث من هذه الأحاديث الجمعية تظهر قضية من القضايا الكبرى في عالمنا الإسلامي ولا يمكن استيعاب هذه القضايا الكثيرة والحديث عنها وقد صدق أحد المتتبعين لهذه الأحاديث عندما علق على حديث الجمعة الأخير ومتى عرف العالم الإسلامي الاستقرار؟.
إن عدم الاستقرار الذي نعيشه كان يمكن أن يكون باعثا على التفاؤل والأمل لو أنه كان منبعثا من ذاتنا ومن واقعنا.
وفي حديث اليوم نعرض لأهم ما وجه للسلطان سليمان القانوني من اتهامات وهو السلطان الأبرز في الدولة العثمانية وهي اتهامات كان لابد أن تثار لأن ما كان مطلوبا من مسؤول في مستواه لابد أن ينتظر منه الناس الكمال.
والاهتمام بهذا الأمر فيه جزء كبير من الاهتمام بالقضايا التي تهم العالم الإسلامي، ونظرا كذلك لتداخل العلاقات المغربية العثمانية في هذا العهد بقطع النظر عن نوع هذا التداخل، وفي الوقت الذي نتحدث فيه عن هذا السلطان تجري في بلده الأصل تركيا أحداث لعلها من أخطر ما تواجهه هذه الدولة التي كانت من مرحلة الفاتح والقانوني وعبد الحميد في عين العاصفة، وقد هيأ الغرب بعلمائه وفلاسفته مائة مشروع ومشروع للقضاء وإنهاء هذه الدولة وأثرها.
وبعد سبعين سنة من حكم الاستبداد الجمهوري تحاول تركيا الانعتاق واللحاق بالركب الديمقراطي، إلا أن المنافسة والصراعات الدولية ولعبة الأمم وتشابك الأحداث حول ما يجري في العالم الإسلامي والعربي والمسمى زورا بالربيع أراد كل ذلك أن يوقف هذا النموذج المزعج النموذج التركي في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في دائرة الخصوصية الإسلامية لتركيا، وبدأنا نقرأ عن نهاية النموذج التركي للإسلام السياسي ونهاية التاريخ والنموذج التركي وغير ذلك من العناوين.
وعلى أي حال فإن التاريخ هو الذي سيفصل بين الناس وهو شاهد عدل إذا وجد من يقرأ صفحاته بموضوعية وحياد.
*********
واقع متقلب
عندما تحاول استقراء حالة من حالات العلاقات المتشابكة بين الطرفين الفاعلين في الحياة العامة للعرب والمسلمين وهما أرباب السلطة والسلطان وأرباب الفقه والقلم والقرطاس تجد نفسك فيما يشبه البحر المتلاطم الأمواج حيث تتقاذفك الأحداث والحوادث والمواقف لكل من الطرفين، وذلك لكثرة التأويلات المختلفة الاتجاه بين مؤيد ومعارض وكل طرف من الأطراف تجده له مدخلات هنا وهناك، ونجد في نفس الوقت ترسانة من الأقوال والنصوص سواء كانت صحيحة أو غير ذلك، ولكنها في جميع الأحوال مؤثرة، وما ذاك إلا لكثرة المنازع والتوجهات الفكرية التي تنتمي في أغلبها إلى أصل من الأصول الواردة في سياق ما عرفته الفترة الأولى من انطلاق الدولة الإسلامية، وانطلاق الفتوحات وما تركته في نفوس بعض الناس الذين لم يلامس الإيمان الحق شغاف قلوبهم، مثل من قال فيهم القرآن «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا» فكثير ممن تظاهر بالإيمان والإسلام لم يلبث أن تصرف بواقع آخر هو الواقع الكامن والمستقر في أعماق وجدانه التاريخي والحضاري وبالمصطلح الإسلامي فإن الإسلام (لم يجب ما قبله) في نفسه من نزعات وأهواء.
الهوى المتبع
وهكذا انصرف جل الناس من هذا النوع لإيجاد ما يستند إليه من أصول نصية يرجعها بهذه الكيفية أو تلك أو بهذا الأسلوب أو ذاك إلى مرجعية لها مصداقية لدى الناس لأنها ليست مثارا للشكوك أو التوجس في نيتها وفي صدقها، وهذا ما حاولنا التنبيه إليه في هذه القراءة التي حاولنا من خلالها استكناه بعض ما جاء في هذه الدراسة القيمة والمتميزة التي قام بها محقق كتاب «أربعون حديثا في العدل».
سؤال وحيرة
وفي ختام هذه القراءة بقي سؤال طرحه علي أحد الأصدقاء المتابعين لهذه الأحاديث وهو يتعلق بسليمان القانوني، ويرى أن ما تناولناه في الحديث الأخير حول علاقة العلماء بأرباب السلطة والسلطان، ومكانة ابن حجر الهيثمي رحمه الله العلمية وما عرف به من صلاح، ومع ذلك فإن تقديمه لكتاب لهذا السلطان الذي عرف الناس الكثير من حياته حسب ما ظهر للكثير من المتتبعين (لمسلسل تركي) أرخ لحياة هذا السلطان بشكل يثير الكثير من التساؤل فهو رجل مشغول بالحريم وما يلزم ذلك من التفرغ للنزوات والشهوات، وأين الوقت لتصريف شؤون الدولة (الإمبراطورية) التي بلغت في عهده الأوج خمسة عشر مليونا من الأميال، والتي لم يتطلع سلطان بعده أن يبلغ شأوه ومكانته هكذا يقولون ويقول التاريخ، ولكن ما شاهدناه يؤكد عكس ذلك.
التاريخ الحق
وما كان لي إلا أن أجيب عن قناعة أن التاريخ الحق لا يؤخذ من المسلسلات ولا من الأفلام إذا كانت من قبل ذلك "المسلسل" الذي هو في حقيقة الأمر يهدف إلى تشويه حياة هذا الحاكم العثماني ومحاولة التأثير على الناس في داخل المجتمع التركي والعربي هذان المجتمعان اللذان أضحى لديهم صورة أخرى عن العهد العثماني بعد انحسار التيار القومي الذي ينعت العثمانيين ودولة الأتراك بالاستعمار، هذه المقولة التي حمل رايتها التيارات القومية لإضعاف التيارات الإسلامية، ولعل هذا ما دفع الحاكمين في تركيا الآن إلى رفع دعوى قضائية ضد المسلسل لأنه يشوه سمعة أحد الرجالات الأقوياء في الدولة العثمانية.
يترك للمختصين
ونحن في هذا الحديث لا علاقة لنا بهذه التمثيليات والخلفيات التي تحركها فهذا موضوع له ذووه وأصحابه من المؤرخين والنقاد السينمائيين ومؤلفي الروايات التمثيلية وكتاب السيناريوهات وبالجملة فالأمر متروك لذويه وأهله.
ونعود إلى الموضوع الأساس وهو ما هي حقيقة الرجل الذي قدم له ابن حجر كتابه بهذه المقدمة الرائعة وهل هذه الأوصاف مبالغ فيها والمعروف عن ابن حجر أنه مقاتل فكري من الطراز الرفيع تقول المقدمة:
وصف السلطان
«أما بعد، فيقول أضعف الورى وأحقر (الفقرا)، خادم الكتاب والسنة وعلومهما بحرم الله المعظم، وتجاه بيته المكرم، أحمد بن حجر، نزيل مكة المشرفة، (عفا) الله عنه: إن سلطاننا سلطان العالم بأسره، ومالك أزمة جميع الممالك بعدله وقهره، ومذيق سلاطينها الطغاة الهوان، حتى أحلهم الدرك الأسفل من قبضته وأسره، سليمان الزمان، والحادي عشر من ملوك بني عثمان، زين الله العالم بعدله، وأدام عليهم من سحائب جوده ووبله، لما كان رافعا لمراتب العلم والعلماء إلى الغاية القصوى، ومظهرا لكلمة الله العليا، ومبيدا لكلمة الكفر السفلى، بما لم يعهد مثله إلا في زمن الخلفاء الراشدين، والأئمة الهداة المهديين، وناصرا للشريعة الغراء، وسالكا لطريقة العدل المثلى، ومجتهدا في قصب سرادق الأمن والأمان، وممتثلا لنص أن الله يأمر بالعدل والإحسان، سيما في أهل الحرمين الشريفين المعظمين المنيفين، سيما في أهل مكة بلد الله وأمنه وحرمه، و(مظهرا) جوده ورضاه وكرمه، بما أولاه لأهلها من سوابغ الفضل والامتنان، وأتحفهم به دون سائر البلدان، سيما توليته عليهم شيخ مشايخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، وأوحد الزمان، وخليفة النعمان، ومحي ما أندس من معالم العلماء العاملين، ومآثر القضاة الصالحين، أبا صالح محي الدين، عبد القادر الحنفي، دامت على أهل بلد الله ولايته العادلة، وسيرته الكاملة، فإنه بهم بر رحيم، ولهم صراط مستقيم، لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ولا شائبة من شوائب باطل وإسراف، وكيف وهو لصالحيهم وعلمائهم العاملين كالوالد الشفوق على ولده، ولطغاتهم وسفهائهم السم (المواحي) المدحض لباطل كل منهم ولحسده، ومن ثم قال فيه بعض صالحيهم متمثلا بما بشر إلى حاله طالحيهم مع طالحيهم:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فلقد صدق في ذلك وبر، وأبان الحق لأهله وأظهر، ومن ثم لا زالوا مديمين صالح الدعاء لمولانا السلطان حول بيت الله ليلا ونهارا، وعشية وإبكارا، ليديم عليهم ولايته، ويعضده بما يقوي شوكته، ويؤيد دولته، حتى يقر الحق لأهله، ويبطل الباطل بثاقب نظره، وباهر عدله.
الغاية النصيحة
أحببت أن أخدم سدة مولانا السلطان العلية، وأن أتحف حضرته السنية، بأربعين حديثا من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، بأسانيدنا المتصلة المروية في فضل العدل الذي فاق به على سائر الملوك، وحاز بسببه أعلى درجات الصلاح والسلوك، ورقى بواسطته أقصى مراقي الفردوس الأعظم في جوار حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الأكرم، والحبيب الأفخم، وأن أظفر من بين علماء الزمان بأن أبشره بما أعد الله له بما اختصه به من مزايا العدل والإحسان، دون سلاطين العصر وما قبله منذ قرون وأزمان، لأكون بتلك البشارة ممن أطاع الله ورسوله وولي الأمر، وبذل له النصيحة، وفاز بالمثوبة والأجر، وها أنا أشرع في المقصود بعون الملك المعبود، مستعينا به ومتوكلا عليه ومفوضا سائر أمري إليه، إنه قريب مجيب، لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أنيب.
ملاحظات
هذه المقدمة التي نلاحظ من خلال قراءتها أن:
1 – ابن حجر قدم نفسه أنه خادم الكتاب والسنة وعلومهما.
2 – انه مجاور بمكة لهذه الغاية
3 – تم يصف السلطان بأوصاف التبجيل والعظمة
4 – أنه يرفع مكانة العلم والعلماء
5 – انتقاؤه لولاة صالحين للحرمين الشريفين
6 – وهو يريد من خلال الكتاب أن يخدم الحضرة السنية بأربعين حديثا من كلام نبينا عليه السلام ليكون ممن أطاع الله ورسوله وولي الأمر وبذل له النصيحة.
إن الأمر الأساس في نظري من خلال تقديم الكتاب هو بذل النصيحة امتثال لقوله عليه السلام الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
الأدب مع ولاة الأمر
هل السلطان سليمان القانوني كما وصفه ابن حجر؟
لاشك أن واجب التأدب في مخاطبة ولاة الأمر مما هو معروف عند المسلمين وما هو مطلوب مراعاته وهناك نقاش بين العلماء في موضوع في الاستجابة للأمر ومراعاة الأدب.
عود على بدء
ولاشك أن من يجيب عن كثير من الأسئلة المطروحة حول هذا السلطان الذي أصبح معروفا عندنا في المغرب وربما في العالم العربي كله بشكل كبير إذ كثير من الناس تتهافت ليلا يفوتها تتبع الحلقات بل هناك من سبق الزمان وسمعها وتتبعها حتى في لعبتها الأصلية التركية والأسئلة التي تطرح طرحها مؤرخون أتراك وأجابوا عنها.
حب الاطلاع
ومن باب الإطلاع على الواقع التاريخي لهذه المرحلة التي يعنيها كثيرا ما جرى فيها نظر لعلاقة الدولة السعدية وبعدها العلوية مع الأتراك العثمانيين.
وأول سؤال طرحه الباحثان (ذ. أحمد آق كوندز و د سعيد أوزتورك) في كتابهما الدولة العثمانية المجهولة 303 سؤال وجواب والذي صدر عن الوقف العثماني هو لماذا النسبة القانونية؟
التدوين
أولا: إن السبب الأول والأهم لإطلاق لقب القانوني على السلطان سليمان يعود إلى قيامه بتدوين القوانين التي وضعت في عهد السلطان محمد الفاتح وفي عهد بايزيد الثاني وفي عهد السلطان سليم، هذه القوانين التي وضعت من قبل السلاطين نتيجة قيامهم باستعمال ما خولته الشريعة الإسلامية لأولي الأمر من صلاحية محدودة في وضع القوانين وسنها، ومع أن هذه القوانين كانت مدونة في السابق، إلا أن السلطان سليمان كان أفضل من قام بتحريرها، لذا نرى أن القوانين التي قام بوضعها وتدوينها شكلت ثلاثة مجلدات ضمن "القوانين العثمانية" التي قمنا بنشرها والمؤلفة من "12" مجلدا، وشمل أكثر من مائتي قانونا منظما.
اقتباس القوانين
ثانيا: حصل انطباع عند بعض كبار العلماء المسلمين –والذي عبروا عنه بروح نكتة لطيفة- من أن السلطان سليمان جلب بعض القوانين من أوروبا، وأن هذا اللقب يعود إلى وضعه بإرادته بعض القوانين الأوروبية المخالفة لقوانين الشريعة الإسلامية، ونسارع بالقول بأن ما قاله الزنبيللي يعد لطيفة، ولكنها تحوي بعض الحقيقة أيضا وهي: إن السلطان سليمان القانوني لم يضع قوانين فيها مخالفة واضحة للشريعة الإسلامية، كل ما فعله أنه استنادا إلى فتاوى كبار الفقهاء وعلى رأسهم شيخ الإسلام أبو السعود أفندي، وإلى الصلاحية المحدودة التي تمنحها الشريعة الإسلامية لأولي الأمر وضع بعض القوانين المفتوحة للنقاش.
الراجح والمرجوح
يدافع الكاتبان عن اختيار القوانين على أساس اختيار المرجوح من الأقوال:
فكما هو معلوم ففي الإسلام هناك قول راجح وقول مرجوح، وقد اختار السلطان سليمان في بعض المواضيع واستنادا إلى قناعة علماء كبار ورأيهم، من أمثال أبي السعود أفندي، بعض الأقوال المرجوحة التي رآها أقرب للمصلحة حسب شروط وظروف عصره، فإذا كانت هذه القوانين لا تتعارض مع جوهر الشريعة الإسلامية فما هو الضرر من الاستفادة منها وهي تخدم الصالح العام.
نماذج من الاقتباس
ويعرض الباحثان بعض النماذج من اقتباسه للقوانين و ابتكارها
ومن ضمن المواضيع والمسائل التي يمكن مناقشتها موضوع الأراضي الأميرية، وكراء الأوقاف ذات الإجارتين لمدة غير محدودة، وبعض القوانين المتعلقة بأصحاب المهن التي اقتبسها من قوانين المهن الأوروبية، وهي قوانين لا تصادم قوانين الشريعة، ومؤسسة الامتيازات، والقوانين حول المزورين وحول الشاذين جنسيا وغيرهم من الذين يستمرون على اقتراف الجرائم التي تضر بالمجتمع، وإصدار عقوبة القتل بالتعزير في حقهم، ووجود أوقاف التخصيصات التي يطلق عليها اسم "الأوقاف الإرصادية"، و "المعاملة الشرعية" التي توهم من لا يعرف أصل المسألة وجود الربا في الدولة العثمانية.
مبادرة توقفت
إن ما قام به السلطان سليمان القانوني بعد سابقة كان يمكن البناء عليها ومسايرة الواقع المستجد في العالم ولكن الذي حصل هو ان هذه المبادرة لم يؤخذ بها في العالم الإسلامي وكل المحاولات في هذا الصدد باءت بالفشل.
«في جميع هذه المسائل استند السلطان سليمان على فتاوى علماء عصره، ولا يمكن القول بوجود مخالفة واضحة للشريعة الإسلامية في هذه القوانين، ولكن يجوز أنه أخذ بعض الآراء الضعيفة والأقوال المرجوحة من أجل الضرورة أو من أجل منفعة العامة. وقد يكون في عمله هذا –الذي استند فيه إلى فتاوى العلماء –مخالفة ضمنية لبعض أحكام الشريعة، لأن السلطان سليمان ليس معصوما عن الخطأ. ولا ننسى هنا أن نقول بأن التصرفات غير الشرعية في التطبيق العلمي –إن كانت موجودة- فيجب ألا تحمل على القوانين العثمانية» هكذا دافع المؤرخان عن السلطان في هذا الموضوع.
الحرص على الشريعة
السلطان يعبر عن الخوف من الله في مخالفة الأحكام الشرعية على النحو الذي يذكره المؤرخان في الفقرة التالية:
وعندما قام السلطان سليمان بكل هذا فإنه حاول بكل جهده عدم مخالفة الشريعة، ولكي يتخلص من المسؤولية المعنوية والدينية فقد أوصى قبيل وفاته أن تدفن معه فتاوى أبي السعود أفندي، والأهم من هذا أنه لم يقم بوضع القوانين التي سنت في عهده، بل قام الفقهاء وعلماء الإسلام في عصره، -من أمثال أبي السعود أفندي- بوضع هذه القوانين.
ويجب أن نذكر هنا بأن هذه القوانين التي تزيد عن مائتي قانون ليست كل القوانين العثمانية، بل ربما لا تشكل سوى 10% منها، أما 90% من القوانين التي كانت تشكل هيكل النظام القانوني في الدولة العثمانية فكانت من القوانين الشرعية الموجودة في كتب الفقه وكتب أحكام الشريعة الإسلامية، وكان هذا هو الوضع في عهد السلطان سليمان القانوني أيضا.
دولة القانون
ثالثا: من أسباب تقليب السلطان سليمان بالقانوني هو قيامه بتطبيق القوانين على الجميع بكل عدل ودون أي تمييز، والمادة الآتية الموجودة في قوانينه دليل جيد على ما نقول: "القاعدة الثابتة أن العقوبات الموضوعية للجرائم تكون عامة للجميع سواء أكان سباهيا "فارسا" أو من الرعايا، أو شريفا أو وضيعا أو دنيئا، فمن ارتكب أي جريمة من هذه الجرائم فإنه يلاقي العقوبة المنصوص عليها".
رسوم المحرمات
مما لاشك فيه أن أخذ الرسوم عن المواد المحرمة شرعا لا يزال منار نقاش في الدول الإسلامية التي تخضع فيها الميزانية للنقاش، وهو أمر حسم فيه سليمان القانوني قبل الآن ولا يزال السؤال مطروحا لم فعل ذلك؟ ولم الدول الإسلامية حتى الآن تفعل ذلك؟ يجيب الكاتبان عن هذا السؤال:
«- نرى وجود رسم "ضريبة" باسم رسم الخمر، وأحيانا رسم الخمارات في عهد سليمان القانوني وفي غيره من العهود، فهل كان بيع الخمر جائزا لكي تستوفي مثل هذه الرسوم؟ وهل صحيح ما قاله البعض من أن القانوني كان يشرب الخمر؟
شخص تقي
- كان السلطان سليمان القانوني شخصيا تقيا لا يقرب الخمر، وقد استغل هذا الموضوع دون معرفة الأحكام الإسلامية حوله، وأساس المسألة هو:
1 – حسب الشريعة الإسلامية فكل مسكر حرام وممنوع، وقد طبقت الدولة العثمانية هذا المنع بكل شدة، ولكن سمح بشرب الخمر لغير المسلمين تحت قيود وشروط معينة، لذا سمح في البلدان العثمانية ببيع الخمور وما شابهها وتناولها من قبل غير المسلمين ضمن الشروط الموضوعة في الشريعة الإسلامية، كما سمح داخل أراضي الدولة بفتح الخمارات التي يشرب فيها غير المسلمين الخمر ويلهون فيها. والشرط الوحيد في هذا هو أن لا يؤدي هذا إلى أي مضرة بالمسلمين، مثلا لا يباع الخمر ولا تفتح الخمارات إلا في الأحياء والمحلات التي تكون أكثريتها القاهرة من غير المسلمين، وقد كان هذا هو السر وراء وجود حارات وأحياء للمسلمين وأخرى لغير المسلمين.
الصرامة في مقاومة المحرمات
2 – كان الخمر الممنوع والمحرم على المسلمين، والمسموح –تحت شروط معينة- لغير المسلمين، وكذلك لحم الخنزير يعد مالا وبضاعة بالنسبة لغير المسلمين (لا تعد مثل هذه الأموال بضاعة وملا لدى المسلمين) تستوفي الدولة الإسلامية الرسوم عنها، وهذا موجود في الفقه الحنفي في الأخص، وقد استندت الدولة العثمانية إلى اجتهاد الإمام زفر في هذا الخصوص، فكانت تستوفي الرسوم والضرائب عن الخمور التي يصنعها غير المسلمين تحت اسم "رسم الخمر". واعتبارا من عام 999ه / 1591م أطلق "رسم زجرية" على الضرائب المستوفاة من الخمور، و "رسم الخنزير" أو "رسم الوحش" عن بيع الخنازير.
دائرة الاستيفاء والتحصيل
3 – كانت رسوم الخمر تستوفي من قبل دائرة مالية اسمها "أمانة مقاطعة الخمر"، وعندما علم السلطان سليمان القانوني أن بعض المسلمين بدأوا يرتادون هذه الخانات ويشربون الخمر أمر بإلغاء هذه الدائرة المالية ومنح إدخال الخمور إلى داخل أراضي الدولة العثمانية، ومنع صنعها كذلك، كما قام بسد جميع الخمارات والمقاهي بسبب شرب الخمر فيها ووقوع أعمال غير مشروعة فيها، ولكن هذا المنع رفع في عهد السلطان سليم الثاني وسمح مرة أخرى لغير المسلمين بشرب الخمر، كما ربطت الرسوم المستوفاة من الخمور على أسس جديدة في عهد السلطان سليم الثالث.
4 – إذن فقيام الدولة العثمانية باستفتاء الرسوم عن الخمور وتشكيلها دائرة رسمية تقوم بجمع هذه الضرائب، وسماحها لغير المسلمين بفتح الخمارات لا يعني أن المسلمين والسلطان سليمان القانوني –الذي حرم الخمر حتى على غير المسلمين- كانوا يشربون الخمر، فهذا ادعاء باطل من أساسه.
القدر والبصيرة
والأمر المثير للتساؤل كذلك هو قتل الأبناء في عهد هذا السلطان وكيف يمكن تبرير ذلك، لاشك أن الأبناء في حالة ذوي النفوذ والملك وفي حالات النبوات يكون الأمر فيها موضوع النقاش فمسألة نوح مع ابنه وإبراهيم مع أبيه ومحمد بن عبد الله مع عمه أبي طالب وهو في مقام أبيه هذه الأمور تقدر بقدرها وتناقش في سياقها وعن سليمان القانوني وابنيه يجب الكاتب:
القول المأثور الذي يذكر "إذا جاء القدر عميت البصيرة" ينطبق هنا أيضا، وليس من الصحيح إصدار حكم مستعجل، غير أنه لا مجال هنا لأي دفاع عن هذا الأمر أو تصويب له.
مؤامرات ودسائس
يستعرض الكاتبان الدسائس والمؤامرات التي كانت تحاك من طرف الحاشية لزحزحة الابن البكر مصطفى سليمان القانوني والدف توليه بايزيد وليس الأمير سليم، ولجأوا إلى اتهامه بالتتبع والسعي إلى نشر هذا المذهب في الأناضول وحيث بدأت الإشاعات بأن مصطفى سيقوم بالانقلاب وعلى إثر هذه الشائعات قامت شبكات الفساد بنقل أخبار إلى السلطان سليمان مفادها أن الأمير مصطفى يتصل سرا بشاه إيران، وأنه قد اتفق معه وسيتزوج من ابنته وسيقوم بانقلاب ضد والده السلطان!! وأقنعوه بهذا، مع أن القانوني عندما سمع بهذا الموضوع في المرة الأولى نهرهم وأجابهم جوابا قاسيا وقال: "حاشا! إن ابني مصطفى لا يتجرأ على مثل هذه الوقاحة، إن بعض المفسدين لكي يحققوا مآربهم لا يريدون أن تبقى السلطنة والملك له".
رسائل مزورة
ولكن الرسائل المزورة والدسائس الأخرى التي رتبت حول هذا الأمر أقنعته في الأخير بخيانة ابنه.
كان قتله بتهمة عصيانه للدولة، ولكن الأدلة كانت خاطئة، وكان الشهود ضده شهود زور. ومع أن إعدام الأمير مصطفى أدخل ضمن إطار قانوني وأقنع الناس بأدلة زائفة، إلا أنه أحدث بلبلة كبيرة داخل البلد، وحزن الأمير "جهانكير" كثيرا لمقتل أخيه ومات في العام نفسه كمدا وحزنا، وتضايق الجيش كثيرا وطالب بإلحاح هزل الصدر الأعظم رستم باشا، فقام السلطان بعزله مضطرا، لأن قسما كبيرا من الجيش بدأ يميل إلى الطرف الآخر، وأصبح الأمير مصطفى أسطورة لدى الشعب وبدأت كثير من المراثي تكتب من أجله، بل ظهر من ادعى أنه الأمير مصطفى "دوزمجه مصطفى" وجمع حوله الآلاف من الناس.
أبا يزيد
وقبل أن تهدأ هذه الأحداث قام "لاله مصطفى باشا" بدافع من مصلحته الشخصية بزرع الفتنة بين الأخوين الأميرين بايزيد وسليم، وكان الأمير بايزيد قد نقل عام 965ه/1558م من كوتاهيا واليا على "أماصيا"، ونقل الأمير سليم من "مغنيصا" واليا على سنجق "قونية". ونتيجة لبعض التحريضات لم يستمع الأمير بايزيد لهذا الفرمان مع الأسف. وعندما غلب في قونية أمام الجيش الذي سار إليه بأمر السلطان، التجأ إلى قزوين عاصمة إيران، وتحول إلى شخص عاص، وبعد قيام شاه إيران –نتيجة سماعه بعض الشائعات- بتسليم الابن العاصي إلى والده السلطان سليمان القانوني تم إعدامه هو مع أربعة من أبنائه في عام 970 ه/1562م. وكان شيخ الإسلام أبو السعود أفندي هو صاحب فتوى الإعدام، ولا يوجد ما يؤاخذ عليه في هذه الفتوى، أي أن إعدام الأمير بايزيد كان بسبب عصيانه للدولة، أي بسبب جريمة البغي.
والأبيات التي تم تبادلها بين الأمير بايزيد وبين والده السلطان تلخص حقيقة هذه المسألة ونقدم هنا رباعية واحدة من كليهما:
قال الأمير بايزيد في رباعيته وتحت الاسم المستعار "شاهي":
يا والدي السلطان سليمان! ... سلطان العام كله!
يا والدي الذي هو أحب إلي من نفسي!
أيطاوعك قلبك على إيذاء ابنك بايزيد؟
الله يعلم أني برئ.. يا ولدي السلطان
أجابه والده السلطان بشعر رباعي تحت اسم مستعار هو "محبي"
يا ولدي الذي كثيرا ما رفع راية العصيان والطغيان
ما كنت أود أن أعلق فرمانا على عنقك
أكان قلبي يطاوعني ضدك يا ولدي بايزيد؟
لا تقل إني برئ... تب على الأقل يا ولدي.
وهكذا يتضح كم هي السياسة رديئة وسيئة وكيف تلعب الدسائر والمكر لدفع الناس إلى ارتكاب أعمال لا تحمي تبعاتها التاريخية وإذا كان الشيخ أبو السعود في ورعه وعلمه أفتى بما أفتى به فلا غبار على السلطان وتبقى المسؤولية الشرعية على أبي السعود رحمه الله.
*أستاذ الفكر الإسلامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.