المعارضة تنسحب والأغلبية الحكومية تمرر "قانون مجلس الصحافة المشؤوم"    "مهزلة تشريعية".. صحافيون يتفضون ضد "القانون المشؤوم"    تعيين خليفة رئيس الجيش الليبي الذي توفي إثر تحطم طائرة    أول تعليق رسمي لباريس على قرار الجزائر تجريم الاستعمار الفرنسي    التوتر الفنزويلي الأمريكي يدفع إيران إلى الانسحاب من "مترو كراكاس"    "كان المغرب".. المنتخب الجزائري يقسو على السودان    ديربي عربي اليوم بين الجزائر والسودان في مستهل مشوارهما بالكان في المغرب    "كان المغرب".. برنامج باقي مباريات اليوم الأربعاء    تحذير جديد من سوء الأحوال الجوية بهذه المناطق المغربية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    مديرية الأرصاد الجوية بالمغرب: استمرار الأجواء غير المستقرة طيلة الأسبوع    بالملايين.. لائحة الأفلام المغربية المستفيدة من الدعم الحكومي    ندوة علمية بكلية الآداب بن مسيك تناقش فقه السيرة النبوية ورهانات الواقع المعاصر    كيف يمكنني تسلية طفلي في الإجازة بدون أعباء مالية إضافية؟    ماذا يحدث للجسم بعد التوقف عن حقن إنقاص الوزن؟    اتحاد طنجة لكرة القدم يتحدى العصبة الوطنية الاحترافية بعقد الجمع العام    ملتقى العيون للصحافة يعالج دور الإعلام في الدفاع عن الصحراء المغربية    الكاميرون ينتصر على الغابون في مباراة صعبة    ارتفاع مخزون سد عبد الكريم الخطابي بإقليم الحسيمة بعد التساقطات المطرية الأخيرة    السيول تسلب حياة شاب في الدريوش    المنتخب المغربي يركز على الجوانب التقنية قبل لقاء مالي في كأس إفريقيا    مسؤولية الجزائر لا غبار عليها في قضية طرد 45 ألف أسرة مغربية    ‬ال»كان‮«: ‬السياسة والاستيتيقا والمجتمع‮    أمطار وثلوج تنعش منطقة الريف وتبعث آمال موسم فلاحي واعد بعد سنوات من الجفاف    مخطط التخفيف من آثار موجة البرد يستهدف حوالي 833 ألف نسمة    وهبي: الحكومة امتثلت لملاحظات القضاء الدستوري في "المسطرة المدنية"    السلطة القضائية تنضم إلى PNDAI    "ريدوان": أحمل المغرب في قلبي أينما حللت وارتحلت    توقيف شخص بحوزته أقراص مهلوسة وكوكايين بنقطة المراقبة المرورية بطنجة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    كأس إفريقيا للأمم 2025 .. منتخب بوركينا فاسو يحقق فوزا مثيرا على غينيا الاستوائية    قضية البرلماني بولعيش بين الحكم القضائي وتسريب المعطيات الشخصية .. أسئلة مشروعة حول الخلفيات وحدود النشر        توفيق الحماني: بين الفن والفلسفة... تحقيق في تجربة مؤثرة    نص: عصافير محتجزة    شخص يزهق روح زوجته خنقا بطنجة‬    وزير الصحة يترأس الدورة الثانية للمجلس الإداري للوكالة المغربية للدم ومشتقاته    رباط النغم بين موسكو والرباط.. أكثر من 5 قارات تعزف على وتر واحد ختام يليق بمدينة تتنفس فنا    أطروحة دكتوراة عن أدب سناء الشعلان في جامعة الأزهر المصريّة    المغرب في المرتبة الثامنة إفريقيا ضمن فئة "الازدهار المنخفض"    رهبة الكون تسحق غرور البشر    الحكومة تصادق على مرسوم إعانة الأطفال اليتامى والمهملين    الأمطار لم توقّف الكرة .. مدرب تونس يُثني على ملاعب المغرب    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب تايوان    انفجار دموي يهز العاصمة الروسية    فرنسا تندد بحظر واشنطن منح تأشيرة دخول لمفوض أوروبي سابق على خلفية قانون الخدمات الرقمية    عجز ميزانية المغرب يقترب من 72 مليار درهم نهاية نونبر 2025    "الهيلولة".. موسم حجّ يهود العالم إلى ضريح "دافيد بن باروخ" في ضواحي تارودانت    الذهب يسجل مستوى قياسيا جديدا متجاوزا 4500 دولار للأونصة    كأس أمم إفريقيا 2025.. بنك المغرب يصدر قطعة نقدية تذكارية فضية من فئة 250 درهما ويطرح للتداول ورقة بنكية تذكارية من فئة 100 درهم    عاصفة قوية تضرب كاليفورنيا وتتسبب في إجلاء المئات    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها        الولايات المتحدة توافق على أول نسخة أقراص من علاج رائج لإنقاص الوزن    دراسة: ضوء النهار الطبيعي يساعد في ضبط مستويات الغلوكوز في الدم لدى مرضى السكري    دراسة صينية: تناول الجبن والقشدة يقلل من خطر الإصابة بالخرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة التكفير 2
نشر في هسبريس يوم 01 - 02 - 2014

يُعبِّر الحوار القائم في بلادنا على وجود حد أدنى من النضج لدى المغاربة، سمح لكل واحد منهم أن يعبر بدرجة مهمة من الحرية عن آرائه وأفكاره ومعتقداته، وربما أهوائه وحماقاته. ونعتقد أن هذا الحوار، الذي جنبنا إلى اليوم الانتقال من الكلمات والأفكار والعلوم وأدوات الحضارة؛ إلى الصراعات الوحشية، التي تستعمل فيها القرون والأظافر والمخالب والأجساد ومختلف الأسلحة الفتاكة التي ابتكرها الإنسان المتوحش؛ قادر على تطويرنا لنرتقي إلى درجات أعلى من النضج، ومراتب أحسن في الإنسانية والقيم؛ فتُشرح صدورنا للمخالفين، وتُفتح آذاننا لسماع ما يقولون والإنصات لهم، وتزول عن أعيننا الغشاوة لنرى ما كنا إلى الأمس القريب نمرُّ عليه بالليل والنهار لكننا لا نبصره؛ ونخرج قلوبنا من أكنتها لتبحث عن الحكمة والحق في أقوال مخالفينا، فنقبلها ونتبع أحسن ما جاء فيها، وإن خالفت ما وجدنا عليه آباءنا.
من هذا المنطلق أطلب من السادة القراء الأفاضل أن يحافظوا على مسافة البعد المطلوبة بينهم وبين ما يقرأون، حتى لا يجعلوا من أنفسهم خصما أو دفاعا وحكما في نفس الوقت.
هناك خلط كبير عند كثير من الناس بين ورود صفة الكفر في القرآن أو غيره من التراث الديني، وبين حق تكفير الناس في المجتمع، على أساس أنهم يكفرون من كفره الله ورسوله.
ولبيان هذا الخلط وإزالته سنتدارس بعض النصوص القرآنية التي نصت على كفر بعض الأعمال والأقوال، ونرى هل من حق الناس أن يكفروا غيرهم بناء عليها؟ وسنختار منها أكثرها مباشرة للموضوع، وهي كفر "القول بألوهية المسيح" و"القول بالتثليث"؛ وقد وردت ثلاث مرات في سورة واحدة هي سورة المائدة.
سأعرض النصوص كما وردت في سياقاتها، ونتأملها جميعا.
قال تعالى:
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير." المائدة (17)
وقال عز وجل:
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار"- المائدة (72)
وقال سبحانه:
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "(74) المائدة
الملاحظ أن القرآن الكريم قد نص في المواضع الثلاث بصيغة واحدة، على أن القائلين بالتثليث وألوهية السيد المسيح قد كفروا. فهل يبيح هذا التنصيص القرآني على كفر القائل بهذا القول، للمسلمين أيا كانوا، أن يتوجهوا إلى أشخاص بأعينهم أو جماعات أو مؤسسات مسيحية بالتكفير؟ هذا ما نود شرحه في هذا المقال:
فأما بالنسبة للآية الأولى، ففيها توجيه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يبين له أن هذا القول كفر، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ" ، لكن الجواب عليه ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن: "قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ." إن المطلوب من محمد صلى الله عليه وسلم ومن المقتدين به، هو تفهيم هؤلاء القائلين بهذا القول العظيم خطأهم في الدين، بالتي هي أحسن، بالعقل والمنطق، وبيان أن السيد المسيح ليس إلها؛ وإنما الله هو الذي لا يملك أحد منه شيئا إن أراد يهلك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا، لأنه هو وحده المالك والخالق والقدير، وهو ما يسقط أن يكون السيد المسيح إلها مع الله الواحد الأحد.
نعم القول بألوهية المسيح كفر، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بتكفير هؤلاء القائلين بذلك، ولا بالحكم عليهم بالخزي في الدنيا ولا العذاب في الآخرة؛ وإنما أُمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن وبيان أخطائهم حتى يتوبوا منها ويرجعون إلى الصواب. وهذا مبلغ مهمته عليه السلام، إن عليه إلا البلاغ، وعلى الله الحساب عندما يرجع إليه العباد في يوم الحساب، ولله حينها أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، ولا دخل لبشر في حكمه سبحانه على عباده يوم العرض عليه في الآخرة؛ كما لا يحق لهم التدخل في اختيار عباده لإيمانهم ومعتقداتهم، لأنه لا معنى للإيمان في ظل الإلزام والإجبار والإكراه: أنلزمكموها وأنتم لها كارهون/ لا إكراه في الدين.
وأما بالنسبة للآية الثانية، ففيها توجيه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كذلك، يبين له أن القول بألوهية المسيح كفر " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"؛ لكن الجواب الذي قدمته هذه الآية كان من كلام المسيح نفسه: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار)- المائدة (72)
إنه جدل بالتي هي أحسن، ليس فيه تكفير ولا سباب ولا أي شيء لا يليق؛ وإنما هو بيان حقيقة، ليس في الشخص (الكافر)، وإنما في القول الذي قاله (لقد كفر الذين قالوا)، إنه قول يخالف تعاليم السيد المسيح كذلك، الذي أمر بني إسرائيل أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، ومن يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. ويمكن في إطار المجادلة بالتي هي أحسن بين المسلمين والمسيحيين الإتيان بنصوص عديدة من الإنجيل تبين هذه الحقيقة، وتعرض على المجادل المسيحي، تبين له مخالفته في قوله ذلك، للإنجيل الذي يؤمن به، وللسيد المسيح الذي يجلّه؛ وحينها تكون قد أقمت عليه الحجة، وله الاختيار والقرار بعد ذلك، وتكون أنت قد أنهيت مهمة البلاغ، وأما الحساب فلله رب العالمين، وهو أعلم بعباده، وهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وتستمر العلاقة بين المسلم والمسيحي كما هي رغم هذا الجدل، بالحسنى والمعروف والبر والقسط والتعاون والرحمة والإنسانية: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا على إخراجكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين".
يلاحظ في النص الأول أن الجدل كان عقلانيا استشهد فيه النبي بألوهية الله الواحد وملكه المطلق وقدرته الخارقة، وهو الذي له أن يهلك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا؛ وفي النص الثاني هناك استشهاد نصي بكلام السيد المسيح نفسه، وكثير منه يوجد إلى الآن في الأناجيل المعتمدة.
أما بالنسبة للآية الثالثة، فعالجت هي الأخرى نفس الموضوع لكن بوصف القول بالتثليث بالكفر، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ"؛ لكن الجواب كان كذلك بالتي هي أحسن، إذ فيه بيان حقيقة التوحيد " وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ" وفيه إنذار بالمصير المؤلم في الآخرة إذا لم يتخلى القائلون بهذا القول عن أقوالهم: "وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ –" المائدة (73)
ثم ختمت هذه الآيات بأن حفزت القائلين بهذه الأقوال على التوبة والاستغفار من أقوالهم: "أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} - المائدة (74)
هذه هي طريقة القرآن في الحديث عن أعمال الكفر وأقواله، وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال الإيمان وأقواله، إنه كلام الله العليم بكل شيء.
أما التكفير الذي نتحدث عنه، والذي يقوم به بعض الناس دون أن يكلفهم به رب العباد؛ فهو تسلط على حق الله، وتحدث باسمه سبحانه من غير سلطان آتاهم؛ وتجاوز للحدود التي رسمها الله لرسله وأنبيائه والتي هي البلاغ المبين؛ إلى السيطرة والإلزام والإكراه والمحاسبة والرقابة والوكالة والتجبر والحفظ، وما نص القرآن الكريم على أنه لا يجوز لبشر على بشر بما فيهم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
لقد سمح التكفير لأصحابه، بناء على مثل هذه الآيات أن يكفروا كل الأديان الأخرى، يهودية ونصرانية وغيرها ويبطلوا كل شيء فيها؛ وحرمنا هذا التكفير من الاطلاع على النور والهدى الذي لا يزال في التوراة والإنجيل وكلام الأنبياء المرسلين، والذي صدقه القرآن، وأمرنا بتذكره في الكتاب السابق، عند باقي الأمم. وسمح التكفير لأصحابه أن يحجروا النص القرآني نفسه، على فهوم تنتمي إلى زمن الحروب والصراعات؛ فرفعوا شعار آية السيف، وجعلوها الأصل، وأبطلوا ما خالفها من نصوص وآيات قرآنية، تمنع الإكراه وتوجب العدل وتأمر بالرحمة والإحسان وتستحضر القيم الإنسانية المغيبة، بعلوم ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان؛ حرّفوا بها القرآن، وعلى رأسها الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه؛ واختلفوا فيها ما شاء الله لهم في كل التفاصيل؛ لكنهم اتفقوا على شيء واحد، هو إبطال كلام الله المجيد ونسخ أحكامه وتأويلها، من أجل إثبات كل منهم لرواياته وروايات شيوخه وأئمته؛ وجعلوا تلك التفسيرات التاريخية حاكمة على القرآن المجيد وعلى التاريخ والحكمة والعقل البشري، وقاضية عليه بأن يجمد في تلك الأزمنة الماضية، ولحساب طوائفهم المذهبية الضيقة، فحرموا البشرية جمعاء من رحمة القرآن وإنسانية القرآن وعالمية القرآن.
أعتقد أن زمن التكفير قد ولى، وينبغي أن تُولِّي معه كل منظومته المحنطة، الميتة والمميتة؛ وأعتقد أنه قد جاء زمن استرداد قرآننا العظيم ونصوصه الكريمة وآياته الحكيمة؛ التي تؤصل للأخوة الإنسانية أولا، والحريات الدينية وغيرها ثانيا، والمقاصد الإنسانية الكبرى من تعارف وتعايش وتعاون وتعاقد ورحمة وعدالة ورفاهية، وحوار بالحسنى وجدال بالتي هي أحسن وقول وعمل بالأحسن.
علينا أن نسترد قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقوله سبحانه، "لا إكراه في الدين"، وقوله: "ولا تسبوا الذين كفروا فيسبوا الله عدوا بغير علم" وقوله تعالى: "ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" وقوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وقوله عز من قائل: " أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
لا أريد أن أطيل كثيرا في بيان الفرق بين وصف القرآن للكفر، وبين حق التكفير الذي تسلط به المكفرون على الناس، فجعلوا من أنفسهم آلهة على عباده بغير حق. وسأختم بشهادة السيد المسيح يوم القيامة، على هؤلاء الذين كفرهم المكفرون، عندما يسأله الله عنهم يوم القيامة، وسيكون جوابه درسا للذين يتخذون بالفعل من الأنبياء قدوة لهم، وأرجو منهم أن يستمعوا وينصتوا إلى هذه الآيات لعلهم يرحمون.
قال تعالى:
"وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" - المائدة (116)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} - المائدة (117) {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} - المائدة (118)
إن الله هو الذي يحكم بين العباد، إن يعذبهم فهم عباده وإن يغفر لهم فهو الغفور الرحيم. لا شأن للناس بغيرهم من الناس ولو كانوا أنبياء، ولو نصت الكتب المقدسة والقرآن الكريم على أن أعمالهم وأقوالهم كفر أو غيره. وليس من حق البشر سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو مؤسسات، سواء كانوا شعبيين أو رسميين، أن يتدخلوا في إيمان الناس وكفرهم إلا في حدود الكلمة الطيبة والجدال بالتي هي أحسن والدعوة بالحسنى، ولمحاوريهم أن يتخذوا القرار الذي يليق بهم بعد ذلك من كفر وإيمان، تحت شعار "لا إكراه في الدين".
إن الخلاصة التي ينبغي أن يدركها المكفر أنه لا حق له في تكفير أحد، وإن نصت الشرائع على أن قوله أو فعله كفر؛ بل ولا يحق له أن يسبه أو يقذفه أو يحرمه من حقوقه الإنسانية الطبيعية، ومنها إعلان كفره ومخالفته للآراء والأفكار والعقائد التي يذهب إليه المكفر وقبيلته وجماعته؛ لأن له الحق في العيش الكريم في المجتمع المسلم، الذي من أهم آياته اختلاف ألوان الناس وألسنتهم وأفكارهم وعقائدهم وأديانهم، وضمان حرياتهم في إطار هذا الاختلاف، ما داموا مجتمعين في إطار كلمة سواء بينهم، تعاقدوا عليها، تضمن حقوقهم جميعا وحرياتهم جميعا، وعلى رأسها حرية التفكير وحرية التعبير وحرية المعتقد. وأن التكفير جريمة ضد الناس وضد الشرع وضد الإنسانية، وقبل أن يحكم المكفر على الناس ينبغي له أن يحصل على شهادة تزكية من الله، وليس من قبيلته أو جماعته أو مؤسسته؛ وذلك ما لا يستطيع أحد ادعاءه، ومن ادعاه فقد خالف أمر الله، لأنه سبحانه نهى الناس عن تزكية أنفسهم: "ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.