رغم أن التعددية الحزبية تُعد من أبرز مقومات النظام الديمقراطي، وتوفّر نظريًا فضاءً سياسيًا رحبًا للتعبير عن التنوع الفكري والاجتماعي، إلا أن الواقع السياسي المغربي يطرح سؤالًا ملحًّا حول جدوى استمرار أحزاب "ميكروسكوبية" لا يتجاوز حضورها الطابع الاسمي، دون أن تترك أثرًا ملموسًا في البناء الديمقراطي أو في تأطير المواطنين. منذ عقود، تتكاثر هذه الكيانات الهامشية دون أن تُحدث اختراقًا فعليًا في المجتمع أو في المؤسسات. لذلك، لم يكن مفاجئًا أن تُوصَف من قِبل فئات واسعة من الرأي العام ب"الدكاكين السياسية"، بالنظر إلى نشاطها الموسمي الذي يقتصر على فترات الانتخابات، قبل أن تعود إلى سباتها التنظيمي المعتاد. المأزق لا يتعلق فقط بحجم هذه الأحزاب، بل ببنيتها الهشة: غياب الامتداد الشعبي، ضعف التنظيم الداخلي، تواضع الكفاءات، والعجز البيّن عن صياغة برامج سياسية واقعية. وفي كثير من الحالات، تتحول هذه الكيانات إلى منصات ظرفية لتوزيع التزكيات أو عقد تحالفات انتهازية، دون أن تمتلك هوية فكرية مستقلة أو قاعدة اجتماعية متجذّرة. وتتعمّق الأزمة حين تستفيد هذه "الأحزاب الميكروسكوبية" من التمويل العمومي دون مقابل فعلي في الميدان. فتتحول التعددية، التي يُفترض أن تعبّر عن حيوية سياسية، إلى حالة من التشويش المؤسساتي، تعيق بروز قوى حزبية فاعلة ومتماسكة قادرة على تمثيل المواطنين والدفاع عن مصالحهم. الاختلال لا يتوقف عند الحجم أو غياب الرؤية، بل يمتد إلى مشاهد حزبية مألوفة: بلاغات إنشائية، مؤتمرات تُنظّم لتصفية حسابات داخلية، وصراعات على الزعامة لا تتجاوز في جوهرها التنافس على المواقع الشخصية، فيما يغيب الفعل السياسي الحقيقي. وهكذا، تتحوّل بعض هذه "الدكاكين" إلى نماذج مكرورة للشلل التنظيمي، تُعيد إنتاج نفسها عند كل محطة انتخابية دون مضمون جديد. وفي هذا المناخ، تتسع الهوة بين الشباب والعمل الحزبي. وتشير معطيات رسمية إلى أن 70% من الشباب المغربي لا يثقون في السياسة، و5% فقط يؤمنون بجدوى الانخراط الحزبي، بينما لا يتجاوز المنخرطون فعليًا 1%. مؤشرات تكشف أزمة ثقة متفاقمة تضرب بنية التمثيل السياسي، وتُنذر بمخاطر تمسّ قاعدة الديمقراطية التشاركية. الجواب لا يكمن في تقليص عدد الأحزاب بطريقة آلية، بل في إعادة هيكلة الحقل الحزبي برمّته: مراجعة شروط التأسيس، فرض معايير واضحة للتمثيلية، تدقيق طرق صرف الدعم العمومي، وربط شرعية أي تنظيم سياسي بمدى قدرته على التأطير والمساهمة في النقاش العمومي، لا بمجرد التوفر على وصل قانوني. في غياب ذلك، تصبح التعددية السياسية مجرّد غلاف شكلي لممارسة جوفاء، وتتحوّل الأحزاب من أدوات للتعبئة والمشاركة إلى كيانات انتهازية فارغة، تعيش في الظل وتنتعش فقط في لحظة الاقتراع... بلا أثر، وبلا معنى.