السمو والترقي المعرفي لدى المفكر الباكستاني مالك منصور تتحدى خوارزميات الدماغ الرقمي أكبر مشكلات العصر الإنساني والكوني على الإطلاق. ولم يعد مستعصيًا على مديات وآفاق هذا البديل الصّنعي الخارق أن يمدّ صانعيه بحوافز واختيارات أخلاقية ونفسية للتكيف مع تحولات بنى القطائع والتشكلات الجديدة لأسئلة الوجود وانتظاراتها الكبرى. ينظر المفكر والسوسيولوجي الباكستاني/الإنجليزي مالك منصور إلى هذه الزاوية الدقيقة من منطلق الاشتغال على أبعاد مثالية، مرتبطة بعالم الروحانيات من الأخلاق والمشاعر البشرية، مثيرًا أسئلة قلقة حول تحديات سلطة الدماغ الرقمي واقتراباته في منظومة التطور المتسارع لحقل المعلوميات وتكنولوجيا التحول الرقمي، متوسّلًا الإجابة عن استفهامات استراتيجية من بينها: هل سيتمكن الدماغ الرقمي من استيعاب الأخلاق والمشاعر الإنسانية؟ هل سيجعل الاعتماد الكامل على الآلات الإنسان ضعيفًا وعاجزًا؟ هل ستتأثر قيمنا الاجتماعية وجوانبنا الروحية سلبًا؟ إن احتضان الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية بطريقة إيجابية يمكن أن يسهم فعليًّا في بناء وحدة فكرية وثقافية من أجل تسخير التكنولوجيا لخدمة الإنسانية، وهو أمر يتوقف على مواءمة التجربة العلمية وتوقعاتها المستقبلية ومواكبتها لأحدث الصرعات التكنولوجية في مختلف مجالات وحقول المعرفة. فليس كافيًا أن تتحدد هذه الثورة فقط في ملامسة قطاع دون إكمال فورة التمدد في القطاعات الموازية. إذ يمثل التعليم والصحة والعدالة أسس بناء الباراديغم الرقمي الذي يمكن أن تقوم على قواعده الصلبة مشاريع النهضة والتنمية. على أن هذه القطاعات تستمر في توسيع أدوارها ووظائفها في باقي الحيوات الخدمية والإدارية والاستشرافية على نطاق شامل، مما يكسبها الفعالية والصيرورة والتفوق. يركّز المفكر مالك منصور على البعد الروحي إلى جانب المادي في منظومة رقمنة الثقافة وقطاعاتها المختلفة، راصدًا آثارها وخوالفها التاريخية والسوسيولوجية، ومستحضرًا أبعادها الفكرية والتربوية في روح الأمة وائتماناتها اللامحدودة، والتي راهنت طيلة أربعة عشر قرنًا على تفوقها الأخلاقي وبناءاتها الزاخرة بالدروس والنجاحات. ويرى أن مسؤوليتنا الحقيقية بالرؤية وبذل الجهد رهينة بضمان استخدامهما لا في المصلحة المادية فقط، بل أيضاً في خدمة البشرية، وإحياء الروح، وتحقيق الخير الجماعي. ولن يتأتى ذلك، يؤكد منصور، دون امتلاء روحاني يجعل من العيش بالسعادة الرمزية المصطفاة نذرًا بصيريًّا نابعًا من عمق محاورتنا للتراث وقابلياته المؤثثة بالتنوع والزخم والامتلاء القيمي، وانفتاحه على علوم العصر والحداثة منهجًا وسلوكًا. وهو ما وصفه في إحدى دراساته ب"العلم الحديث الذي ينسجم مع القيم الروحية، من أجل صناعة المستقبل، الذي تكون فيه المعرفة ضابطًا انتقاليًّا لمحبة التفوق والمراهنة على التكنولوجيا الخادمة للإنسانية، المبدعة لآفاق تميُّزه عن كل الكائنات الأخرى..". إنه، وبموازاة هذا التشابك، يستبق مفكرنا السيناريوهات المستقبلية المتباعدة، حاسمًا راهنية اختيار التموقع ضمن هذه الفرضية الفارقة: عصر ذهبي أم إقطاع رقمي؟ وعلى اعتبار وجود تحولات اقتصادية واجتماعية متعالية، فإن منصور يعتبر الذكاء الاصطناعي العام في آنٍ واحدٍ عاملًا ورأسمالًا لا محيد عنه. وإن بقيت هذه التكنولوجيا محتكرة لدى سلط سياسية واقتصادية عولمية، تدفع اللاعبين الرئيسيين إلى انتهاج ما أسماه ب"الإقطاع التكنولوجي" أو Techno-Feudalism، وذلك من أجل تحقيق بدائل أخلاقية مؤطرة بخلفيات "توزيع عائدات ذكاء اصطناعي" مرهونة تحت نظم تتحدر من خلفيات أيديولوجية وسياسية ذات مخاطر وجودية دقيقة. ورغم تمكُّن أنظمة الذكاء الاصطناعي من مرحلة التحسن الذاتي السريع (Singularity)، يضيف المفكر منصور، قد تتجاوز فهم البشر وسيطرتهم، وتأثيرات ذلك على خطر بقاء الإنسان بنسب متفاوتة، حددها بعض العلماء في 10 بالمائة، فإن استخدام التقنيات بتوجيه أخلاقي عالمي سيمكن من حل بعض مشكلات الجوع والفقر والبيئة مثلاً، على أن يتم التوصل إلى حلول استشرافية ناجعة تخص مجالات التسلح والبيئة والاستغلال البشع والاحتكاري للموارد الطبيعية، ومشكلاتها الاستراتيجية الحاسمة، بالإضافة إلى ترميم انهيارات العلاقات الأممية الخاضعة للتمزق وسلطة الفيتو والقوة العسكرية والاستعمار الجديد تحت يافطة الاستغلال والنفوذ الشططي والاستبدادي القاهر. ولا يبدو أن أحدًا يُفاجَأ بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والعلائقية التي تُزعزع أنماط حياتنا وسط كل هذه الفوضى والخلافات العالمية المتدافعة، حيث تغزو التقنيات الرقمية، التي تزداد كفاءتها وسرعتها وفقًا لقانون مور، جميع قطاعات النشاط البشري، بمختلف أجيالها التكنولوجية، لكن الأهم هو فهم هذه التحولات الاجتماعية الجديدة التي تطرأ على السلوكيات الفردية والجماعية، ونهج العلاقات الإنسانية، مع تأويلها بشكل يحافظ على التوجهات العامة لعصر الحداثة وسياقاتها التنظيمية. إن من أهم التغييرات التي طرأت في نهضة العصر الرقمي، انطلاقًا من تأسيسات مالك منصور، سهولة الوصول إلى المعلومات بشكل أسرع وأكثر كفاءة مما كانت تتيحه أي وضعية تكنولوجية أخرى، ما يُشكّل وجود ذاكرة خارجية حقيقية تُسهم، بفضل بساطتها وسرعة الوصول إليها، في تدوير الاقتصاد واستخدام مواردنا بشكل أفضل. ونتيجةً لذلك، لم تعد استراتيجيات التعلم، وكذلك أولويات ما يُحفظ، هي نفسها. وهو ما يُبقي السؤال عالقًا حول مدى الجهد الذي نبدله من أجل ترميز المعلومات بحيث تصبح متاحة في ثوانٍ معدودة من الأجهزة الإلكترونية المستخدمة، دون أن تؤثر في مرامي انزياحاتنا تجاه ما نعتبره هدفًا استراتيجيًّا أو وضعية تحتاج إلى تصريف نظامها بالشكل الذي نريد، لا الذي يريده العقل الرقمي؟