تعَد قضية العبودية في مخيمات تندوف من أكثر القضايا إثارة للجدل في المجال الحقوقي والسياسي، إذ تتقاطع فيها الاعتبارات الإنسانية مع النزاعات الإقليمية والتجاذبات الدولية. فبينما تؤكد النصوص القانونية المعلنة أن هذه الممارسة محرمة رسميا، تكشف تقارير حقوقية وشهادات متفرقة عن بقاء مظاهر من التبعية القسرية، خاصة في أوساط الفئات الأكثر هشاشة مثل الحراطين وذوي البشرة السوداء. ومن هنا، فإن الحديث عن العبودية في هذه المخيمات لا ينحصر في الوقائع الجزئية وحدها، بل يمتد إلى بنية اجتماعية وثقافية وسياسية تجعل من هذه الظاهرة عرضا لخلل أعمق. إنها مسألة تتجاوز البعد القانوني لتطرح سؤالا عن مدى صدقية حماية الكرامة الإنسانية، وعن حدود الرقابة الدولية في فضاءات مغلقة تدار خارج سلطة الدول المعترف بها. أولا، العبودية بين النصوص القانونية والواقع الاجتماعي في مخيمات تندوف: إذا نظرنا في مسألة العبودية بمخيمات تندوف، وجب أن يعالج القول فيها على أساس برهاني، يربط الجزئي بالكلي، وينزل الحادثة في إطارها العام. فالعبودية من حيث هي علاقة قسرية بين مالك ومملوك، كانت معروفة عند الأمم القديمة، ثم أعلنت إزالتها في العصر الحديث. غير أن تقارير متعددة تشير إلى أن هذه الممارسة لم تختف كليا، بل بقيت بقاياها تظهر في بعض البيئات الهشة، ومنها المخيمات المعزولة التي تعاني من ضعف الرقابة الدولية، حيث تتسرب أنماط قسرية من التراتب الاجتماعي يعسر اقتلاعها. وإذا تتبعنا ما ذكرته المنظمات الحقوقية، تبين أن النصوص القانونية المعلنة في المخيمات تحرم العبودية، غير أن الواقع كشف عن وقائع جزئية تناقض هذا المنطوق. ومن أبرز الأمثلة ما أورده تقرير حقوقي عن شقيقين عاشا تحت الاستعباد إلى حدود سنة 2013 قبل تحريرهما. هذه الحادثة لا تثبت وجود منظومة شاملة، لكنها تكشف عن فجوة خطيرة بين القانون والتطبيق، وعن غياب آليات صارمة للرقابة والمتابعة. كما أن شهادات متواترة عن بعض الأسر في المخيمات تذكر أن النساء من ذوي البشرة السوداء لا يستطعن الزواج إلا بإذن من من يعتبرون "أسيادهن". وهذا المثال يوضح أن الأعراف الاجتماعية قد تفرض سلطتها فوق النصوص الرسمية، وأن العادات الموروثة تعيد إنتاج علاقات التملك حتى بعد تجريمها قانونيا. وبذلك يتبين أن المشكلة ليست في النص وحده، بل في القوة الاجتماعية التي تحافظ على بقايا هذه الممارسات. وعند النظر إلى هذه الأمثلة في إطارها الكلي، يظهر أن الظاهرة تعبر عن توتر دائم بين الشرع المكتوب والواقع المعاش. فكما أن بعض المدن القديمة أعلنت إلغاء العبودية بينما ظلت آثارها راسخة في المجتمع، كذلك الحال في المخيمات؛ فالقضاء على العبودية هناك يحتاج أكثر من إصدار قانون، بل يقتضي سياسة تحويل اجتماعي وثقافي عميق، مدعومة برقابة مستقلة وإرادة سياسية واضحة. ثانيا، شهادات التمييز والنساء الحراطين: أمثلة تكشف بقايا التبعية إن استمرار الحديث عن العبودية في مخيمات تندوف يستوجب أن نبين كيف تتجلى هذه الظاهرة في مستويات مختلفة، بعضها يخص الأفراد وبعضها يتعلق بالبنية الاجتماعية والسياسية. فالتقارير الحقوقية الحديثة، ولا سيما التي قدمت أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف، ذكرت أن جماعات من اللاجئين ما زالت تشتكي من مظاهر تمييز عرقي، خاصة في حق فئة الحراطين ذوي البشرة السوداء، الذين يواجهون صعوبة في الحصول على المساواة الكاملة داخل المخيمات. ومثال ذلك ما ورد في وثيقة رسمية سنة 2024 عن منظمة غير حكومية اعتبرت أن الحراطين يعانون من وضعية شبيهة بالعبودية، إذ يستبعدون من بعض المناصب ويعاملون كفئة دنيا، رغم أن القانون يساوي بينهم وبين غيرهم. ثم إن وقائع أخرى أشارت إلى أن الزواج، الذي يفترض أن يكون عقدا اختياريا قائما على الرضا، يخضع في بعض الحالات لسلطة عرفية تشترط فيها موافقة "المالك" القديم. هذه الشهادة، وإن وصفت بالجزئية، فإنها تكشف عن استمرار نفوذ التقاليد التي تجعل الروابط العرفية أقوى من النصوص القانونية. فالمرأة السوداء في هذه الحالة لا تملك حرية القرار الكامل في اختيار شريك حياتها، مما يجعلها في وضع أدنى، يذكر بأنماط العبودية التي عرفت في الأزمنة الماضية. وإلى جانب هذا، يروى عن بعض اللاجئين السابقين ممن غادروا المخيمات واستقروا في أوروبا أنهم عاشوا طفولتهم تحت ما يشبه الخدمة القسرية، حيث كان عليهم أن يعملوا في بيوت غيرهم من دون أجر أو بحقوق كاملة. وقد استدل بهذه الشهادات في جلسات البرلمان الأوروبي لسنة 2025، حين طرح نواب سؤالا حول انتهاكات النساء في المخيمات، متضمنا الإشارة إلى العبودية والخدمة القسرية. وهذا المثال البرلماني يظهر أن القضية لم تعد مجرد شأن داخلي، بل صارت موضوعا لرقابة دولية ومساءلة سياسية. وعند ربط هذه الأمثلة بعضها ببعض، يظهر أن المشكلة ليست في حوادث متفرقة فحسب، بل في وجود بيئة اجتماعية تسمح باستمرار هذه الممارسات، ولو على نطاق محدود. فالتمييز العرقي ضد الحراطين، وصعوبة الزواج الحر للنساء، وشهادات اللاجئين عن الخدمة القسرية، كلها دلائل تلتقي في إظهار أن المخيمات تعاني من بقايا نظام غير عادل، يحتاج إلى تفكيك جذري. وهذا يقتضي تدخلا دوليا أكثر صرامة، ومراقبة مستقلة تضمن أن النصوص التي تجرم العبودية لا تبقى حبرا على ورق، بل تتحول إلى واقع معاش. ثالثا، الأبعاد الدولية والسياسية: من الشهادات الفردية إلى المساءلة الأممية إن النظر في وضع العبودية بمخيمات تندوف لا يكتمل إلا باستحضار الأبعاد التاريخية والسياسية التي تبقي هذه الظاهرة قائمة في شكلها الموروث أو المتحول. فقد سجلت تقارير قديمة منذ سنة 2008 أن بعض العائلات من ذوي البشرة السوداء، خصوصا في أوساط الحراطين، ما زالت مرتبطة بعلاقات تبعية مع أسر عربية صحراوية. وجاء في تقرير أمريكي عن اللاجئين أن نساء من هذه الفئة لا يسمح لهن بالزواج دون إذنٍ من "المالك" السابق. هذا المثال التاريخي يكشف أن العبودية لم تختف بين ليلة وضحاها، بل ظلت آثارها ممتدة جيلا بعد جيل، لتصبح جزءا من شبكة الأعراف التي تحكم العلاقات اليومية. كما أن تدخل المجتمع الدولي أبان عن صعوبات في كشف هذه الممارسات. فقد روي أن فريقا أستراليا حاول سنة 2007 تصوير فيلم وثائقي عن العبودية في منطقة الرابوني، غير أن السلطات المحلية أوقفته وصادرت معداته. وهذه الحادثة، وإن كانت قديمة، فإنها تمثل مثالا على غياب الشفافية، وتبين أن محاولات التوثيق المستقل تواجه عراقيل تجعل من الصعب الحصول على صورة كاملة للواقع. وما لم تفتح المخيمات لرقابة خارجية مستقلة، فإن هذه الوقائع ستظل محل نزاع بين النفي الرسمي والإثبات الحقوقي. ثم إن النقاش السياسي على مستوى الأممالمتحدة والبرلمان الأوروبي جاء ليؤكد أن المسألة تجاوزت حدود التقارير الفردية. ففي اللجنة الرابعة للجمعية العامة، رفعت عدة شهادات تتهم جبهة البوليساريو بممارسات تشمل التعذيب والعبودية والإخفاء القسري. وعلى المستوى الأوروبي، قدم في مارس 2025 سؤال برلماني رسمي تضمن صراحة الإشارة إلى العبودية والخدمة القسرية ضد النساء في المخيمات. هذه الأمثلة البرلمانية والأممية تدل على أن الملف لم يعد مجرد ادعاء حقوقي، بل صار موضوعا للنقاش السياسي الدولي، ما يمنحه ثقلا جديدا. وعند استخلاص العبرة من كل هذه الأمثلة، يتبين أن العبودية في تندوف ليست مجرد بقايا معزولة، بل عرض لخلل أكبر في بنية المخيمات؛ فهي تكشف هشاشة النظام القانوني أمام الأعراف الاجتماعية، وتدل على ضعف الرقابة الدولية أمام القيود المفروضة على الباحثين والصحفيين، كما تبرز أن المجتمع الدولي نفسه صار يرى في هذه الظاهرة عائقا أمام احترام الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان. ومن ثم، فإن القضاء النهائي على هذه الممارسات يتطلب مسارا مزدوجا: تفكيك البنية الاجتماعية التي تعيد إنتاج التبعية، وتوسيع رقابة المجتمع الدولي ليضمن أن الحرية لا تبقى شعارا، بل تتحقق واقعا معاشا. إن استقراء الوقائع والشهادات المتعلقة بالعبودية في مخيمات تندوف يفضي إلى نتيجة واضحة: أن المسألة لا يمكن حصرها في حالات فردية منعزلة، ولا في نصوص قانونية تعلن التجريم من غير ضمان للتنفيذ، بل هي صورة مكثفة عن صراع بين القانون والواقع، وعن فجوة بين الإعلان والممارسة. فالحوادث التي رصدت عبر تقارير حقوقية، والشهادات التي عرضت أمام هيئات أممية وبرلمانية، تكشف جميعها أن العبودية لم تطو صفحتها بالكامل، بل بقيت بقاياها تنبض في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية داخل المخيمات. ومن ثم، فإن المسؤولية لا تقع على عاتق السلطات المحلية وحدها، بل تمتد إلى المجتمع الدولي الذي يملك واجب الرقابة وضمان حقوق اللاجئين. إن القضاء النهائي على هذه الظاهرة يقتضي إرادة سياسية جادة، وإصلاحا اجتماعيا وثقافيا عميقا، ومتابعة أممية مستقلة تضمن أن تتحول الحرية من شعار مرفوع إلى حقيقة معيشة تحفظ للإنسان كرامته وحقوقه الأساسية. -كاتب وأكاديمي مغربي