بغض النظر عن الأثر السياسي الذي يمكن أن يترتب عن الحراك الذي نعرفه اليوم في مغربنا الحبيب (حراك جيل زيد) سواء أكملت الحكومة الحالية ولايتها أو لم تكملها، وسواء استمرت الاحتجاجات في الشارع لمدة طويلة أو لم تستمر، هناك أمور وتدابير وإجراءات بسيطة يمكن أن يقوم بها المسؤولون عن السلطة التنفيذية في بلادنا (بكل درجاتهم) بشكل استعجالي لاسترجاع الثقة لدى شباب جيل زيد ولدى كل الأجيال بأن الإصلاح ممكن في بلادنا وبأن مسؤوليها يتوفرون فعلا على إرادة حقيقية للإصلاح في كل المجالات الحساسة التي يصرخ الشارع المغربي اليوم بضرورة إصلاحها ولو بالحد الأدنى الممكن، والمقصود هنا إصلاح قطاعات التعليم والصحة والعدالة... هذا مع العلم أن شباب هذا الجيل الذي أدهش الجميع بما في ذلك حتى السلطات الأمنية على ما يبدو _خلافا للأجيال السابقة_ ليست له سعة صبر كبيرة ولا حتى متوسطة كما أنه لا يثق في الوعود والشعارات الشفوية وإنما ينظر إلى الواقع ويرفضه ويطالب بإجراءات ملموسة لإصلاحه. في هذا الصدد، يمكن للمسؤولين عن تدبير الشأن العام في بلادنا اتخاذ بعض التدابير والإجراءات البسيطة في نظري المتواضع لتلطيف الأجواء في الشارع وإقناع الرأي العام بوجود إرادة حقيقية لبداية الإصلاح العام وليس الإصلاح الشامل ما دام الإصلاح الشامل يتطلب الكثير من الوقت والموارد المالية لتحقيقه حتى وإن توفرت الإرادة، أذكر منها على سبيل المثال دون الحصر: في مجال العدالة ونزاهة العملية السياسية والانتخابية: أقترح في هذا المجال أولا مادامت بلادنا تعمل اليوم على تجويد المنظومة الانتخابية التشريعية _بناء على توجيهات الملك محمد السادس الموقر_ أن يتم اعتماد إجراءات محفزة للمواطنين لكي يصوتوا بكثافة في الانتخابات القادمة، إجراءات نستطيع من خلالها تخليق الحياة السياسية وعقلنتها وترشيد أساليب التدبير العمومي بالاعتماد على مبادئ الكفاءة والنزاهة في اختيار المرشحين، أذكر منها مثلا: فرض حصول المرشحين المقبلين على الانتخابات على شهادة إبراء الذمة الضريبية والقضائية قبل تقدمهم للترشح في الانتخابات و منع ازدواجية المناصب الرسمية والمسؤوليات الانتدابية أو تعددها بشكل عام بما في ذلك تحمل مسؤولية وزارية ورئاسة المجالس الجماعية أو الجهوية وغير ذلك من الإجراءات الملموسة التي من شأنها إعادة الثقة للسياسة وللفعل السياسي الصادق في بلادنا. هذا وقد بدأت تشوب مؤخرا الكثير من الشبهات حول استفادة بعض المسؤولين من صفقات عمومية بطرق غير شرعية كتضارب المصالح أو استغلال النفوذ بينما نلاحظ أن الشارع المغربي يغلي اليوم ويطالب بمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وبالتالي فإنه من الواجب على أن تقوم النيابة العامة بدورها في هذا السياق وأن يتم فتح التحقيقات القضائية حول كل الشبهات الممكنة حتى يطمئن جميع المغاربة ويشعروا بأنه ينتمون لدولة القانون والمؤسسات التي يسود فيها القانون على الجميع وتصان فيها حقوق وممتلكات الجميع. وأخيرا سيكون من الجميل أن تنخرط الدولة في سياق انفراج سياسي عام من خلال العفو على جميع المعتقلين الذين تم اعتقالهم في إطار سياسي متوتر (حراك الريف وغيره) أو بسبب آرائهم. في مجال الصحة العمومية: إن ما يشتكي منه جميع المواطنين في احتجاجاتهم على مسؤولي قطاع الصحة العمومية هو ضعف الخدمات وخصاص الموارد البشرية وهذا أمر مبرر، بل إنه كان سببا في تذمر العديد من المواطنين خصوصا عندما أصبح يخلف ضحايا بشرية بشكل مستمر (وفيات مستشفى أكادير نموذجا)، الأمر الذي لم يعد يستطيع المغاربة تحمّله وخصوصا منهم شباب جيل زيد الذي يخرج اليوم للشارع. ولئن كان توفير الموارد البشرية الطبية والتمريضية سيحتاج لوقت طويل حتى يكون للمغرب أطباء وممرضون بالعدد الكافي مستقبلا (أي بعد بضع سنوات قد تتجاوز العشر)، فإن تحسين الخدمات داخل المستشفيات وحسن استقبال المرضى وصون كرامتهم داخل فضاءات المستشفيات والمستوصفات لن يتطلب منا الكثير من الوقت بقدر ما يتطلب الإرادة السياسية والفعلية لتحقيقه. وفي هذا الإطار، أقترح أن يتم التركيز على تجويد إدارة المستشفيات من خلال خلق فضاءات لائقة وبهيجة لاستقبال المواطنين من المرضى ومصاحبيهم مع توظيف موظفين إداريين أو نقلهم من قطاعات أخرى (متصرفين ومهندسين وغيرهم) على أساس أن يكون دورهم هو استقبال المواطنين وتوجيههم إلى الجناح الخاص بهم داخل المستشفى قبل أن يلتقوا مع الجهاز الطبي والتمريضي الذي يحتاج هو كذلك إلى أن يقوم بأدواره التقنية في ظروف هادئة وغير مشحونة بالتصادم مع المرتفقين والمرضى ولعلّ هذا التوجه من شأنه أن يحسسّ المواطنين بمن فيهم حتى الأطباء والممرضين أنفسهم أن الدولة تقدرهم وتحترم إنسانيتهم وتعمل على صيانة كرامتهم. وأما بخصوص تعزيز الموارد البشرية _ولو أنه سيأخذ وقتا طويلا كما قلنا سلفا_ فمن الأجدى اليوم رفع عدد الطلبة المتكونين في مجال الطب إلى أكثر من الضعف حتى نستطيع مواكبة النمو الديمغرافي وتطوره في بلادنا. في مجال التعليم العمومي: لا شك أن مدارس التعليم العمومي يحتاج مثلما تحتاج المستشفيات إلى تحسينات وترميمات تليق بالدور النبيل الذي تقوم به في صقل الأجيال الصاعدة وبالتالي فإنه من الضروري اليوم رصد ميزانية معقولة لإصلاح البنايات التعليمية بما يحفظ للتلاميذ والأساتذة راحتهم وكرامتهم، كما أنه من الضروري اليوم التفكير في تحسين ظروف قراءة التلاميذ في القطاع العمومي _وخصوصا منهم الفئة الفقيرة والهشة وأبناء العالم القروي_ عن طريق التقليص من أعداد الكتب والمجلدات التي يحملونها معهم كل يوم حتى أن بعضهم قد بدأ بعاني فعلا من تشوهات جسدية على مستوى العمود الفقري، والحال أن التلاميذ في دول العالم المتقدم لم يعودوا يستعملون الكتب بقدر ما يستعملون الآلات الالكترونية ( من حواسيب و"طابليط" وغيرهما)، وهذا بطبيعة الحال، لابد أن توازيه مراجعات جذرية للمقرر الدراسي وللمناهج الدراسية مع التركيز على تجويد مهاراتهم الحسية والعقلية وترسيخ القيم الوطنية والحضارية المثلى في أذهانهم. ولعل الاقتراح الأكثر استعجالا في مجال التعليم حسب نظري المتواضع هو العودة إلى نظام تكوين الأساتذة والمعلمين الذي كان المغرب يطبقه سابقا حيث أن الأساتذة في أسلاك الابتدائي والإعدادي والتأهيلي الثانوي كانوا يتلقون تكوينا أساسيا (نظري وتطبيقي) لا تقل مدته عن سنتين قبل دخولهم للأقسام ومقابلتهم للتلاميذ، وأما اليوم فإن الأساتذة يتم تعينهم وإرسالهم مباشرة إلى الأقسام دون أي تكوين لا في مجال البيداغوجيا ولا في غيرها، فكيف يمكننا أن ننتظر تحسن مستوى التلاميذ إذا كان أساتذتهم هم أنفسهم يفتقدون إلى المستوى المطلوب اللهم إلا من اجتهد وكد وجد منهم على كثرتهم. في الختام، أقول إن شعارات الحراك الحالي مثلها مثل شعارات 20 فبراير وما قبلها ترتكز على ثلاثة محاور أساسية: هي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وأما الحرية والكرامة فإنها لا تحتاج من الدولة مصاريف مالية ولا حتى إلى برامج استراتيجية طويلة الأمد بقدر ما تحتاج من المسؤولين بكل مستوياتهم اتخاذ قرارات وتدابير عملية قد تكون فورية لكنها قد تجسد بجلاء حضور الإرادة السياسية للإصلاح، ليبقى الطريق مفتوحا فيما بعد لتحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة بتظاهر جهود الجميع إن شاء الله.