لماذا يصرّ الكابرانات على إهانة الكفاح الفلسطيني؟    الحكومة ستستورد ازيد من 600 الف رأس من الأغنام لعيد الاضحى    بوركينا فاسو تطرد 3 دبلوماسيين فرنسيين    طنجة: توقيف شخص وحجز 1800 قرص مخدر من نوع "زيبام"    بوريطة يشيد بمواقف ليبيريا الثابثة في قضية الصحراء المغربية    "الفو گيد" اللي نصب على گاورية ففاس قرقبو عليه البوليس (صورة)    المدير العام للفاو…المغرب نموذج إقليمي في مجال تحويل النظم الغذائية والزراعية    مطار حمد الدولي يحصد لقب "أفضل مطار في العالم"    مجلس الحكومة يصادق على مشاريع وتعيينات    مصدر يوضح بشأن ارتباك رحلات "لارام" بدبي    الدكيك: المباراة ضد منتخب ليبيا تم الإعداد لها ب"دقة وانضباط"    نجوم مغاربة في المربع الذهبي لأبطال أوروبا    ليبيريا تجدد الدعم للوحدة الترابية للمغرب    مجلس النواب يستكمل تشكيل هياكله    تيزنيت.. أساتذة يلتئمون في وقفة احتجاجية ضدا على تعنيف تلميذ لأستاذ    توقيت مباراة المغرب والجزائر هذا اليوم ضمن منافسات بطولة اتحاد شمال إفريقيا    البيجيدي يجدد الثقة في بووانو رئيسا لمجموعته النيابية    المغرب متراجع بزاف فمؤشر "جودة الحياة"    واش تنادم معهم الحال حيث شافوه محيح مع العين؟ نايضة فالأهلي المصري بسبب سفيان رحيمي    ما الذي قاله هشام الدكيك قبل المواجهة الحاسمة أمام ليبيا؟    السفينة الشراعية التدريبية للبحرية الألمانية "غورتش فوك" ترسو بميناء طنجة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المغرب وليبيريا يجددان التأكيد على مواصلة تعزيز تعاونهما الثنائي    هل تغير أميركا موقفها بشأن عضوية فلسطين بالأمم المتحدة؟    تاجر مخدرات يوجه طعنة غادرة لشرطي خلال مزاولته لمهامه والأمن يتدخل    أصيلة.. توقيف ثلاثة أشخاص للاشتباه في ارتباطهم بالاتجار في المخدرات    منير بنرقي : عالم صغير يمثل الكون اللامتناهي    تفويت مستشفيات عمومية بالشمال للخواص يجر وزير الصحة للمساءلة البرلمانية    تقرير دولي يكشف عن عدد مليونيرات طنجة.. وشخص واحد بالمدينة تفوق ثروته المليار دولار    هل يتراجع "الكاف" عن تنظيم نسخة جديدة من "السوبرليغ" في 2024؟    الدار البيضاء.. افتتاح معرض تشكيلي جماعي بعنوان : «التنوع المختزل في الريشة الإبداعية»    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    عزيز حطاب يكشف ل"القناة" حقيقة عودة "بين القصور" بجزء ثانٍ في رمضان المقبل!    رونالدو يكسب يوفنتوس في ملف تحكيم    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أكادير تحتضن الدورة الأولى لمهرجان "سوس كاسترو" الدولي لفنون الطهي ونجوم المطبخ    تنظيم الدورة الثانية لمعرض كتاب التاريخ للجديدة بحضور كتاب ومثقفين مغاربة وأجانب    بينهم سوري.. عقود عمل وهمية والإتجار بالبشر يطيحان ب5 أشخاص في فاس    "نتفليكس" تعرض مسلسلا مقتبسا من رواية "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز    استطلاع: الأسرة المغربية غير قادرة على حماية أطفالها من مخاطر "التواصل الاجتماعي"    الحكومة ‬المغربية ‬تؤكد مآل ‬تجديد ‬اتفاقية ‬الصيد ‬البحري    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    زلزال بقوة 6,3 درجات يضرب هذه الدولة    موهبة كروية جديدة تُشغل الصراع بين المغرب والجزائر    الأمم المتحدة.. بمجلس الأمن سجال محتدم بين هلال ووزير الخارجية الجزائري بشأن البحر المتوسط    تحداو ظروف الحرب وخرجو يبدلو الجو.. مئات الفلسطنيين قصدو البحر فغزة باش يستمتعو بالما والشمش (فيديو)        حماس: لن نسلم الأسرى الإسرائيليين إلا بصفقة حقيقية    نشرة الأخبار: رقم قياسي في الملل    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    وزارة الصحة: حوالي 3000 إصابة بمرض الهيموفيليا بالمغرب    أرقام رسمية.. 3000 مغربي مصاب بمرض "الهيموفيليا" الوراثي وها شنو موجدة وزارة الصحة لهاد النزيف الدموي    عينات من دماء المصابين بكوفيد طويل الأمد يمكن أن تساعد في تجارب علمية مستقبلاً    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معالم الفتوى وهمومها ومواقف المسلمين منها
نشر في هسبريس يوم 19 - 12 - 2009

الحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله أجمعين.
جمع كثير من العلماء سلفا وخلفا فتاواهم في كتب مختلفة الأحجام والأعداد ظلت على مر العصور وتعاقب الأجيال مراجع صادقة ومصادر معتمدة في معرفة الأحكام الشرعية في النوازل الطارئة على حياة الناس في كل زمان ومكان، وهذا يعني أن موضوع الفتوى وإن كثرت كتبه وتشابهت في الظاهر تصانيفه فإن هذه الكثرة لا تعد من التكرار الممل ولا من ترديد القول الذي يقتدي فيه اللاحق بالسابق، بل إن فيها مزيدا من علم و إغناء للفقه الإسلامي قديمه وحديثه باجتهادات العلماء من مختلف العصور والقرون وتنوع مسالكهم في فهم النصوص واستنباط الأحكام من ألفاظها ودلالاتها مما يجعل المطلع على هذه الفتاوى والمتتبع لكتبها المتنوعة ذا دراية واسعة بطرق العلماء في استنباط الأحكام وتحليل النصوص وتشريح الألفاظ لاستخراج مضامينها واستكشاف ما خفي من دلالاتها ومفاهيمها، وهو ما يربي في طالب العلم ملكة علمية تجعله قادرا على المقارنة والترجيح بين الاجتهادات والآراء واختيار أقواها دليلا وأهداها سبيلا، مصداقا لقول الله عز و جل: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).
معالم الفتوى
الاستناد إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم
لا تعصب لرأي
لا تقليد جامد لمذهب
لا غلو معسر
التزام سبيل التيسير والاعتدال
وغير خاف على كل ذي عقل وإيمان أن الفتوى الشرعية الصادقة هي المستندة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والمنبثقة من ضوء نصوصهما في غير تعصب لرأي ولا تقليد جامد لمذهب ولا غلو معسر يحمل الإنسان ما لا طاقة له به، مع وضوح في العبارة وبيان في الأسلوب وإيجاز في العرض والتزام سبيل التيسير والاعتدال، وذلك هو المنهج الذي سرت عليه في تحرير كل فتوى من الفتاوى المجموعة في كتابي، وأود في هذا المقام أن أبين بيانا أرجو أن يكون شافيا إن شاء الله المراد بالتيسير و الاعتدال الذي هو صبغة الإسلام وطابعه الذي يطبع كافة تشريعاته وأحكامه، إذ أن كثيرا من المسلمين يسيئون فهم التيسير ويذهبون به مذهب التسيب والإباحية الفاجرة، بينما التيسير إنما هو تخفيف عن المسلم فيما أمر به ورفع الحرج عنه فيما أنيط به من التكاليف كما في قوله سبحانه وتعالى (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا )و قوله وتعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )و قوله وتعالى (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج).
وليس هو إعفاء كليا من القيام بالواجبات الشرعية، ولا تسويغا لتجاوز حدود الله والوقوع في المحرمات، فلقد فهم بعض من عرفوا بالعلم أن يسر الإسلام يسمح بالتهاون بالصلاة وإخراجها عن وقتها تشاغلا عنها بأغراض الحياة ومصالح الإنسان، كما فهم غيره أن يسر الإسلام وسماحته تستلزم رفع الإثم والحرج عن المتعامل بالربا من أجل استثمار أعماله التجارية لكونها تنمي اقتصاد البلاد وتعود بالنفع العام على العباد، وفهم آخرون أن ما جاءت به الحضارة الغربية من خلاعة وانحلال وتمرد على الفضيلة إنما هو من زينة الله التي أخرج لعباده، ومن ثم فلا داعي لرفضه وإنكاره، وهكذا يدرك المرء أن التيسير بهذا المفهوم يعني تقويض أركان الإسلام وتغيير حدوده وتبديل شرائعه.
معالم التيسير
أما التيسير بمفهومه الشرعي فإنه يتجلى في المعالم التالية:
لا يجب واجب ولا يحرم محرم بحديث ضعيف
-أحدها أنه لا يجب واجب ولا يحرم محرم بحديث ضعيف، فقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى العمل بالحديث الضعيف ورأوه حجة في التشريع باعتباره خيرا من الرأي و الاجتهاد، إذ أن الحديث الضعيف قد يكون في نفسه صحيحا، فأخذوا به تحفظا واحتياطا، ومن أجل ذلك تقرر في المذاهب الفقهية جملة من الواجبات وحرم مثلها من المحرمات استنادا إلى الحديث الضعيف، ومن أجل ذلك مثلا القول بوجوب التسمية في الوضوء عملا بحديث :(لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)، وهو حديث ضعيف، والقول بتحريم الجمع بين الصلاتين من غير عذر عملا بحديث :(من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر)، وهو أيضا حديث ضعيف، والأمثلة من هذا القبيل كثيرة في الفقه الإسلامي بشتى مذاهبه واتجاهاته، مما كان سببا في التعسير على المسلمين ودخول الحرج الشديد في تدينهم وأحوال تعبدهم.
وسلوك مسلك التيسير يقتضي رفض العمل بالحديث الضعيف وعدم اعتباره حجة في التشريع لأن نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير ثابتة، ولأن ما وجب به من التكاليف وما حرم به من المحرمات أنزل بالناس ضيقا وعسرا في دينهم وقد قال عز وجل :(وما جعل عليكم في الدين من حرج)، فكل تشريع ضاق به الناس ذرعا وعانوا منه شدة فليس من الإسلام في شيء، كما قررته هذه الآية ولا نجد التشديد والتضييق في شيء من التشريعات الإسلامية إلا ما كان منها مستندا إلى حديث ضعيف أو رأي سخيف، وقد ذهب جمهور كبير من أيمة الإسلام وعلمائه إلى إلغاء الحديث الضعيف من الاعتبار وعدم الالتفات إليه في تشريع واجب أو تحريم محرم.
الأخذ بالأيسر في مسائل الخلاف
-ثانيها الأخذ بالأيسر في مسائل الخلاف ما دام للأيسر دليل مقبول عند أهل العلم، فقد ثار الخلاف بين العلماء حول كثير من التكاليف الشرعية منذ عصر السلف الصالح إلى عصرنا هذا ولا ريب أنه سيبقى كذلك إلى ما شاء الله، وفي كل مسالة جرى فيها خلاف فلا بد أن يكون له جانبان اثنان أحدهما فيه يسر وتخفيف والآخر فيه عسر وتشديد، فإذا كان لجانب اليسر سند صحيح يسوغ اعتماده عند أهل العلم فالأخذ به أولى وأوجب من الأخذ بالجانب الآخر، لأن المصير إلى اليسر فيه تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية بالتيسير على الناس والتخفيف عنهم، وفي الحديث :(ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار ايسرهما).
ومن أمثلة هذه القاعدة طلاق الرجل امرأته وهي حائض أو في طهر مسها فيه، فقد اختلف أهل العلم في هذا الطلاق، وذهبوا فيه مذهبين، فمنهم من قال بلزوم حكمه ووقوعه على المرأة وإن كان في رأيهم طلاقا بدعيا كما وصفوه وهو مذهب جمهور العلماء بما فيهم المذاهب الأربعة، ومنهم من قال بعدم وقوعه واعتبروه طلاقا لاغيا لكون النبي رده على عبد الله بن عمر حين طلق امرأته وهي حائض وأمره بمراجعتها إلى أن تطهر، ثم يطلقها إن شاء قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة الذي أمر الله به في كتابه فقال : (يا ايها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)، والقصة في الصحيحين، ومن الواضح البين أن الأخذ بمذهب الجمهور في هذه المسالة يفضي بالزوجين إلى ضيق خانق يطوق حياتهما الزوجية ويسد عليهما المخارج و المنافذ، بينما الأخذ بمذهب اليسر الذي يؤيده حديث النبي صلى الله عليه وسلم يجعلهما في مأمن من الطلاق المفاجئ الذي لا مرد له ويفسح لهما السبيل لاستيفاء العشرة الزوجية وحفظ كيان الأسرة من التشتت والانهيار، ولا ريب أن الحكمة من الزواج في الشريعة الإسلامية قيام الأسرة وبقاؤها متماسكة مترابطة، وليس التعجيل بتفكيكها وتشريد أفرادها، ومن أجل ذلك كان الأخذ بجانب اليسر في هذه المسالة هو الأقوم والأولى لما فيه من التيسير والتخفيف، وإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة هذه القاعدة أيضا قوله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ..الآية)، فقد اختلفوا في المراد بالنجاسة هنا هل هي نجاسة أبدانهم أم نجاسة عقيدتهم ودينهم فذهب قوم إلى أن المشرك نجس الذات وأيدوا قولهم بحديث :(إن المومن لا ينجس)، إذ مفهومه أن غير المومن نجس، وذهب آخرون إلى أن النجس في الآية عقيدتهم ودينهم وأن أبدانهم طاهرة كغيرهم من البشر وأيدوا قولهم بقول الله عز وجل ( ولقد كرمنا بني آدم ...الآية)، وتكريمهم يقتضي طهارة أجسادهم، كما أيدوا مذهبهم بقوله سبحانه في المنافقين: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليه لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ...الآية)، وقد كانوا يخالطون المسلمين ويدخلون مساجدهم وبيوتهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن أخذ بمذهب تنجيس بدن المشرك فلا جرم أنه سيعاني من حرج شديد في تعامله مع المشرك ومخالطته إياه في عمل أو سفر أو نحو ذلك من الأحوال، أما من أخذ بالمذهب الآخر فإنه لن يجد عسرا ولا مشقة في مخالطته للكافر ومعاملته إياه في شتى المجالات، وذلك هو اليسر والسماحة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : (إني بعثت بحنيفية سمحة).
التخفيف في اللمم والتجاوز في صغائر الذنوب
-ثالثها التخفيف في اللمم والتجاوز في صغائر الذنوب، ونبذ التعسير في أمرها والتشديد على من وقع في شيء منها لأن الله عز وجل يسر فيها وتجاوز لعباده عنها كما قال سبحانه: (لذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة)، وقال عز وجل :(إن تجتنبون كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما(، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله تعالى لو سترت على نفسك ، فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات)(رواه البخاري وغيره).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يغلظ القول لهذا الرجل الذي لاعب امرأة وباشر معها مقدمات الجماع دون أن يواقعها ولم يزجره على فعله، بل بشره بمغفرة الله وعفوه لكونه يقيم الصلاة ويحافظ عليها، وذلك لان ما أتاه كان من اللمم وصغائر الذنوب التي تذهبها الحسنات وتكفرها الصالحات، وهذا من مواقف الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإظهار سماحة الإسلام اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي سمح للحبشة أن يلعبوا في المسجد بحرابهم ورقصهم وقال لهم :(دونكم يا بني ارفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة((رواه الديلمي).
إتيان الرخصة بحقها وشرطها
-رابعها إتيان الرخصة بحقها وشرطها، والرخصة إما تخفيف التكليف الشرعي أو إعفاء منه في حال العذر، أو رفع الإثم عن ارتكاب المحظور، وذلك كله بسبب عذر يقوم بالمكلف يجعل التزامه بفعل الواجب أو اجتناب المحرم أمرا شاقا عليه، والأخذ بالرخصة يكون أحيانا إلزاميا ويكون أحيانا أخرى متروكا إلى اختيار المكلف ، إن شاء اخذ بها وإن شاء أخذ بالأشد، إلا أن الأخذ بالرخصة عند الحاجة إليها أفضل من تكلف الأخذ بالعزيمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن توتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )(رواه أحمد والبيهقي) وفي حديث آخر : ( إن الله يحب أن توتى رخصه كما يكره أن توتى معصيته)( رواه أحمد وابن حبان) وقال صلى الله عليه وسلم:(عليكم برخصة الله التي رخص لكم) (رواه مسلم ).
والرخصة مشروعة مع كل تكليف من التكاليف الإسلامية لتكون مخرجا من المشقة والحرج الذي قد يصيب المسلم من جراء قيامه بالتكليف كما شرع، فهي تشريع احتياطي قائم مع كل تكليف من التكاليف الشرعية ليكون منفذا للخلاص من المشقة التي يعانيها الضعيف والمعذور من جراء قيامه بما لا يطيقه من التكاليف.
هذه ابرز معالم التيسير الذي نهجت سبيله في فتاوى هذا الباب ، والتي اسأل الله عز وجل أن ينفع بها المومنين ويهدي بها الحائرين ويجعلنا جميعا من عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
مواقف المسلمين من الفتوى
إن المرء لو نظر بعين البصيرة ونور التفكير السليم إلى منزلة الفتوى في حياة المسلمين في العصر الحاضر، وتأمل في مواقفهم منها لأدرك أن المسلمين عامة أفرادا و مسؤولين عن الأمة يمكن تصنيف مواقفهم من الفتوى إلى ثلاثة أصناف :
موقف من لا يهتم بالفتوى
-فمنهم من لا يهتم بالفتوى في كافة أحواله، ولا يتوقف عليها عمل من أعماله، فهو يمضي في حياته بقانون الهوى والمنفعة المطلقة، ويعده معيارا صحيحا في ضبط توجهاته وتحديد اختياراته، فكل ما يراه جالبا لمنفعته أو منسجما مع هواه ورغبته فعله و أقدم عليه بدون تردد ولا توقف، وكل ما لم يكن كذلك في اعتباره تركه ونبذه، ولا يعنيه أن يكون ما أقدم عليه حراما أو ضلالا أو فسقا وفجورا، كما لا يعنيه أيضا أن يكون ما تركه فريضة من فرائض الإسلام أو حقا من الحقوق الواجبة عليه، وقد حدثني الوالد رحمه الله أنه زار قرية من القرى الواقعة في ناحية تطوان فسأل خطيب المسجد هل في هذه القرية طلبة يدرسون العلم، فقال له الخطيب: إن أهل القرية كلهم علماء، فقال الوالد: سبحان الله وكيف ذلك؟ قال : إن كل فرد منهم إذا بدا له أن يفعل شيئا فعله دون أن يسال أهل العلم عن فعله وكيف يفعله.
ومن هذا الصنف أكثر الحكومات الإسلامية وعامة أهل المال والأعمال فإنهم ليسوا في حاجة إلى فتوى ليصدروا عنها، ولا يتوقفون في تخطيط سياساتهم وتأسيس أعمالهم على معرفة حكم الإسلام فيما يقررون وما ينشئون، وما هذا الميل العظيم عن الإسلام وحكمه وشرعه والذي أصاب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا من فضلات هذا الاتجاه وآثاره الآثمة، وصدق الله العظيم إذ قال : ( ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما).
موقف من يجعل الفتوى سندا لتأييد موقفه وتزكية اختياره
-ومنهم من يجعل الفتوى سندا لتأييد موقفه وتزكية اختياره ، فالمرء من هذا الصنف فردا كان أو مسؤولا يقرر العمل بما يراه موافقا لحاله ونزعاته وبعد أن يمضي في سبيله الذي اختاره بخالص إرادته يستصدر فتوى من أهل العلم تسوغ له عمله وتبارك سعيه، وهو إنما يطلبها لتأكيد اختياره المرجح وتزيين توجهه المقرر لا يلتفت إليها ولا يبحث عنها قبل أن يختار ويقرر، على غرار قول الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي بالمحل الثاني
ومن هذا الصنف بعض الحكومات الإسلامية التي تتخذ الفتوى سبيلا إلى إكراه شعبها على الطاعة لسياستها وقراراتها لكونها نابعة من شرع الله وأحكامه المقدسة التي لا ترد ولا تعارض ، وما بالعهد من قدم، فقد صدرت فتوى أيام حرب الخليج من ثلة من العلماء البارزين في الأمة الإسلامية بشرعية الاستعانة بالكفار في قتال المسلمين.
موقف من يأخذون ما أوتوا من العلم بجد واجتهاد
-وأما الصنف الثالث فإنهم الصالحون الذين يأخذون ما أوتوا من العلم بجد واجتهاد، ويعملون صادقين بما علموا من الحق، فهؤلاء لا يقدمون على أمر حتى يعلموا حكم الله فيه، ولا يبثون في قضية إلا بعد أن يستفتوا فيها أهل العلم، وهم بين الناس قليل لا يعدون أن يكونوا فيهم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وقلتهم هذه تحول بينهم وبين ما يبتغون من توجيه سياسة ولاتهم نحو سبيل الرشد، وتغيير لأحوال مجتمعهم إلى الأمثل والأصلح، وحسبهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما كان فطوبى للغرباء).
وقول الشاعر:
تعير في أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
هموم الفتوى ومشكلاتها
إن للفتوى حديثا ذا شجون، وإن من شجونه اختلاف الفتوى بين أهل العلم وحيرة المسلم إزاء هذا الاختلاف، وتجرؤ الجهال على الفتوى ولوم العلماء على ما اختاروه من الفتوى، والفتوى بغير ما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم وسنحاول إن شاء الله أن نوجز القول في كل قضية من هذه القضايا إيجازا أرجو أن يكون مما قل من الكلام ودل .
اختلاف الفتوى بين أهل العلم
أما اختلاف الفتوى بين أهل العلم فإنه أمر حتمي ومظهر طبيعي لاجتهاد العلماء وتعدد مسالكهم في التعامل مع النصوص الشرعية، وتنوع سبلهم في البحث عن الحق والصواب، والاجتهاد عمل فكري خالص ومن ثم كان من الفطري أن تختلف اجتهادات المجتهدين تبعا لاختلاف العقول وتفاوتها في الإدراك.
و الاجتهاد المشروع إنما يكون في ثلاثة مواطن:
1 اجتهاد في فهم النص
2 اجتهاد حول ثبوت النص
3 اجتهاد في غيبة النص
أما النوع الرابع من الاجتهاد وهو الاجتهاد مع ورود النص فذلك هو الاجتهاد المرفوض والمذموم، وهو الذي نشأت بسببه الفرق الزائغة والمذاهب الخارجة عن السنة.
وليس من الاجتهاد العمل بالحديث الصريح الدلالة الذي لا يحتاج إدراك المراد منه إلى بذل جهد ولا إعمال فكر، فذلك امتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم و اتباع سنته، وهو غير عسير على أحد من الناس، فإن من يسمع قول الله عز وجل مثلا : (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) ،أو قوله سبحانه :( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا)، أو قول النبي صلى الله عليه وسلم :(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ...الحديث)(متفق عليه) أو قوله صلى الله عليه وسلم :(من حلف بغير الله فقد أشرك) (رواه أحمد و أبو داود والترمذي)، أو قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تصلوا إلى القبور ...الحديث) ، لا يستعصي على المستمع لهذه النصوص فهم مضامينها وإدراك معانيها بوضوح وجلاء، ولا يحتاج إلى اجتهاد وتفكير ليعيها حق وعيها، وإنما تدعو الحاجة إلى الاجتهاد حينما تحف بالنص موانع تحول دون الإدراك السليم لمضمونه والفهم الصحيح للمراد منه، أو حينما يكون النص محل أخذ ورد حول ثبوته، أو حينما لا يكون في المسألة نص أصلا ، ففي هذه الأحوال الثلاثة يلجا العلماء إلى الاجتهاد لاستخراج الحكم المطلوب فيختلفون ولا يتفقون، كما يتجلى ذلك واضحا من خلال الأمثلة التالية:
-1فمن الاختلاف الناتج عن الاجتهاد في فهم النص اختلاف العلماء في قول الله عز وجل: ( ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)، فقال قوم: إن الذبيحة المتروكة التسمية لا تؤكل عملا بظاهر هذه الآية إلا من تركها ناسيا فإنها تؤكل، وأفرط قوم آخرون فقالوا: لا تأكل ولو تركها ناسيا، وذهب آخرون إلى أن المراد بالآية ما ذبح لغير الله، يعني أن المراد بالآيتين تحريم الذبيحة التي ذكر عليها اسم غير الله، فإذا لم يذكر عليها اسم من الأسماء المقدسة عند الجاهلين فإنها تؤكل ولو لم يذكر عليها اسم الله، لأن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب وهم لا يذكرون الله على ذبائحهم، وفي البخاري إن أناسا قالوا يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (سموا عليه أنتم وكلوه)، وهذا هو الراجح من المذهبين لقوة دليله .
-2ومن الاختلاف الناتج عن الاجتهاد حول ثبوت النص اختلاف العلماء في حكم دخول الحمام للمرأة، فقد وردت عدة أحاديث في تحريمه على المرأة ولكن ثبوتها لم يكن موضع اتفاق بين أهل الحديث حتى قال ابن القيم: لا يصح من أحاديث الحمام شيء، ورأى غيره من العلماء أنها صحيحة بطرقها وتعدد رواياتها، ومن ثم اختلفوا في حكم الحمام للمرأة، فمن رأى أحاديث التحريم صحيحة حرمه، ومن رآها ضعيفة أباحه، وأرى أن هذا هو الصواب إن شاء الله بدليل أن الحمام لم يكن معروفا عند العرب ولا كان مذكورا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه المسلمون بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانتشار الفتوحات الإسلامية.
-3ومن الاختلاف الناجم عن الاجتهاد في غيبة النص وعدم وروده اختلاف العلماء في حكم بعض القضايا والوقائع التي ظهرت بعد عصر التشريع، ومن ذلك اختلافهم في حكم التأمين بقواعده، فمن العلماء من قال بتحريمه لما فيه من الغرر والجهالة ولكونه صورة من صور المعاملات الربوية، ومنهم من قال بإباحته نظرا إلى أن العقد فيه يتم بالقبول والتراضي بين الطرفين، وأراه مسلكا صحيحا إن شاء الله إذ أن القاعدة العامة في صحة المعاملات المالية هي التراضي بين المتعاملين لقول الله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).
إنها نماذج من عشرات المسائل التي كانت محل خلاف بين العلماء منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا، ولن يزالوا مختلفين حولها وحول غيرها مما يحدث من القضايا والوقائع إلى ما شاء الله، وهو خلاف مقبول ومحمود لما فيه من الدلالة على تحرر العقول وانطلاقها من قيود الجمود والتقليد وتقديس آراء الرجال، وقد قال عز و جل:( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا(.
حيرة المسلم بين اختلاف الفتوى
وأما حيرة المسلم بين اختلاف الفتوى ووقوفه عاجزا عن إدراك الصواب فيما اختلف فيه العلماء فتلك فتنة يسعى إليها المسلم برجليه وحيرة يوقع فيها نفسه بسوء سلوكه وتنكيه الطريق الاقوم الذي ينبغي أن يستقيم عليه، ذلك أنه إذا نزلت به نازلة لا يدري حكم الله فيها ذهب إلى أحد من العلماء فسأله عن نازلته فإذا أفتاه ذلك العالم بما يراه صوابا، ترك المستفتي تلك الفتيا وذهب إلى غيره من العلماء فاستفتاه في تلك النازلة نفسها، فربما أفتاه هذا الأخير بما يخالف فتيا الأول فيقع في البلبلة و الإضطراب من جراء صنيعه هذا وتردده بين العلماء في قضية واحدة وكثرة استفتائه في مسالة بعينها، وبذلك يكون المستفتي هو الذي جلب على نفسه الحيرة والارتياب.
أما المسلك السليم الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في طلب الفتوى في مسالة خلافية أن يقصد من يطمئن إليه من أهل العلم وثيق في تدينه فيسأله عن مسألته ثم يلزم ما أفتاه به ويكتفي بما أرشده إليه ولا يبحث عن غيره ولا يستفتي أحدا سواه فإذا فعل ذلك كان قد أتى ما أمر به في قوله عز وجل: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وقوله سبحانه: (فاسأل به خبيرا)، ولا يضره حينئذ أن يكون المفتي مخطئا في فتياه، فسواء كانت الفتيا صوابا أو خطأ فالمفتي والمستفتي على خير، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) (متفق عليه ).
ومن هذا المنطلق انبعثت المذاهب الفقهية المختلفة التي اتبع المسلمون آراءها وأخذوا باجتهاداتها في شتى القضايا والأحكام فمنهم من التزم مذهب مالك ومنهم من التزم مذهب الشافعي ومنهم من التزم غيرهما من المذاهب، وكل فئة تعلقت بمذهب اكتفت بما تقرر فيه من التوجيهات والأحكام ولزمت العمل بها ولم تلتفت إلى غيره من المذاهب المخالفة، إلا أن الذي يوخذ على هذه المذاهب تقديم العمل بالاجتهاد أحيانا على العمل بالنص وهو ما يجعل فاعله معنيا بقول الله تعالى: (وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).
إن الحكم إذا كان منصوصا عليه في كتاب الله أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا مناص من العمل به ولا مجال للخلاف فيه بدون حق ولا يملك المومن إلا أن يأخذه بجد وحزم تحقيقا لقول الله عز وجل: (إنما كان قول المومنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون)، وفيما عدا ذلك من المسائل الخلافية التي أشرنا إلى بعضها آنفا فإن المخرج الواضح من الحيرة والتردد الذي يعتري المسلم في شأنها يتجلى في لزوم فتوى أحد العلماء الناصحين والوقوف عندها، أو الأخذ بما تقرر في مذهب من المذاهب الفقهية في تلك المسائل و الإقتصار على العمل به وعدم البحث عن غيره من الآراء والاجتهادات، فذلك سبيل الرشد وطريق السداد الذي سار عليه السلف الصالح من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.
لوم العلماء على الفتوى والطعن فيهم
وأما لوم العلماء على الفتوى والطعن فيهم ولمزهم بالسوء من أجل أنهم رجحوا مذهبا على غيره، ومالوا إلى رأي وتركوا آخر فهي ظاهرة قديمة في المجتمع الإسلامي وسنة سيئة دبت إلى المسلمين منذ العصور الأولى من تاريخ الإسلام، وهي خصلة تخلق بها عامة المسلمين وعلماؤهم على السواء إلا من رحم الله وقليل ما هم .
فكم عج العوام والعلماء وضجوا أو قاموا لفتوى أفتى بها عالم من العلماء أو رأي أعلنه، وكان في ذلك مخالفا لما ذهب إليه سوادهم الأعظم وغير متفق مع ما اشتهر بين جمهور المسلمين، إلا أنه لم يكن خارقا للإجماع ولا زائغا عن القرآن ولا عاصيا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما نقموا إلا أن اتبع قولا رأى أنه حق وصواب، ومال إلى مذهب اعتبر حجته أقوى ودليله أصح.
نعم، لو أن أحدا من أهل العلم اتخذ دينه هواه و أضله الله على علم فأخذ يشيع البدع في المسلمين ويدعوهم إلى تعاطي أمور الجاهلية بما يصدره من فتاوى مضلة وما يعلنه من أقوال زائغة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كالإفتاء بجواز تقديس القبور والتمسح بها والذبح عليها و الاستغاثة بأصحابها، أو الإفتاء بجواز التعامل الربوي أو بجواز تبرج المرأة وخروجها عارية سافرة ونحو ذلك من الفتاوى البين بطلانها، فهذا جدير أن يحذره كل مسلم ويحذر منه، و جدير أن يلومه كل ذي علم ناصح ويلوم من يتبع قوله.
أما أن ينكر على أحد من أهل العلم ويرمى بسوء القول لكونه قال بجواز مصافحة المرأة أو بجواز الصور والرسوم في الثوب والورق ونحوها أو بجواز المعازف بشرطها أو بجواز قراءة القرآن ودخول المسجد للحائض والجنب أو قال بغيرها مما يراه حقا في المسائل الخلافية، فذلك لا يصدر إلا من أحد رجلين :إما جاهل ذي سفاهة و بذاء لا يدري ما يجب أن ينكر وما لا يجوز أن ينكر ولا يفرق بين أصول الشريعة وفروعها فمبلغه من العلم أن يقول ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، وأما ذي علم لم ينفعه الله بعلمه فهو ذو حسد لأقرانه من أهل العلم، يتربص بهم الفرص السانحة ليبدي ما في صدره من غل وحسد، فهو فيما يبدو للناس يصدع بالحق وينكر على العلماء تنكبهم عن سبيله، ولكنه في داخلة نفسه يتخذ من الإنكار والنقد سبيلا لإفراز فضلات صدره و استفراغ ما في قلبه من درن وخبث .
وقد عقد ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم بابا بهذه الظاهرة فقال: باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض، نقتطف فقرات مما جاء فيه: عن ابن عباس قال: استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فو الذي نفسي بيده لهم اشد تغايرا من التيوس في زريبتها، قال أبو عمر بن عبد البر هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به ثانية جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من تبتت عدالته وصحت في العلم إمامته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد، والدليل على ذلك أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد كما قال ابن عباس ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل فيه وذكر ابن عبد البر في هذا الباب جملا كثيرة من أقوال الايمة وعلماء السلف وطعون بعضهم في بعض، ثم قال: وقد كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا، ولكن أهل الفهم والعلم والدين لا يلتفتون إلى ذلك، لأنهم بشر يغضبون ويرضون والقول في الرضا غير القول في الغضب ...إلى آخر ما جاء في هذا الباب وهو جدير بالإطلاع عليه للإعتبار.
والمقصود أن الطعن في العلماء ولومهم على ما اختاروا من الأقوال وما رجحوا من الآراء لا ينبغي للمرء أن يلتفت إليه ولا أن يشغل به فكره كما لا ينبغي أن يصده ذلك عن العمل بما اقتنع به من فتوى أهل العلم معتبرا بقول الله عز وجل :(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).
تجرؤ من لا علم له على الفتوى
وأما تجرؤ من لا علم له على الفتوى وقوله في دين الله بغير علم فتلك قضية كل عصر وحديث كل جيل، وهي معضلة استعصت على الحل الحاسم وداء عز دواءه و أعيا الناصحين والمصلحين معالجته والقضاء عليه، وكيف يمكن القضاء على مرض ظهرت أعراضه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم وامتد تغلغله عبر أجيال الأمة الإسلامية في مختلف فئاتها وجهاتها .
روى البخاري ومسلم أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : )يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، و ائذن لي في أن أتكلم فقال صلى الله عليه وسلم: تكلم، قال: إن ابني كان عسيفا (أجيرا) على هذا فزنا بامرأته، فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية، ثم سالت أهل العلم فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني إنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله :أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة وغربه عام ...الحديث(.
وروى أبو داود وابن حبان والحاكم عن جابر أنه قال خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر شجه في رأسه، فاحتلم فسال أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر بذلك قال : (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم.(
فهاتان واقعتان من الفتوى بغير علم مما كان بعضه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الواقعة الأولى أفتي ذلك الرجل فتيا خاطئة لو عمل بها لقتل ابنه بغير حق، ومع ذلك فقد كلفته الفتوى الباطلة إنفاق مال كثير في غير حقه، ولولا أنه تدارك أمره بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لضاع ماله باطلا .
وفي الواقعة الثانية كانت الفتوى بغير علم سببا في موت إنسان حمله خوف الله وصدق إيمانه على العمل بفتوى باطلة كان فيها حقه، وكفى بذلك واعظا وزاجرا لكل مومن تنقصه الذكرى.
ومن المفارقات الغريبة والمثيرة في هذا الباب أن الذين يفتون بغير علم وينصبون أنفسهم للناس ليستفتوهم وهم ليسوا من أهل العلم لا يجدون حرجا في تذكير غيرهم بالمواعظ الواردة في الفتوى بغير تبين وذم التقول على الله بغير علم كقول الله عز وجل :( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (متفق عليه)، وهم حين يلوون ألسنتهم بهذه المواعظ ويتلونها على الناس بمناسبة وبغير مناسبة يكونون بصنيعهم هذا قد قدموا إليهم الأدلة والبراهين على أنهم ليسوا معنيين بهذه الزواجر ولا مقصودين بها، مما يجعل محاولة تذكيرهم وزجرهم عما يفعلون من قبل اللغو والعبث الذي لا يفيد ولا يجدي، إذ كيف ينفع الوعظ والتذكير في خطيب هو نفسه يعظ الناس ويرشدهم ويأمرهم وينهاهم، وهو مع ذلك ممن يقصد الفتوى بغير حق، و يتجرؤ على القول في دين الله بغير علم، وكيف ينفع الوعظ والتذكير فيمن أقام نفسه داعية إلى الإسلام فحرم وأحل واوجب وشرع، وعمل الناس بقوله واقتدى العوام بهديه، وهو لم يدرس علما قط، ولا جالس العلماء، وإنما هو وحي يوحى على غرار قول الله عز وجل: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم و إن أطعتموهم إنكم لمشركون).
من أجل ذلك فإن الواجب على المستفتي أن يحذر مثل هؤلاء المتطفلين على الإفتاء فلا يقره خطيب ولا إمام مسجد ولا ذو لحية تخدع الناظرين، بل يسال عن أهل العلم الحق إذا كان لا يعرف منهم أحدا، فإذا دل عليه استفتاه فيما يريد معرفته من أحكام دينه، وذلك جهده المطلوب منه مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: )من أفتي فتيا بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه( (رواه ابن ماجة والحاكم).
*من مقدمة كتاب سؤال وجواب في حياة المسلم للعلامة الشيخ عبد الباري الزمزمي
www.zemzami.net http://www.zemzami.net


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.