من التعريفات التي يصعب وضعها وتعريفها ووضع حد لأطرافها مفهوم السياسة؛ فتقديم تعريف شامل كامل جامع محيط يسمح بتحديد المعنى الاصطلاحي للسياسة وتعيين حدود لها يُترك للمختصين في المجال ، لكن لنحاول ولنتوقف أولا عند المفهوم اللغوي لكلمة" السياسة " فهي مصدر من ساس الأمر سياسة أي قام به ،فنقول ساس زيدٌ الأمر أي دبره وقام بأمره وساس الرعية سياسة، أي قام بتدبير أمورهم ومنه قول رسول الله ص :"كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء"، بمعنى أنهم كانوا يقومون بتدبير شؤونهم، فالسياسة في اللغة العربية إذن : هي القيام على الشيء وتدبيره بما يصلحه أما في التعريف الغربي فهي كل ما له علاقة بتدبير الشؤون العامة للمدينة. أما السياسة العامة أو ما اصطلح عليه الفقهاء قديما بالسياسة الشرعية فإن تعريفها الخاص- وقد اخترنا تعريفا مبسطا- هو تدبير الأمر في الأمة داخلا وخارجا تدبيرا منوطا بالمصلحة، وهي أيضا تدبير الحاكم لشؤون الرعية بأنواع من الأساليب القولية والفعلية، وهذا تعريف فقهي إسلامي؛ أما التعريف الغربي للسياسة فمنه أنها بشكل عام الطريقة المنظمة النظرية أو التطبيقية لعمل الحاكم والمبنية على أسس معينة. الخلط بين مفهوم السياسة بمعنييها العام والخاص المذكورين آنفا، جعل مفهوم السياسة من المجالات التي استعصى واستشكل فهمها عن الناس، فلم يعد المرء يدري ما هو من صُلب السياسة ومن رحِمِها، وما هو شأنٌ عام يدخل في المفهوم العام للكلمة، لكنه لا يعتبر تسيُساً وإنما يدخل في مجال ما، كالاهتمام بالشأن العام والوضعية الاجتماعية والاقتصادية للبلد. والواقع أن نظرة الناس إلى كلمة السياسة تختلف باختلاف الوضع المُعاش واعتبار النظام القائم وطبيعة المجتمع، فإذا كانت بعض البلدان تَحدَّد لسكانها وبشكل عام المفهوم العملي للسياسة بمعنى المشاركة في الحملات الانتخابية والعمل من أجل مناصرة هذا الحزب أو ذاك؛ والانشغال ببرامج عمل وأنشطة حركية، تهدف للترويج لطرف معين على حساب آخر للفوز في الاستحقاقات الانتخابية، فإن هذا المفهوم نجده أوسع وأشمل في بلدان أخرى. وهكذا، نجد أن كل حديث في موضوع يمس الشأن العام أو الحكم أو الإدارة أو السلطة يُعتبر من السياسة ويتوجس منه الناس ويتخوفونه، وإذا حصل وتكلموا أداروا أعينهم خوفا ورهبا، لئلا يجلب عليهم المصائب وتحل بهم الكوارث وقد يُتهمون زورا وبهتانا بشتى الأشياء ، من طرف بعض أصحاب المصالح، وأولي الأغراض وأهل المنفعة الذاتية، وهذا ما خلق عزوفا سياسيا تعاني منه الكثير من البلدان ومنها المغرب. إنه رغم وجود إرادة سامية تتوخى النهوض بالبلاد في الكثير من المجالات ومنها بطبيعة الحال المجال السياسي، إلا أننا نجد عزوفا له عدة اعتبارات، أهمها شعور المواطن ألا فائدة من المشاركة لأنه يظن أن لا اعتبار لرأيه، وأن دار لقمان ستبقى على حالها؛ لكن هناك اعتبارات أخرى كثيرا ما تُغفل وقليلا ما تٌذكر، ومنها تصور المواطن للسياسة ومفهومه لها، حيث يفهم و يظن وهو على حق في غالب الأحيان، أن السياسة هو تسابق لمراكز نفوذ وكسب مواقع وقضاء مصالح ذاتية وهذا الفهم ينطلق من واقع الحياة السياسية ومراقبتها ومعايشتها. إن المواطن المغربي يحكم على السياسة ومفهومها لا من حيث نطق اللسان ولكن من حيث نطق الأفعال، وكيف للمواطن أن يشارك وهولا يستطيع التعبير عن رأيه بكل وضوح،ويستعمل أحيانا أسلوب التقية تخوّفاً من محاذير وانعكاسات سلبية على العمل أو المال أو الأهل،إذا أظهر تحزبه ودعمه لأحد الأحزاب القانونية الوطنية المعترف بها، وتجده لا يزال يخاف من بعض أعوان السلطة والمقربين إليها بله السلطة نفسها، بل كل من مر منها وبقي له نصيب من النفوذ. إن الزهد في السياسة عند المواطن يرجع لغلبة المفهوم النفعي الانتهازي المصلحي الذاتي للسياسييين إلا من رحم الله، فكيف يفهم المواطن تحالف من أتى من أقصى اليسار مع من أتى من أقصى اليمين؟ وكيف يفهم رفض التحالف الحزبي على أساس البرامج وقبل الاستحقاقات؟ وكيف يفهم أن تعطى القيادة لمن أتى في المؤخرة؟ وكيف يفهم انتقال البرلماني من حزب لآخر وهو الذي نجح على أساس القائمة الحزبية؟ وكيف يفهم أن يكون أول من يطعن في منع الترحال من قام بتقنينه؟ وأخيرا، كيف يُفهم تكالب البعض على أول حزب من حيث عدد الأصوات والشعبية، والعمل على تهميشه إبعاده؟ ولهذا،فإن إعادة الاعتبار للعمل السياسي تبدأ من تحديد مفهوم السياسة العملي لا اللفظي، التطبيقي لا النظري، الحقيقي لا الزائف مع إعطاء حرية التعبير الكاملة للأغلبية الصامتة التي نبذت السياسة وكل ما يقترب منها، لا لعدم وجود الرغبة في المشاركة ولكن لانقطاع الأمل في الإصلاح والتغيير، واليأس من الطبقة السياسية المتنفذة؛ وحرية التعبير لا تكفي إن لم تكن مقرونة بالاستماع والإنصات واعتبار الرأي وفتح المجال لكل من أراد المساهمة في الإصلاح وإلا كنا كمن قال ظلما وبهتانا في حق النساء "شاوروهن وخالفوهن" مع تحياتي الخاصة لبنات حواء في يومهن السنوي. *باحث مغربي من باريس