[تحية إلى الذين يأكلون خبزهم مُبَلَّلاً بعرقهم، ولا يمدُّون أيديهم على خبز ومِلح غيرهم ] خَسِرْنا كُلّ شيء وربحنا وجودَنا العاريَ من سرقة خُبْز الناس ومِلحهم. لم نأكل مال يتيم، ولا اعتدَيْنا على طعامِه، الذي يكفيه لِسَدِّ الرَّمَق. ليس لأننا أنبياء، انْتقَانا الله لنكون لِسانَه على الأرض، نهدي الناس إلى «الصِّراط المستقيم»، بل لأنَّنا نشأنا، نحن أيضاً في وَسَط فقير، متواضع، وخبرنا معنى الجوع والحرمان، ومعنى ضيق ذات اليَدِ، كما خبرنا الظلم والتَّسَلُّط والاستبداد بالرأي والقرار، وظُلِمْنا في كثيرٍ من لحظات الجَوْر، ولم نَجِد من ينصفُنا، أو يعطينا بعض ما هو حَقٌّ لنا. فما كان يُكيله لنا مقدم الدرب من شتائِم يَنْدَى لها الجبين، دون أن يردَعَه أحد، أو يقوى أحد على رَدِّه، بما كان له من سلطة وشكيمة، كان تعبيراً عن دولة الطُّغيان، ودولة البوليس التي عانيْنا قَهْرَها في مظاهر لاراف، التي كان كتب عنها القاص إدريس الخوري قصة معروفة ورائعة، وما عانيناه من قَمْع في المدرسة، وتَعْنِيف المُعلِّمين لنا، كان له على نفوسنا آثاراً لم نتخلَّص منها إلى اليوم، ناهيك عن الإحساس بالفروق الاجتماعية التي جعلتنا نكون طبقةً دُنيا بين الناس، لأننا كُنَّا، وفق شتائم أولاد الدرب لنا، نتغذَّى بالخبز والشَّاي، وإذا تحسَّنت الحال، ربما يكون هذا الخُبْز مُخَلَّلاً ببعض الزيتون، أو زيت الزيتون. هذه هي الجراح التي عَلَّمَتْنا أن نحيا بالنظَّر إلى الآخرين باعتبارهم ضحايا لِخُبْزٍ مسروق، ولِطعام مليء بكثير من عرق نفوسنا الكليلة. ولأنَّنا خَرَجْنا من هذا السِّرْداب، بكَدْحِنا وكِفاحِنا، ودون أن نَسْتَجْدِيَ أحداً ليتوسَّط لنا في عمل أو وظيفةٍ، أو يضعنا في منصبٍ، رغْماً عن غيرنا ممن هُم أَهْلٌ لهذا المنصب، أو هُم يستحقُّونه، أكثر مِنّا، بما لهم من خبرة وتجربة، فإننا آلَيْنا على نفسنا أن نحيا بخبزنا المُبَلَّل بعرق عملنا اليومي، وبكدحنا وتعبنا، رغم أننا، نحن، كُنَّا ضحيةً لكثير من المؤمرات، التي ما تزال جاريةً إلى اليوم، بأسلحة، تتغيَّر وتتجدَّد بتَجَدُّد تلك النفوس المريضة التي كان القرآن تكلَّم عنها، لأنَّها كانت دائماً موجودة وستبقى إلى أن يأخذ الله الأرض ومن عليها. لا أتحدَّث عن الخسارة هنا، بمعنى الحَسْرَة والنَّدَم، بل بمعنى الرِّبْح، والحرية والانطلاق، وصفاء النَّفْس والسَّريرَة. فمن تكن يدُه خالية من خُبْز الآخرين وملحهم، ومن رشاوي الدولة، أو المؤسسات التي تعمل على شراء الذِّمَم، يكون حُرّاً في فكره، وفي رأيه، وتكون بَطْنُه خاليةً من العَجين، كما يُقال في المثل المغربي، بما يعنيه العجين هُنا، من أكل خُبْز الآخرين وملحهم. وهذه الحرية، هي تضحية، وهي ضريبة لها ثمن، ولا ينبغي اعتبار الرأي الحُرّ هو كلام بلا عقاب، ثمَّة أكثر من شكلٍ به نُعاقَب على ما نقول ونفعل، أو على هذا الخروج عن قاعدة الفساد التي اسْتَشْرَت في نفوس الكثيرين من قَنَّاصي الغنائم، ومن آكلي لحْم البشر وعجينهم. فأي خبز يدخل بيتَك، دون أن تكون فيه قطرة من عرقك، أو دَمِك، وكَدِّك، فهو ليس خبزك، ليس بمعنى الحلال والحرام، بل بمعنى الشَّرَف والنَّزاهة والكرامة، وبمعنى حق الإنسان في أن يحيا عامِلاً، كادِحاً، في يَدِه شُغْلٌ به يضمن حياتَه، لا بما يأخذه من عرق الآخرين. هذا ما لم يتعلَّمْه هؤلاء الذين يسطون على مال الشَّعب، ويسطون على مال المؤسَّسات، ومقدرات البلاد، وهنا، لا بُدَّ أن أتساءل، كيف يمكن لإنسان سرق أرض غيره، أو زَرْعَه وحَصيدَه، أو أخذ منصب غيره، أي مالَه ومِلْحَه، بغير وجه حقّ، أن يكون سعيداً مُرتاح البال، ينعم برفاه الآخرين، دون أن يُحِسَّ بألم، أو بِجُرْح يَخِزُهُ، و يوقِظُه من نومه، أو يمنع عنه النوم؟ حين أذهب إلى هذا النوع من الخطاب، الذي قد يبدو مثالياً، أو نوعاً من «النبوَّة» التي لم تعُد تصلح لوقتنا، فأنا، فقط، أراجع معكم ما نحن فيه من انحدارٍ، ومن تَدَنٍّ في السلوك، وفي التَّعامُل، وفي التهافُت على الثروة وعلى الرَّفاه، في الوقت الذي نَدَّعِي فيه، وهذا ما يُؤلِمُني أكثر، نحن من نكتب، ونفكر، أنَّنا نخبة المجتمع، وضمير المجتمع الذي هو في حاجة لنا، في الوقت الذي يتحوَّل فيه هذا «المثقف» المزعوم، إلى لِصٍّ صغير، فبمجرد أن تُتاح له خَزْنَةُ مالٍ صغيرة، يتنكَّر لِدَمِه، ويخلع عنه لباسَ المثقف، ليتحوَّل إلى لِصٍّ بلا أخلاق، ثمَّة لصوص في التاريخ من الشُّعراء ومن الكُتَّاب، كانت لهم أخلاق، كانوا يأخذون من الأغنياء ويعطون للفقراء والمُعْوِزِين، من مثل «الشُّعراء الصعاليك»، ويمكن أن أذكُر أيضاً جان جنيه، وغيرهم كثير، لكن حين يصبح اللص بدون أخلاق، فهذا يتحوَّل، رأساً، كما يُقال إلى مُجرمٍ يَنْتَهِك مُمْتلكات الناس، ويضع يده على المال العام بدون حَقّ. فالفرق بين اللصوصية والإجرام، هو فرق في الدرجة وليس في النوع، لأنَّ كلا الطرفيْن سارق، ولا يخجل من أن يأكُلَ طعامَ غيره. وإذا كان الأمر يتعلَّق بالمثقف، فهذا يصبح كارثةً وحَدَثاً جَلَلاً، لا يمكن اسْتِساغَتُه والسّكوت عنه. حذارِ من أن تنجرف الكتابة والفكر والإبداع إلى التَّكَسُّب، واستعمال هذه السلطة الرمزية، كأداة لبلوغ غيرها من السّلَط التي لا قيمة لها، باعتبارها عابرةً، سخيفةً، وينتهي أصحابُها بمجرد انفراطها من يدهم. فان غوغ العظيم، مات بئيساً، لا مال ولا طعام له، وهو اليوم عظيم بعمله، وبما تركه للإنسانية من تُحَف تُدَرَّس في الجامعات ومعاهد الفن والجمال. بدر شاكر السياب، طُرِدَ أبناؤه منن بيتهم الفقير البئيس في منطقة الأعظمية ببغداد، ومات في ظروف قاسية، لم يكن يجد ما يؤدي به ثمن البيت الذي كان يكتريه، فهو اليوم أكبر من أولئك الذين كانوا يعيشون في قصور بغداد، وفي فنادقها الفخمة. فتمثال السياب ما زال واقفاً، شامخاً، هو وتمثال الرصافي، فيما تماثيل المستبدين، الفاسدين، مثل تمثال صدام حسين وحافظ الأسد، أُسْقِطَت، لأنَّها كانت مُسَوَّسَةً من الداخل، وفاقدة للسَّنَد الأخلاقي والتاريخي، للِسَّنَد الشعبي، المبني على الحرية والديمقراطية، وحق الإنسان في الشّغل والسَّكَن. ليس الكاتب لا لِصّاً بأخلاق، ولا لِصّاً بدون أخلاق، الكاتب إنسان، عليه أن يكون شمعَةً، بقدر ما تتآكَل في استقامتِها وشموخها، فهي تُزِيل العَتمَة والظُّلْمَة عن الآخرين، وتفتح لهم طريق الضوء، ووُضُوح الرؤية. وحين يخْتَلُّ هذا المعنى، يصبح الكاتب سارقَ ملح و ماءٍ، بدل أن يكون سارِقَ نارٍ، مثلما فعل برومثيوس، الذي من أجل الآخرين عَرَّض نفسه لغَضَب وعقاب الآلهة، لأنه وهَبَ دَمَه للمُسْتَضْعَفِين، واسْتَصْفَى نَفْسَه، هذه، لغيره، لا لأمراضٍ خبيثة، حين تحيق بالإنسان، تُحَوّلُه إلى طعام فاسِدٍ، تعافَه حتَّى القَوارض والجُرْدان الكريهَةُ