قمة "تيكاد 9".. المغرب يعزز موقعه الاستراتيجي والجزائر تواجه عزلة دبلوماسية متزايدة    الأمم المتحدة تشيد ب"كرم" الملك محمد السادس على إثر المساعدات الإنسانية إلى غزة        اعتماد الانتقاء عبر الملفات بدل الامتحانات في ولوج الماستر    الخميس تحت الشمس والغيوم.. حرارة مرتفعة وأمطار متفرقة    الرابور مورو يحيي حفل ضخم بالبيضاء بشبابيك مغلقة    تعيين سيدي معاد شيخًا للطريقة البودشيشية: إرادة مولوية سامية ورؤية ربانية    سامويل ولُولي... حين قادهم الطريق إلى بيت الجار        ارتفاع عدد الموقوفين في قضية هتك عرض قاصر بموسم مولاي عبد الله    إطلاق ميزة الدبلجة الصوتية بالذكاء الاصطناعي في "فيسبوك" و"إنستغرام"        حجز عجول بميناء طنجة .. ومستوردون يوقفون الاستيراد بسبب الرسوم    الملك يهنئ هنغاريا بالعيد الوطني    توجيهات جديدة لضمان التطبيق السليم للعقوبات البديلة في المغرب    كريستوف بوتان بخوص المساعدات الإنسانية لغزة: بفضل نفوذه الشخصي ومكانته الخاصة الملك محمد السادس الوحيد القادر على مثل هذه المبادرات    البيت الأبيض يطلق حسابه الرسمي على منصة "تيك توك" الصينية    خطة السيطرة على غزة .. تصعيد عسكري يهدد مباحثات الهدنة بالانهيار    إيران تهدد باستخدام صواريخ جديدة    تحقيق بفرنسا إثر وفاة مدوّن فيديو    أوروبا تسجل رقماً قياسياً في إصابات الأمراض المنقولة عن طريق البعوض            مقاولات المغرب الصغرى والمتوسطة "تحت رحمة" الأزمة: 90% منها لا تجد تمويلا بنكيا    دراسة: أجهزة السمع تقلل خطر الخرف لدى كبار السن بنسبة تفوق 60%    تقرير: ثلث شباب المغرب عاطلون والقطاع غير المهيكل يبتلع فرص الشغل            للمرة الثالثة: الموقف الياباني من البوليساريو يصفع الجزائر وصنيعتها.. دلالات استراتيجية وانتصار دبلوماسي جديد للمغرب    مدرب تنزانيا: مواجهة المغرب في الشان مهمة معقدة أمام خصم يملك خبرة كبيرة    إطلاق فيديو كليب "رمشا الكحولي" بتوقيع المخرج علي رشاد        شباب الريف الحسيمي يواصل تعزيز صفوفه بتعاقدات جديدة        أمين عدلي ينتقل إلى الدوري الإنجليزي في صفقة ضخمة    إيزاك يخرج عن صمته: "فقدت الثقة بنيوكاسل ولا يمكن للعلاقة أن تستمر"    أمن طنجة يوقف مواطن دنماركي مبحوثا عنه دوليا    تمهيدا لتشغيل الميناء.. إطلاق دراسة لاستشراف احتياجات السكن في الناظور والدريوش        المغرب يعزز مكانته كقوة إقليمية في قلب التنافس الدولي بالصحراء والساحل    مبابي يقود ريال مدريد لتحقيق أول انتصار في الموسم الجديد    اختتام فعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفن المعاصر بمدينة ميدلت    حجز 14 طنا من البطاطس بتطوان قبل توجيهها للبيع لانعدام شروط النظافة والسلامة    البطولة الإحترافية 2025/2026: المرشحون والوجوه الجديدة ومباريات الجولة الأولى في إعلان MelBet    بدر لحريزي يفوز بمنصب ممثل كرة القدم النسوية في عصبة الرباط سلا القنيطرة    تكريمات تسعد مقاومين في خريبكة    المركز الفرنسي للسينما يكرّم المخرجة المغربية جنيني ضمن سلسلة "الرائدات"    10 أعمال مغربية ضمن قائمة ال9 لأفضل الأعمال في جائزة كتارا للرواية العربية    وزارة الصحة تطلق صفقة ضخمة تتجاوز 100 مليون درهم لتعزيز قدرات التشخيص الوبائي    مهرجان سينما الشاطئ يحط الرحال بأكادير    دراسة: المعمرون فوق المئة أقل عرضة للإصابة بالأمراض المتعددة    خبيرة أمريكية تكشف مدة النوم الضرورية للأطفال للتركيز والتفوق    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خليفة بغداد في باريس..
نشر في هسبريس يوم 19 - 11 - 2015

الهجمات الإرهابية الدامية التي تعرضت لها باريس مؤخرا، ينبغي اعتبارها نقطة تحول لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، ليس على فرنسا وحدها ولا حتى على أوروبا، بل على العالم أجمع.
ففرنسا ليست دولة عادية، بل هي قوة نووية وعسكرية واقتصادية وثقافية، وعضو دائم في مجلس الأمن، وشريك حاضر في السياسة الدولية، وفي كل الملفات الديبلوماسية المعقدة.
لكن هل فرنسا في حاجة اليوم للكلام الذي يتكرر في المناسبات الدامية المماثلة، والتي أصبحت تتوالى بوتيرة مقلقة؟ هل هي في حاجة لمن يدعو المسلمين لإصلاح تعليمهم، وإلى تنقيح فقههم، ومحاصرة مظاهر التدين في الشارع العام، وحصر الدين في أماكن العبادة، حتى لا يساهموا في إنتاج التطرف والمتطرفين؟
هل فرنسا في حاجة إلى مسلمين يجلدون ذواتهم ويعتذرون ويقدمون قرابين عن جرائم لا علاقة لهم بها؟
هل هي في حاجة إلى قيام تلفزات عمومية في الضفة الجنوبية للمتوسط بنقل ارتسامات مواطني الشارع وتضامنهم وشجبهم وإدانتهم وتبرأهم من الفاعلين؟
هل هي في حاجة لمن يزينون "بروفايلاتهم" بألوان علمها ويتبارون في ترديد مقاطع من نشيدها الوطني "لامارسياز"؟
فرنسا ليست في حاجة إلى هذا كله، وليُرح جماعة "المداهنين" أنفسهم، فالغرب كله -وليس فرنسا وحدها- يدرك أن الأسباب الحقيقية لما جرى وسيجري، لا علاقة لها لا بالدين ولا بالتدين ولا بمناهج التعليم، بل سببها الرئيسي -إن لم يكن الوحيد- هو غياب الديموقراطية في العالم العربي.
فعندما غزت القوات الأمريكية العراق في الظروف المعروفة، لم تسع لإقامة نظام ديموقراطي ولو على أساس فيدرالي أو كونفدرالي، بل فتحت الباب أمام حرب طائفية أدت -في مرحلة أولى- إلى ظهور الزرقاوي ومن معه، ولم تكن تلك صدفة، فقد كتب كثيرون مبكرا أن أحد اهداف غزو العراق هو تدشين مواجهة بين السنة والشيعة، فالكوفة أريد لها أن تكون منافسة لمكة، وكربلاء أريد لها أن تكون بديلا للمدينة المنورة.. فأصبح لهؤلاء حجهم ولأولئك حجهم، ولهؤلاء مشاعرهم المقدسة ولأولئك عتباتهم المقدسة... بل صار لهؤلاء إسلامهم.. ولأولئك إسلامهم..
ولا أحتاج هنا للتذكير بما فعلته المليشيات الشيعية -ولا تزال- بالمدنيين السنة في العراق وسوريا واليمن ولبنان.. السنة الذين تحولوا غصبا عنهم إلى حاضنة شعبية للتنظيمات المتطرفة من القاعدة إلى داعش حاليا، بفعل غياب النصير وموت الضمير الدولي الذي عادت ما يحتفي لولادة باندا.
لقد تحول العراق بعد أكثر من عقد من الإطاحة بنظام صدام، إلى دولة طائفية لا مجال للتعايش فيها بين السنة والشيعة والأكراد.. وبقية الأقليات الجينية والعرقية.
ولم يقف الأمر عند العراق، فقد تدخل الغرب علنا لإجهاض المكاسب القليلة التي جاء بها "الربيع العربي"، بينما تولت دول الخليج تمويل الانقلابات والثورات المضادة والحروب الأهلية.. وها هي اليوم تدفع الثمن من أمنها الوطني.
الهاجس المعلن للغرب يومها كان هو ضمان "أمن إسرائيل"، لأنه يدرك أن زحف الديموقراطية على دول الجوار العربي معناه باختصار زوال هذا الكيان الغاصب.. وهل هناك نظام منتخب ديموقراطيا يمكن أن يدافع عن "سلام الشجعان"..
ومن عجائب التاريخ، ان المعادلة الآن اصبحت تتعلق بأمن دول هذا الغرب نفسه وليس فقط بأمن مدللته "إسرائيل".
خلال متابعتي للقنوات الفرنسية قبيل الانتخابات التشريعية التركية، كانت بعض الاصوات تدعو مباشرة إلى الإطاحة بالحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، بل إن صحفيين ومحللين فرنسيين لم يكونوا يخفون رغبتهم في رؤية هذا الحزب يتقهقر ويخسر الريادة التي حافظ عليها باستحقاق طيلة 13 سنة. وعندما جاءت النتائج معاكسة لهذه المتمنيات، أصبح الحديث عن "السلطان أردوغان"، في إيحاءات تاريخية غير خافية، بل تمت الاستعانة ب"خبراء" أتراك معارضين، نفوا أصلا أن يكون قد تحقق شيء في تركيا خلال السنوات الأخيرة، بل اعتبروا الأمر مجرد تضخيم إعلامي وبروباكاندا "فاشية"..
لماذا بدت "فرنسا النخبة"، ممتعضة من نتائج الانتخابات التركية رغم أنها جرت في ظروف ديموقراطية؟ ولماذا أصرت "فرنسا الرسمية" قبل ذلك على نكء جرح "المذبحة الأرمينية"، في الوقت الذي لا تقبل فيه فرنسا نفسها الخوض في ملف جرائمها الاستعمارية، فأحرى تقديم مجرد اعتذار شفوي للجزائر وغيرها من المستعمرات؟
السبب بسيط وهو أنها ترى أن نجاح التجربة الديموقراطية في تركيا قد تنتقل عدواه إلى البلدان المجاورة، وهذا ما يفسر إصرار الغرب "الديموقراطي" على دعم الديكتاتوريات العربية، ووأد أية بارقة امل في تغيير ديموقراطي في المنطقة..
ومن غريب المصادفات، أن التفجيرات وقعت في نفس اليوم الذي كشف فيه موقع "ميديابار" الشهير خلاصة تقرير الخبرة العلمية التي أكدت أن الوثيقة التي ذكرت حصول الرئيس السابق ساركوزي على 50 مليون أورو من نظام القذافي صحيحة.
وقبل أيام توجه وفد كبير من رجال الأعمال الفرنسيين إلى إيران لحجز حصته من الكعكة..
وفي الحالتين معا، يتضح ان الساسة الفرنسيين ينتقدون الديكتاتورية علنا، بينما يأكلون حتى التخمة على موائد الديكتاتوريين الدمويين، ومن قبض من القذافي هل سيتورع عن القبض من حكام الخليج "الكرماء" وغيرهم؟
كما يتضح أن الدولة الفرنسية -كغيرها من الدول الغربية- مستعدة لنسيان شعارات "حقوق الإنسان" حين يتعلق الأمر بفتح المجال لشركاتها من أجل أكل اموال الشعوب المستضعفة بالباطل.
فقد نسيت مثلا كل مآخذها على نظام الملالي في إيران، وطوت صفحة حقوق المرأة والأقليات، وصفحة الحريات الشخصية والدينية والسياسية..
وهي نفس فرنسا التي استمرت في الدفاع عن نظام بنعلي حتى آخر نفس، ونزل مسؤولوها ضيوفا على حساب شعبه، ليقضوا عطلا طويلة الأمد ويعودوا محملين بالهدايا..
وهي أيضا نفس فرنسا التي طاردت صحافتها الرئيس الغابوني الراحل عمر بانغو، في ايامه الأخيرة، فاضطر للقاء عزرائيل في إحدى مصحات برشلونة، لأن "الرأي العام" الفرنسي لم يقبل أن يعالج على أرضه مسؤول "فاسد"، بينما الكل يعلم أن بانغو كان مجرد موظف لدى الحكومة الفرنسية بدرجة رئيس دولة على مدى 43 سنة، وأن الشركات الفرنسية تنهب خيرات هذا البلد منذ قرون، دون شفقة.
ألم يفكر أحد لماذا يتم الإصرار على إهانة "الرئيس" السيسي والاستخفاف به في العواصم الغربية التي يزورها، رغم أنها تدعم انقلابه؟ أليس في ذلك رسالة ل"الكائن الشرقي" بأنه لا يساوي شيئا في ميزان "الديموقراطية"؟
الغرب قارئ جيد للتاريخ، ويعرف أن أقصر سبيل نحو التقدم هو الديموقراطية، والتجربة التركية أكبر دليل.. خاصة وأنها كذبت "النظرية" التي تم تسويقها منذ الحقبة الاستعمارية من أن الإنسان الشرقي لا يمكن أن يكون ديموقراطيا، ومن أن معتقداته تمنعه من أن يستفيد من هذه الآلية الراقية لتدبير شؤون الدولة.
اليوم، تغيرت المعادلة بشكل دراماتيكي، فدعم الديكتاتوريات لم يعد كافيا، وقد تأكد ذلك مع فشل النظام المصري الحالي على كافة المستويات، حيث إنه فقد السيطرة حتى جزء من اراضي البلد، ومسلسل سيناء مازال في بدايته بل قد يقوم الطيران الروسي بقصف داعش هنا دون استئذان. كما أن التراخي في التعاطي مع الملف السوري وترك الوقت الكافي لنظام بشار لممارسة الفظائع، ومد الفرقاء في ليبيا بالوقود لمواصلة الاقتتال، بل وتحول الوسطاء الأمميين إلى مجرد "مخبرين" يتقاضون مبالغ مقابل صب الزيت على النار، والمآل الذي قد تنتهي إليه تونس في حالة ما إذا تخلى الفرقاء فيها عن تعقلهم، وانخرطوا في لعبة الفوضى التي راهنت عليها "الرجعية" العربية للانقلاب على ثورة الياسمين... كل ذلك من شأنه أن يوفر وقودا لا ينضب لداعش وغيرها، خاصة إذا تحولت إلى "فكرة" متحررة من قيود التنظيم..
ونموذج واضح لذلك، يتمثل في حركة بوكو حرام النيجيرية (غير العربية). هذه الحركة الإرهابية التي التحقت هي أيضا بداعش، لم تولد من فراغ، ولا علاقة لها بمنظري الإرهاب العرب، بل هي نتاج طبيعي لسوء تدبير الثروات المتنوعة للبلد، وغياب العدالة في توزيعها، بل إن المسلمين الذين يمثلون حوالي ثلثي السكان، تعرضوا لكل أنواع البطش والتنكيل والحرمان والتهميش طيلة عقود، ودفعوا ثمن الصراع الفرنسي الأمريكي على النفط النيجيري وغيره من الثروات..
إن هذا هو السبب في تحول الإرهاب إلى مارد يطرق أبواب العواصم الغربية.. فالحرب لم تعد تدار عن بعد، من غرف العمليات المكيفة في القصور الرئاسية ومقرات وزارة الدفاع، عبر تقنية الفيديو كونفرانس، ولم يعد ممكنا حسمها بالقصف الصاروخي أو باستعمال الطائرات حتى من دون طيار في أطار الحرص على أرواح جنود البلد.. لقد نجح الإرهابيون في نقل المعركة إلى قلب باريس، كما فعلوا سابقا في نيويورك ومدريد ولندن.. لكن الهجمات الأخيرة كانت فارقة على اكثر من صعيد، ونتائجها الحقيقية ستكون بعيدة المدى..
إرسال الطائرات والبوارج وقصف مكان هنا أو هناك، ليس في الواقع سوى محاولة للململة الكرامة المبعثرة، سيرضي غرور المواطن الفرنسي، لكنه لن يقضي على اصل المشكل..
فأجيال.. وأجيال من الأطفال والفتيان والشباب الذين كانت لهم أحلامهم البسيطة والعادية، تم وأدها بسبب حسابات بوش وجماعته المتطرفة، وتوني بلير وبقية شلة "التفوق العرقي".. أدت إلى تأصيل حالة من الكره اتجاه الغرب، ووجدت من يستثمرها ويحولها من طاقة للبناء إلى آلة للموت والحرق..
فالإرهاب - كما يعرف الغرب قبل غيره- هو نتيجة وليس سببا، نتيجة لحرمان ملايين البشر من حقهم في الحياة الكريمة، ليس في بلدانهم الأصلية فقط، بل حتى في هذا الغرب نفسه.
في فرنسا - مسرح الأحداث الأخيرة- هناك حديث يومي عن المهاجرين، وهناك تضخيم إعلامي وسياسي تلقائي لأي حدث مهما كان بسيطا (فجأة تذكر الجميع مثلا الأصول الجزائرية للاعب بن زيمة بعد انفجار فضيحة الابتزاز)، وهناك إصرار من النخبة الفكرية والسياسية على التخويف من الخطر القادم من الشرق والجنوب..
في فرنسا، حيث ولدت شعارات حقوق الإنسان، أصبح مطلوبا من المسلم، حتى لو كان مستثمرا ذا مال، أو عالما ذا كفاءة علمية عالية، أن يتخلى عن هويته ومعتقداته ولغته وثقافته وإرثه الحضاري والقيمي بمجرد عبوره الحدود، وأن ينصهر في المجتمع المضيف الذي لن يسمح له بأدنى مظهر من مظاهر الاختلاف.
ولعل النجاح الحقيقي ل"غزوة باريس" سيتمثل في الإجراءات التي تم الشروع في اتخاذها، والتي لن تخرج عن إطار مزيد من الضغط والتضييق على الفرنسيين المسلمين، ففرنسا هي البلد الوحيد في العالم الذي يشكل الإسلام مادة يومية في وسائل إعلامه، لأن مكونات الطبقة السياسية تزايد على بعضها حتى حول ما على المسلمين ارتداؤه وأكله وشربه.. أليس غريبا أن يشكل امتناع التلاميذ المسلمين عن تناول لحم الخنزير في المطاعم المدرسية مادة لحملة انتخابية، عنوانها : ضرورة عدم خضوع "الجمهورية" ل"الابتزاز"؟
ولعل من يتابع كتابات وتصريحات الصحفي إريك زمور مثلا، يستطيع أن يرى حجم الفاشستية التي أصبحت تطبع خطاب جزء من "النخبة" الفرنسية، التي تريد أن تعود بالتاريخ إلى الوراء، إلى زمن كان فيه المهاجرون مجرد عبيد أو يد عاملة رخيصة، بل إن زمور يريد من المهاجرين أن ينصهروا ويذوبوا (Assimilation) لا أن يندمجوا (Intégration) فقط، لأنه يرى ان احتفاظهم بمقومات هويتهم الاصلية، أمر غير مقبول.
ولهذا يتم التعامل حتى مع أبناء الجيلين الثالث والرابع على أنهم مجرد "مهاجرين"، رغم أن آباءهم وأجدادهم فرنسيون، ورغم أنهم لا يعرفون وطنا آخر غير فرنسا، ولا يتحدثون لغة أخرى غير الفرنسية.. ومن تبعات ذلك أنهم يعاملون في أفضل الحالات كمواطنين من الدرجة الثالثة، فيحرمون من الوظائف بسبب لون الشعر او العينين، ويمنعون الترقية لأن اسماءهم عربية أو إسلامية..
إن اختيار فرنسا تحديدا للقيام بعمليات إرهابية استعراضية، لم يأت اعتباطا، بل لأنها البلد الذي يتوفر على أرض خصبة لزرع التطرف كرد فعل على تطرف من نوع آخر.
إن مشهد التلميذة المحجبة التي تعرضت لقصف كلامي غير مبرر من طرف سيدة فرنسية في أحد القطارات مثلا، لا يمكن إلا ان ينتج تعاطفا قد يتحول إلى وقود لحرب طويلة الأمد.. فالتطرف يجر التطرف، والمتطرفون في نهاية المطاف يتبادلون الخدمات رغم التناقضات الواضحة في خطابهم.
يصعب على العقل أن يتفهم كيف أن الدنيا تقوم ولا تقعد بسبب نكتة أطلقها فنان كوميدي عن اليهود أو عن إسرائيل في لحظة ترفيه عابرة، فتتحرك الأجهزة الإعلامية والأمنية والقضائية لسحله، بينما تتم الإساءة إلى مقدسات المسلمين بشكل شبه يومي، وخارج أي سياق "فني".. وعندما يحتجون يواجهون بعبارة "حرية التعبير.. وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء"، الذي لم يحدث في التاريخ أن أنصف شاكيا منهم..
وإحدى النتائج بعيدة المدى لما جرى ليلة 13 نوفمبر الجاري بباريس، أن جيش الغاضبين والناقمين على "فرنسا" سيتعزز أكثر، مع توالي ردود الفعل السياسية والحزبية والإعلامية التي تضع المهاجرين في سلة واحدة مع الإرهابيين.
فكل اعتداء أو إجراء عنصري أو قرار سياسي تمييزي، سيكون بمثابة تحريض مباشر على "بيعة" البغدادي.. (إحراق المصاحف، تخريب المساجد.. مداهمة البيوت، الاعتقال بالشبهة..).. بل من المؤكد أنه سيصير في حكم المعتاد الحديث عن قتل "مشتبه به" من طرف قوات الأمن بسبب سحنته المغاربية، أو ملامحه الشرق أوسطية..
فكيف إذن، يمكن أن تقنع شبابا مندفعا بالتعايش مع هذا التمييز الفادح، في بلد يتحدث شعاره عن الحرية والمساواة والأخوة؟
على فرنسا أن تدرك -وهي تدرك ذلك بالتأكيد- أن المنحدرين من مستعمراتها السابقة (خاصة العرب والمسلمين منهم)، من واجبهم أن يحترموا قوانينها ومبادئها، لكن لهم الحق بالمقابل في أن يكونوا مختلفين، وفي أن يتمسكوا بمقومات هويتهم الاصلية.. وعليها أيضا أن تدرك -وهي مدركة بالتأكيد- أن المهاجرين وابناءهم، ساهموا ويساهمون في بناء فرنسا، وانهم ليسوا سبب مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية.. بل كانوا ولايزالون سبب رفاهيتها.. فالكل تحدث عن أصل وفصل الإرهابيين الثمانية، لكن لم يتحدث عن عدد العرب والمسلمين الذين كانوا ضمن رجال الإنقاذ وفي المستشفيات..
وملاحظة أخرى..
في اليومين اللذين سبقا الأعمال الإرهابية، تنافست جريدة لوموند ومجلة لوبوان وقناة تي إف 1 وغيرها.. على تخصيص مساحات واسعة لقصة الممثلة المغربية لبنى ابيضار بتفاصيلها المعروفة.. هذا الخبر الذي لا قيمة له، والذي له أوجه أخرى أغفلتها تلك الصحف والقنوات، لم يتم فيه فقط إقحام "المتطرفين" والجزم بهوية الواقفين وراء الاعتداء "المفترض" بل تم التذكير بأن أبيضار "أمازيغية"، وهو وصف لم يوضع اعتباطا، ولا جاء في إطار تنوير القراء.. ففرنسا لازالت تتعامل مع مستعمراتها القديمة بنفس الاساليب الكولونيالية القائمة على زرع المتفجرات العرقية والألغام الطائفية الموقوتة.. بل لازالت تضع المصالح اللغوية والثقافية قبل المصالح الاقتصادية والسياسية..
فلا يمكن أن تحدث في المغرب إشكالية متعلقة بالهوية، وتحديدا بالدين واللغة، إلا وكانت البصمة الفرنسية حاضرة، بل إن "وليدات فرنسا" -وهو توصيف ملطف للعملاء والحرْكيين الجدد-، اصبحوا يتحركون بوجوه مكشوفة، ويساهمون علنا في خلق الفتن وتأزيم الأوضاع.
ولعل ما يبرر نظرية "المؤامرة" هنا، أن هذه التحركات لا تقتصر على المغرب فقط، بل إن نفس الممارسات تحدث في تزامن مريب في كثير من المستعمرات الفرنسية السابقة بشمال إفريقيا.
فهل هي مجرد صدفة أن تتزامن خطوة الدعوة لتدريج التعليم في كل من المغرب والجزائر؟ وهل هي مجرد صدفة أن يكون مستوى اللغة العربية لدى وزيري التعليم في البلدين ضعيفا جدا ومثيرا للشفقة؟
وهل أحتاج للتذكير بالشركات الفرنسية التي تتصرف وكأنها قوة احتلال، وفي فضائح امانديس وليديك ما يغني عن التفصيل؟
وهل أحتاج للتذكير بما كتبه وزير الثقافة الأسبق، الاشتراكي بن سالم حميش عن كون أربعة مخرجين مغاربة فقط يرفضون التمويل الأجنبي لأعمالهم، لأنه مشروط بالمس بالمقدسات وبتشويه صورة البلد؟..
ما ينبغي التوقف عنده ختاما، هو أن التعاطف مع فرنسا هذه المرة لم يكن بالإجماع في مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال التعليقات والمقالات التي نشرت بالمناسبة، بل إن هناك من ذكّرها بماضيها الاستعماري الأسود، وحاضرها "الامبريالي" الأكثر سوادا، وهناك من شمت فيها لأنها شربت أخيرا من نفس الكأس التي شرب منها المسلمون طيلة عقود..
أغلب هؤلاء، ليسوا متعاطفين مع داعش ولا يتبنون أفكارها، ولكنهم مصدومون من حالة الميز التي يتعرض لها الأموات قبل الأحياء..
فداعش قتلت من المسلمين أضعاف أضعاف ما قتلت من "الكفار" باختلاف مللهم ونحلهم..
والمليشيات الشيعية مارست التطهير الطائفي في العراق على مدى أكثر من 12 سنة.. ولاتزال..
وإسرائيل كلما كانت عندها أزمة سياسية او اقتصادية داخلية إلا وقتلت بضع مئات من الفلسطينيين للخروج من الإشكال..
وروسيا تدخلت عسكريا في سوريا لتنال حصتها من دماء الابرياء.. وفي تاريخ أمريكا ما يغني عن التفصيل في هذا المجال.. وفي الصين يتعرض المسلمون للتضييق والحصار ويمنعون حتى من أداء شعائرهم الدينية.. وفي بورما يتعرضون للذبح والتهجير دون أن يحتج أحد..
إن الخطر الحقيقي هو أن معالم "تفهم" لما قامت به "داعش" في باريس بدأت تظهر في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو "تفهم" قد يتحول إلى "تعاطف"، إذا استمر منطق الكيل بمكاييل مختلفة..
فإذا كان ضحايا الإرهاب متساويين في "الإنسانية"، فينبغي للعالم أن يحزن ويعلن الحداد على الجميع دون تمييز بسبب الدين او العرق او اللون، أما إذا كان الضحايا طبقات بعضها فوق بعض، فقد لا يجد المحرومون من "التضامن العالمي" سوى ترديد مقولة أبي سفيان "لم آمر بها ولم تسؤني"، تعليقا على "غزوات داعش" التي لا أحد يعلم أين ستكون محطتها الموالية..
اليوم هناك تطور نوعي، فنحن اليوم لسنا أمام "إرهاب" الستينات والسبعينات الذي كان "أبطاله" يسعون في الغالب للفت الانتباه إلى "قضية" أو "فكرة" ما، أو يحاولون دفع "الليبرالية" لفرملة تغولها، أو يبحثون عن وهم ثوري، بل نحن أمام "إرهابيين" يعتقدون أن الموت بداية وليس نهاية، وأن الحياة الحقيقية تبدأ فعلا بعد تفجير النفس.. لا يملكون "قضية" حقيقية يدافعون عنها.. ولا يمكن للخوف من القتل أن يردعهم..
من المؤكد أن العالم دخل عهدا جديدا بعد أحداث باريس.. وبعد إقرار روسيا بأن طائرتها تعرضت لعمل إرهابي.. لكنه سيكون عهدا أسود بالنسبة للعرب والمسلمين .. أكثر سوادا مما تعرضوا له بعد 11 شتنبر.. فمليار و300 مليون مسلم هم الآن إرهابيون إلى أن يثبت أنهم إرهابيون..
https://www.facebook.com/my.bahtat


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.