علاقة المغرب بالولاياتالمتحدةالأمريكية غير طارئة على التاريخ الحديث، بل هي متجذرة فيه وراسخة بحكم انسجام الخطوط العريضة لهذه العلاقة وامتداداتها في إطار تحالفات ثابتة وصداقة مبنية على التقارب والود والتفاعل. مثلما حرصت الولاياتالمتحدةالأمريكية أن يبقى المغرب حليفا استراتيجيا لها، حرص المغرب أن يصون علاقته بها ويطورها إلى أبعد الحدود الممكنة في إطار ديبلوماسية متوازنة تجمع بين الخطين الأوربي والأمريكي. وعلى مدى العقود العشرة الماضية تفاعل البلدان عبر سلسلة من القرارات المرتبطة بتطور الأحداث الإقليمية والدولية، بدءا بدعم التحالف العالمي ضد دول المحور خلال الحربين الكونيتين ومرورا بانحياز المغرب إلى معسكر الولاياتالمتحدة في خضم الحرب الباردة وانتهاء بدعم الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحرب على الإرهاب عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. ويبقى المغرب أحد أبرز الدول العربية وأكثرها واقعية في تعزيز التعاون العربي الأمريكي على مختلف المستويات. وقد ظلت نظرة الولاياتالمتحدةالأمريكية للمغرب على مدى تعاقب الحكومات والرؤساء، من الجمهوريين والديمقراطيين، إيجابية في مجملها، تتسم بالاعتبار وبعد النظر وبتغليب المصالح المتقاطعة في إطار القيم السياسية المشتركة. وإن كان المغرب لا يتوفر على ثروات طاقية مؤثرة كما هو شأن دول الخليج العربي وبعض دول شمال إفريقيا، إلا أن الولاياتالمتحدة تدرك أن ثروة المغرب الحقيقية تكمن في هويته الثقافية وموقعه الجيو-استراتيجي وقدراته غير المحدودة على التواصل ضمن مجموعات متنوعة من التحالفات الدولية داخل العالم العربي وخارجه، ذلك أن المغرب يشكل جسرا استثنائيا بين ضفتي المتوسط وبين أمريكا والعالم العربي. وهو البلد الذي أخذ يبرز في العقدين الأخيرين من حيث ديناميته السياسية واحدا من الدول العربية الأكثر رغبة في تطوير منظومته السياسية والأشد حرصا على رعاية مسار الانتقال نحو الديمقراطية والتعدد. وبذلك فإن المغرب يمثل نموذجا عربيا ناجحا من حيث استيعاب الراهن السياسي العالمي وقدرته على تطوير مؤسساته دون إضعافها أو العبث بها كما هو الشأن في بعض الدول العربية الآن. على مستوى التدبير السياسي، يستفيد المغرب اليوم من التحولات العاصفة داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويستطيع بفعل قيمه الثقافية ومساراته التاريخية أن يحول تلك العواصف إلى قوة دافعة لأجل تحقيق مزيد من التقدم في إطار ما يسمى في المعجم السياسي المغربي "بالانتقال الديمقراطي". ويترجم هذا المفهوم التعاقد الجدي والالتزام المتبادل بين سلط المجتمع ومؤسساته لجعل مسألة التدبير السياسي للشأن العام مسألة متقاسمة وإطارا جامعا لممارسة العمل السياسي. فقبل انطلاق ثورات ما سمي "بالربيع العربي" بسنوات عديدة أسس المغرب لفلسفة التناوب السياسي بما سمي حينئذ بحكومة التناوب التي قادها المناضل السياسي المغربي المعارض، عبد الرحمن اليوسفي، في إطار توافق تاريخي بين الملك والمعارضة. ولم تتوقف تجربة التناوب بحكومة اليوسفي، بل امتدت لتشمل حكومة عباس الفاسي، ثم أخيرا حكومة عبد الإله بنكيران التي يقودها لأول مرة في تاريخ المغرب السياسي الحديث حزب إسلامي محافظ. وفي مدار هذه التوافقات السياسية الناجحة، أقدم المغرب على تقوية تدبيره السياسي الجديد وتحصينه بمجموعة من الإجراءات العملية والمتمثلة أساسا في إصلاح منظومة الانتخابات وإصلاح مدونة الأسرة والإقدام على إنشاء هيأة الإنصاف والمصالحة في خطوة تاريخية ونادرة في التاريخ السياسي العربي الحديث، وأخيرا تقديم وثيقة دستورية جديدة ومتقدمة حظيت بثقة المغاربة وتنحو في اتجاه تحقيق الجهوية الموسعة. وبالرغم من أهمية هذه المبادرات السياسية الإصلاحية في المشهد السياسي المغربي الراهن، إلا أنه ينبغي إدراك أن نجاح أية مبادرة في هذا الاتجاه، مهما تعاظمت أهميتها أو اشتدت الحاجة إليها، لا يمكن أن تحقق النجاح في السياق السياسي المغربي إلا إذا كان من شأن تفعيل تلك المبادرة ضمان فاعلية السلط وتقويتها وتحقيق التوازن الصعب بين قوة المؤسسات وتطلعات المجتمع. فقوة الإصلاحات التي انتهجها المغرب تتجلى في الرغبة في ترسيخ دولة الحق والقانون بموازاة طموح المغاربة إلى تحقيق انتقال ديمقراطي سلس تتطور بفعله الدولة ويزيد المشهد السياسي زخما ودينامية من غير أي تأثير سلبي على رمزية الدولة واستمراريتها. ولعل هذا التوازن بين الإصلاح والاستمرارية هو ما يجعل من المغرب بلدا استثنائيا في سياق التحولات العاصفة التي يشهدها العالم العربي منذ ديسمبر 2010. فخروج المغرب من محيط الأزمات الإقليمية والدولية سالما وقويا من شأنه أن يؤدي إلى ترسيخ دولة المؤسسات، وأن يعزز صورته باعتباره دولة مستقرة وآمنة، كما أنه من شأن ذلك أن يحول المغرب إلى مثابة الشاطئ الذي تتكسر عليه أمواج الربيع العربي، فبدلا من أن تجرف إليه الكوارث، تستجلب إليه العبر وتمنحه قوة مضافة. ولذلك فإن المظاهرات التي عمت المغرب في بداية الربيع العربي ودعت إليها ما سمي بمجموعة "عشرين فبراير" امتازت عن مثيلاتها في مختلف الأقطار العربية بوعيها السياسي الذي يدرك أهمية المزاوجة بين التطور السياسي والديمقراطي من جهة والاستقرار الأمني والسلم الاجتماعي من جهة أخرى. فقد كان من نتاج هذا الحراك المجتمعي ترسيخ القيم المجتمعية الحداثية والدفع بالمغرب إلى التطور والنقد الذاتي بدل الانقلاب على ذاته وتدمير مؤسساته. واعتبارا لمعرفتها الدقيقة بشؤون الشرق الأوسط والعالم العربي، تدرك الولاياتالمتحدةالأمريكية الأهمية الاستراتيجية للمغرب باعتباره أقدم حليف للولايات المتحدة على الإطلاق وأحد أبرز الدول العربية المرشحة لقيادة منطقة شمال إفريقيا في السنوات القادمة. وتتجلى أهمية المغرب في سياق الربيع العربي باعتباره يقدم مرجعية سياسية متقدمة ومنسجمة مع ذاتها وتاريخها ومحيطها العالمي، وبالتالي يتيح للولايات المتحدة فرصة تقديم المغرب لباقي الدول الإقليمية، العربية تحديدا، من حيث كونه يمثل نموذجا واقعيا وعمليا يمنح للمتتبعين للشأن السياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الثقة في ما يتعلق بإمكانية تطور بعض الدول العربية إلى دول ديمقراطية. وقد تكون العشر سنوات القادمة حاسمة بالنسبة للمغرب فيما يتعلق بتحقيق خطوات أخرى عملية ومؤثرة فيما يتصل بانضمام المغرب إلى تكتلات الدول الديمقراطية الكبرى التي تراعى فيها حقوق الأفراد والمجتمع مراعاة تامة وبالتالي تمكن من خلق دينامية سياسية قوية ترسخ أهمية المؤسسات وتحترم خيارات الشعب في إطار كاف لاحتضان التعدد في جميع أبعاده. إلا أن الانتقال الديمقراطي الشامل لن يتحقق بمعزل عن التصحيح الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والتدبير الأمثل للثروات وكافة مقومات الإنتاج. وفي هذا الإطار فإن التحدي الأكبر بالنسبة لمغرب اليوم هو مدى قدرته على تكوين طبقة متوسطة متماسكة وعريضة ومتنورة وقوية، مؤهلة وقادرة على تحمل مختلف المسؤوليات للدفع بالاقتصاد الوطني أشواطا إلى الأمام للحد من الفقر والهشاشة والتعصب والأمية والانتهازية داخل المجتمع. ولا يمكن للطبقة المتوسطة أن تتبلور وتتماسك وتتسع وتتقوى إلى بإقدام المغرب على ثورة حقيقية في المدى المتوسط فيما يخص مراجعة منظوماته التعليمية مراجعة جذرية وجادة وشاملة، تستوعب النماذج التعليمية المتقدمة للدول الكبرى وتستقطب مجموع نخب المجتمع وتوفر لهم كافة الإمكانات والأدوات ومزيد من الحرية لإنتاج تكوينات حقيقية تنسجم مع متغيرات الحاضر وآفاق المستقبل. فالتعليم الجيد والمتمدن والمنفتح والرصين ينبغي أن يكون متاحا للجميع وفق مبدأ تكافؤ الفرص لنتمكن في المستقبل القريب من استثمار الطاقات البشرية التي تنقص هذا الوطن. والحقيقة أن منظوماتنا في التعليم والتكوين تعاني من تشوهات متعددة وتناقضات صارخة وإملاءات متقادمة يجعلها متخلفة ومعطلة لآليات التقدم ومستنزفة لثروات البلاد بدل أن تكون منتجة لها. يلزم إعادة إدماج التعليم العمومي والتعليم الخاص في فلسفة وطنية مشتركة لا تميز بين الفقراء والميسورين وبين أبناء هذه الجهة أو تلك، مثلما ينبغي إعادة تأهيل بنيات مؤسساتنا الجامعية بشكل لائق وفعال والعمل على تحرير هذه المؤسسات من كل أشكال القيود المتخلفة لتصبح أكثر تنافسية فيما بينها وإنتاجية وأقدر على تحقيق شراكات فعلية مع مختلف المؤسسات العالمية الأكثر تطورا وتقدما. لذلك فأفق الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية يكمن في قدرة البلدين على تصريف رصيد الصداقة التاريخية والثقة المتبادلة إلى نسيج متشابك من الاستثمارات المشتركة في مجال التعليم والبحث العلمي ومختلف قطاعات الاقتصاد والخدمات. فمن مصلحة الولاياتالمتحدة في الوقت الراهن أن يتحول المغرب إلى ورش اقتصادي ضخم يضمن الاستقرار في الركن الغربي للمتوسط ويمكن الولاياتالمتحدة من اختصار المسافات الاقتصادية نحو العمق الإفريقي على الخصوص. إن ما أنعته "بالتجسير الأطلنطي" للعلاقات الثنائية بين المغرب وأمريكا من شأنه أن يكون ذا تأثير مباشر على مستقبل المتوسط وشمال إفريقيا. إلا أن هذا التجسير بحاجة إلى تقابلات اقتصادية قوية وأخرى سياسية وثقافية لا تقل أهمية. وبالتالي فإن من شأن اكتساح اللغة الإنجليزية للبنية التعليمية والثقافية للمجتمع المغربي أن يمنح المغرب قدرات متنامية لاستثمار هذا التجسير بصورة مثلى على مختلف الواجهات والبنيات. وتعتبر اللغة الإنجليزية اليوم مقوما أساسيا لإنتاج المعارف وتصريفها في سياق ما أصبح يعرف بالعولمة. وبالتالي فإن الدولة المغربية مطالبة باحتضان اللغة الإنجليزية في المؤسسات العامة وكذلك في المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي والصناعي والديبلوماسي. تتسم البنية الاجتماعية والثقافية للمغرب بالتنوع والمرونة والميل نحو التجريب والانفتاح باعتبارها بنية متأثرة بالموقع الجغرافي لهذا البلد، وذات وعي بالمكونات الحضارية والتاريخية التي تفاعلت عبر الأحقاب في إطار ما يمكن توصيفه بالبعد الأركيولوجي للهوية الوطنية. إلا أن أثر بعض التفاعلات الإقليمية والدولية الكبرى، انطلاقا من معارك الأفغان والسوفييت ومرورا بمحطة البوسنة والهرسك وحرب العراق والصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومد الإسلام السياسي، لا يمكن إنكاره أو تجاوزه عند مقاربة دينامية التحولات الاجتماعية والسياسية للمغرب. فقد أصبح واضحا أن للحركات الإسلامية دورا متناميا داخل المجتمع الذي أصبح هو الآخر يظهر نزوعه المضطرد عبر المظاهرات والاستحقاقات السياسية الكبرى نحو إعادة صياغة وتصريف خطاب الهوية الأحادية. لقد عانت المجتمعات العربية منذ استقلالها إلى اليوم من فشهلها في استيعاب معنى التعدد الثقافي واستثمار العمق الحضاري الحقيقي لتاريخ الشعوب التي استوطنت شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا، وبالتالي ترتب عن هذا الفشل تبلور أنساق ثقافية تحيد عن موضوعات الاختلاف والتعدد والحرية والتقدم. وقد سخرت المنظومات التعليمية في مختلف الأقطار العربية لترسيخ معنى التوحد والتماثل والخصوصية. وبذلك شكل العالم العربي استثناء واضحا في عالم منفتح ومتحول ومتقدم ومتعدد. وإن اخترقت العالم العربي عبر فترات متقطعة دعوات نهضوية إلى النقد الذاتي والعصرنة والتطور، إلا أنها بقيت حبيسة رؤى مقيدة بشرطي الأحادية والهوية الخالصة. مقاربة الحاضر السوسيولوجي والثقافي والمجتمعي في البلاد العربية لم يأخذ أبدا بعين الاعتبار التراكم والتشكل الأركيولوجي للبنيات الثقافية التي بإمكانها أن تساعد في تحرير الذوات وتحقيق التقارب بين عموميتي الشرق والغرب. فالعلاقات المتينة والمتفاعلة والمتجددة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والمغرب من شأنها تشجيع المغرب للاستثمار في رصيده الحضاري والثقافي والسوسيولوجي الموغل تاريخيا في أركيولوجيا الحضارات واللغات والتفاعلات الاجتماعية التي طبعت تاريخ المغرب عبر الأحقاب. ومن شأن التعدد الثقافي واللغوي والاجتماعي أن يمكن المغرب من احتضان تناقضات المجال المتوسطي وإعادة إنتاجها في شكل خطابات للسلم والتسامح والتعايش. ونعتقد أن تنوع المجال الجغرافي للمغرب هو في حد ذاته مدعاة لتدمير مفهوم الهوية الأحادية المتقوقعة وكشف مزايا التعدد في إطار تاريخ المغرب الشامل. إن المقاربة الأركيوليوجية لمفهوم الهوية تساعدنا في تجاوز النماذج الهوياتية المتقعرة في خطابات التطرف والتقهقر التاريخي، ذلك أن نموذج الهوية التعددية هو في حد ذاته دعوة للولايات المتحدةالأمريكية لأخذ بعين الاعتبار أهمية السيادة الترابية للمغرب وضرورة اعتبار الصحراء بعدا حضاريا في إطار فسيفساء الهوية الوطنية. فالتقسيمات الجيو-إستراتيجية الجديدة التي ما فتئت تمزق الجغرافيا السياسية لأوروبا الشرقية خاصة والشرق الأوسط تدفع في الواقع إلى مزيد من التطرف العقدي والهوياتي. ولذلك نعتبر إنجاز الاتحاد الأوربي في القرن العشرين مظهرا حضاريا وإنسانيا يحمل قيم التشارك والتفاعل والتعايش بدل قيم التقسيم والانغلاق والتشرذم. إننا نطمح أن يتفهم العالم الأهمية الاستراتيجية للبنية السيادية والترابية للدولة المغربية في أفق إمكانية تحقيق حلم كبير يفرز إطارا مماثلا للاتحاد الأوربي في شمال إفريقيا. *أستاذ الدراسات الثقافية المقارنة ورئيس قسم الدراسات الإنجليزية بجامعة عبد المالك السعدي [email protected]