آحتواء العالم يعرف الإعلام المغربي تنوعا على مستوى الخطاب، الموضوع والأهداف، بحيث أصبحت بعض القضايا المجتمعية المسموعة والمصورة موضوعا للدراسات الجامعية ولطلبة علم الآجتماع في بعض الجامعات المغربية. إلا أن المتتبع للكثير من هذه البرامج يلاحظ أنها تجدر، بالموازاة مع أهميتها عند كثير من متتبعيها، أنساقا ثقافية تستهدف إدراك الأفراد بتبنيها آليات توصيلية في أغلبها كأن توظف بلاغة التضليل والتهريج أحيانا وتعويم الحقائق.. في أحايين كثيرة. أما الثقافة التلفزيونية فقد ساهمت في تحويل العالم إلى فضاء بصري له آلياته التضليلية المهيمنة، إذ إن الذي حدث في زمن الثقافة التلفزيونية "هو أن الإنسان قد أصبح صورة والعالم كله تحول إلى فضاء بصري/ صوري" (الثقافة التلفزيونية، الغذامي، ص 197)، وبتحول العالم إلى فضاء بصري مهيمن فقد فرض مجموعة من التحديات والإكراهات لا سيما أن السلوك الآجتماعي يكتسب من خلال المحاكاة والعادة كما تقول بذلك نظرية التعلم بالملاحظة ومن ثم يصبح للصورة قدرة كبيرة على الآستعباد، والتدجين والتنميط مستفيدة من معطيات إنسانية طبيعية كالعادة التي تكسر الثوابت والانتماء الخالص، لهذا كانت؛ "العادة أول أسباب العبودية المختارة: كشأن الجياد الجوامس تعض الحكمة بالنواجذ في البدء، ثم تلهو بها أخيرا، وبعد أن كانت ترجم، ولا تكاد تستقر تحت السرج إذ هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبختر في دروزها.." (مقالة في العبودية المختارة، ت مصطفى صفوان، ص 110) وللاقتراب أكثر من إمكانيات بعض البرامج المجتمعية التي تستثمر في الفرد بالمعنى الاقتصادي المادي سنستحضر مجموعة من الأنساق الثقافية المولدة أو التي يعاد إنتاجها وتجديرها داخل بنية مجتمعية محكومة بحتمية/ هيمنة الصورة والأثير من غير آختيار واع أو مسؤول. التهريج يتحول النشاط الجماهيري إلى نسق عندما يتحول إلى سلوك مهيمن يتأسس على مجموعة من الآليات المغرضة والأيديولوجية.. ويتحول كذلك إلى خطاب ممتد على الأثير بتبني إبدالات عاطفية من غير تمثل واع أو مقاربة تستهدف حل المشكل. ثم يتحول التهريج إلى نسق ثقافي عندما يتحول إلى قاعدة جماهيرية تحرك بمقتضاه وتقبله من غير رفض. للتهريج خلفيات ومسوغات استعماله، فإن لم يكن التهريج مبنيا على دراسات سوسيولوجية نفسية لتحقيق جماهيرية موسعة فقد ينبني على تمثل للميولات والأذواق والعقليات المهيمنة داخل مجتمع ما. إن التهريج باعتباره نسقا ثقافيا يكتسي خطورة أكبر نتيجة سرعة آنتشار مضمونة؛ إذ ينبني على مرجعية اجتماعية وسند ثقافي جماهيري محض دأب أفراد المجتمع على استثماره وتذوقه باعتباره الية للتخفيف من ثقل الواقع، والتهريج يوهم الأفراد ويمنحهم ما يفقدونه في حياتهم الخاصة الروتينية. ففي سياق التهريج تؤجل الحقائق؛ إذ تصبح كل موسيقى فن وكل خطاب معرفة وكل إشهار اهتمام بالمتلقي. وأمام غياب القضية والسؤال وتأجيل الحقائق يهيمن عالم الصورة على الإدراك بآليات توصيلية مقيدة. بهذا المعنى تعيد الصورة والأثير أنساقا مجتمعية في زي أكثر تأثيرا وإثارة، لا يحارب الأنساق بل يعيد توزيعها وينتج أخرى بشكل موسع وأكثر هيجانا. لهذا تقارب بعض الإذاعات قضايا في المجتمع تعويما، أو بشكل سطحي جدا؛ تتحرك في دائرة المشاكل المجتمعية من غير مصاحبة لمختص أو من غير رؤية عاقلة، ذات خبرة وثقافة. والشيء نفسه وهي تتزين بأغاني الومضة الواسعة الانتشار والرخيصة على حد سواء ماديا ورمزيا، اقتصادا من جهة وتوسيعا للنمطية وتجذيرا للتخلف من جهة أخرى بالاستجابة للميولات السائد. الثقافة أساس التنمية الاجتماعية والإقلاع الاقتصادي والسياسي. أما الإذاعات وبعض الفضائيات إلا في ما نذر، واستنادا إلى الدور الذي تمارسها حاليا ، فمؤسسات تكرس السياسة القائمة والتي تهمش المعطى الثقافي لآفتقاده القاعدة الجماهيرية الواسعة، وبهذا المعنى يستجيب هذه النوع من الإذاعات والفضائيات لميولات الجمهور، والمجتمع المقهور يميل إلى اللهو والحكايا المجتمعية والترفيه المبالغ فيه. لقد تكرست سلوكات نمطية داخل المجتمع تمارس هي الأخرى سياسة إبعاد، تتامر هي الأخرى ضد الثقافة وتجد في الجهل موردا وكيانا امنا. لا يمكن إذن لإذاعة أن تقوم بدورها التنويري من غير قاعدة مؤسسة على الثقافة، ثقافة ناقدة من غير مهادنة أو تواطؤ مؤسساتي رسمي. لا يمكن أن نستحضر نماذج إعلامية، هائجة بالمعنى الإمبريالي الذي يصور الباطل في صورة الحق، إلا من خلال استحضار النموذج المقابل وهو الفرد الذي تحول إلى ضحية وموضوع ، إذ إن تحول الضحية إلى موضوع يحول النموذج الإعلامي إلى نموذج حقيقة بعدما كان أداة ويحول الضحية إلى ظاهرة لها مميزاتها المفارقة لعامة الشعب ويحثها على الآنخراط في هذا المد الهائج الذي يقدم نفسه معطى لحل المشاكل وتحويل جحيم الحياة إلى نعيم عن طريق وصفات سحرية جاهزة في أغلبها. معنى ذلك أن النموذج الإعلامي الهائج يخلق صورة عبر الصورة وعبر الأثير للضحايا وتقدمهم في خانة رجال أو نساء لهم خبرات في الحياة حتى يتحول الضحايا إلى مخلوقات فضائية، أثيرية لها ما يميزها ولا يمكن أن يكون لها هذا الآختلاف إلا إذا آنخرط في ممكنات الأثير والصورة بوثوقية وإيمان مطلق. تحول بعض البرامج الأثيرية والمصورة الكائن إلى ضحية تملأ فراغ طبقة ساحقة من المجتمع، إذ لا يمكن أن نسوغ هيمنة الجهل الذي يستولي على زمن غير يسير من أوقات الذروة للمشاهد، بأن ما ينتج موجه لطبقة دون أخرى، وليس بكون المضمون واللغة يجب أن ننزل بها إلى طبقة مسحوقة معطوبة تتقبل ما يداع ويبث؛ فهذه إرادة سياسية، ثقافية ومجتمعية، لا دور للإعلام فيها وهو يستثمر بالطريقة التي يذيع بها ويبث الان. إن اختيار البرامج الثثقيفية بمختلف أنواعها ليس قضية سياسية فقط بل وطنية؛ بالوطنية يصبح التنافس والاستثمار مقبولا بل ضرورة، عندما يكون الهم بناء مواطن واحد كل يوم بدل شد مئات المتتبعين كل يوم. وهنا نتساءل عن الذي يمكن أن يقدمه برنامج "الخيط الأبيض" أو "الحبيبة أمي" و"مسلسلات (7نجوم) التركية" أو برنامج "سمير الليل" و"كيكنتي كي كوليتي" وتهريج مومو... للمتتبع المغربي؟ للصورة تأثير كبير على العاطفة أساسا لهذا يغفل المتتبع عادة اللغة الموظفة متأثرا بإبدالات العاطفة والأصوات الرقيقة التي تبدي تعاطفا ظاهرا. مع الصورة، " لم يعد المرء قادرا على التحكم بصورته لا جغرافيا ولا زمانيا حيث تمتلك صورة المرء حرية مطلقة في التنقل والبقاء وفي قابليتها للإنتاج والمونتاج على نقيض مع شروط الجسد المقيد" (الثقافة التلفزيونية، ص 199) التضليل الكلامي لقد صار الجسد في الصورة والصوت في الأثير هوية ثقافية للذات الحقيقية؛ بحيث تتحول الصورة والصوت إلى نسقين ثقافيين يعوضان الذات الحقيقية بأسماء مستعارة أو بوجوه غير مكشوفة أحيانا. أما أزمة المضمون فتتجدر أكثر ويتعطل فعل الآبتكار بما هو حث على تحفيز الفكر المجتمعي وإشاعة ثقافة الفن، إذ ليس الهدف في بث ما هو نوعي بقدر ما يبقى محددا أساسا في توسيع القاعدة بآنتقاء ما يلبي رغبات الأفراد. وإذا كان المد الجماهير سيصبح له معنى الرأي العام، إذا كانت هذه السلطة سلطة شعبية تدافع عن الجمهور وتتبنى قضاياه، فإنها ستستثمره كذلك لصالحها، كموضوح بل كضحية... وبهذا المعنى لم يعد التضليل الكلامي مقتصرا على الخطاب السياسي بل سيوظف في الأثير والصورة، حتى تحولت هذه الأخيرة في غالبيتها إلى ظل للذات الحقيقية... يعتمد ضحايا الأثير على أسماء مستعارة للتمويه والتستر على الشخصية الحقيقية وهذا ما يمكن أن نراه في ضحايا برامج الصلح التلفزية والأثيرية الليلية التي تخفي في غالبيتها صورتها وتبقى ذاتا مجردة من مصدرها . بهذا المعنى يتحول الإنسان من كونه مقياس كل شيء، إلى موضوع لكثير من الأشياء. ولعل من أهم مظاهر التضليل تضخيم الوقائع، وتثبيتها بالأرقام ولو كانت خاطئة وإيهام الضحايا موضوع الواقعة بإمكانية حلها بشكل كامل إما بآقتراح تجارب مفارقة (كما نشاهد في الخيط الأبيض) أو في آستثمار التهم المتبادلة كأرضية للنقاش بحثا عن خيط ناظم لتضخيم الواقعة.. وبهذا المعنى تخلق الكلمة والكلام واقعا جديدا للضحية وعالما يشكل عتبة لحل المشكل وآقتحام العالم المأمول.. لهذا يكون لوقع معنى الكلام أثره البالغ على الضحية ولو كان الكلام فارغا إذ إن الكلام المضلل لا يستقيم إلا بحركات الجسد والصوت والتنويع الإيقاعي للصوت...والموسيقى العاطفية المرافقة للعرض والصورة، غير أنها كلها ذات تنويعات هادفة للآستثمار في أغلبها وليس للتوعية والتنوير..