مع شغفه بالتمثيل، لاسيما المسرحي، وصل آل باتشينو إلى سن السادسة والسبعين بكل فضوله الفني كما هو، وبرغبة في مواصلة العمل وإحساس بسحر مهنة يعد أحد كبارها، رغم أنه لم يظفر من ترشيحه ثماني مرات لجائزة الأوسكار إلا بواحدة. "يمكن القول إنني ولدت في المسرح"، ذلك ما أكده، مؤخرا، آل باتشينو الذي وصل إلى سن السادسة والسبعين بشغف لم ينقص بمهنة حملته إلى ترك الدراسة وقبول كل أنواع العمل من أجل توفير المال اللازم لدورات التمثيل الدراسية. ولد ألفريدو جيمس باتشينو في 25 أبريل 1940 في إيست هارلم بمانهاتن، لعائلة إيطالية أمريكية. انفصل والداه، سالفاتوري باتشينو وروز جيراردي، عندما كان هو في سن صغيرة ليقيم مع والدته، حتى استقل بحياته في سن السابعة عشرة بعدما بدأ في شق طريقه بعالم التمثيل. تشارلز لوتون ولي ستراسبرج بدأ العمل في المسرح والتحق بمدرسة "High School of Performing Arts" للتمثيل بنيويورك، حيث كان أحد المعلمين هو الممثل البريطاني القدير تشارلز لوتون، الذي تحول سريعا إلى مثله الأعلى وأقرب أصدقائه. كان لوتون أول من اكتشف موهبته الكامنة وقال له: "ستصبح نجما"، كما تذكر السيرة الذاتية التي صرح آل باتشينو للورانس جروبر بإعدادها. ولكن الأمر لم يقتصر على دورات دراسية يمزج بينها وبين مغامرات مسرحية فضلا عن العمل كمرشد (بلاسير) في إحدى السينمات. ففي تلك الحقبة تعرف على الممثلة جيل كلايبرج، التي عاش معها لسنوات وكانت هي التي شجعته على التقدم لامتحان القبول في جمعية "Actors Studio"، وهي التجربة التي اجتازها. هناك سيقابل معلمه الثاني لي ستراسبرج. يقول باتشينو في كتاب جروبر "Actors Studio" : "مثل الكثير في حياتي. لي ستراسبرج لم ينل التقدير الذي يستحقه. إلى جانب تشارلي، كانا هما من منحاني الفرصة بشكل ما.. كان مسؤولا بصورة مباشرة عن تركي لكل الأعمال الأخرى كي أركز فقط على التمثيل". ومع تركيزه على المسرح، نال أول نقد إيجابي مع "The Indian Wants the Bronx" عام 1968، العمل الذي منحه جائزة "Obie" كأفضل ممثل، لكن إثبات مكانته سيأتي مع "Does a Tiger Wear a Necktie?" الذي منحه أول جائزة "توني" له عام 1969، العام نفسه الذي استهل فيه مشواره بالسينما، بدور صغير في فيلم "Me, Natalie". بعدها بعامين بدأ عرض "The Panic in Needle Park" أو (الهلع في حديقة نيدل)، الذي قدم فيه دور مدمن، ولفت بأدائه انتباه فرانسيس فورد كوبولا، الذي كان قد رآه في برودواي، واتصل به كي يخضع لتجربة أداء من أجل الفيلم الذي كان يحضر له "The Godfather" أو (العراب). "العراب".. تألق فوري كان واضحا لدى كوبولا أن آل باتشينو هو الشخص الأنسب الذي يبحث عنه لتجسيد دور مايكل كورليوني، لكن المنتجين لم يكونوا على الدرجة نفسها من الاقتناع. كانت شركة "بارامونت" تعتقد أنه أكثر من اللازم وهادئ الملامح لتجسيد شخصية رجل عصابات، لكن كوبولا أصر على أنه الأفضل للعب دور ابن فيتو كورليوني (مارلون براندو) وحصل اختياره على تأييد مؤلف الكتاب ماريو بوزو. سيؤكد بعدها بوزو في كتابه "The Godfather Papers" أو (أوراق العراب) "الجائزة الكبرى كانت آل باتشينو. لتجسيد مايكل، آل باتشينو كان لديه كل شيء. كنت أريد تلك الشخصية بالضبط على الشاشة. لم أكن أصدق ما رأيته. كان في رأيي أداء لا تشوبه شائبة، تحفة فنية". حقق الفيلم نجاحا فوريا ورحب النقاد جميعا بالعمل الذي قدمه كوبولا والاختيار الموفق للطاقم - بداية من براندو إلى جيمس مرورا بروبرت دوفال أو ديان كيتون- وأبرز الجميع بشكل خاص عمل شخص شبه مجهول، هو آل باتشينو، الذي حصل على ترشيحه الأول للأوسكار، كأحسن ممثل دور ثان. كان عملا مبهرا، يتمثل في تحويل طالب مثقف وحساس إلى وريث لإمبراطورية مافيا. شخصية سيستعيدها في الجزأين الثاني والثالث من العمل عامي 1974، بترشيح آخر غير موفق للأوسكار، و1990. وسيبقى مايكل كورليوني من دون شك الشخصية الأبرز في المسيرة الطويلة بالفعل لآل باتشينو، مع الاعتذار لتوني مونتانا في "Scarface" أو (الوجه ذو الندبة) عام 1983، في العمل الذي أخرجه أوليفر ستون عن رجل عصابات كوبي وأكد مكانته كممثل وأثبت قدرته على التنوع في تقديم الأدوار من خلال دور لا يتشابه في شيء مع رجل المافيا كورليوني. ورغم كل ذلك، فإن آل باتشينو، الذي فاز بجائزة "جولدن جلوب" عن أدائه، لم يرشح حتى لجائزة أوسكار في ذلك العام، الذي نالها فيه أحد زملائه في (العراب) روبرت دوفال عن فيلم "Tender Mercies" أو (مراحم ناعمة). الأوسكار الهاربة هناك دليل على العلاقة المعقدة بين آل باتشينو وجوائز أكاديمية هوليوود. على مدار مسيرته، حصد باتشينو أربع جوائز "جولدن جلوب" - اثنتان منها في السينما عن "Serpico" أو (سيربيكو) عام 1974 و"Scent of a Woman" أو (عطر امرأة) عام 1993، واثنتان في التليفزيون عن "Angels in America" أو (ملائكة في أمريكا) عام 2004 و"You Don't Know Jack" أو (أنت لا تعرف جاك) عام 2011- وجائزتي "إيمي" (عن العملين التليفزيونيين نفسيهما)، وجائزتي "توني" عن "Does a Tiger Wear a Necktie?" في 1969 و"The Basic Training of Pavlo Hummel" عام 1977، وجائزة "بافتا" للسينما البريطانية، وجائزتي"ديفيد دي ديناتيللو" للسينما الإيطالية وجائزة "دونوستيا" من مهرجان سان سباستيان الإسباني، في أمثلة صغيرة من قائمة جوائز طويلة. لكنه احتفظ مع الأوسكار طيلة مسيرته بعلاقة حب-كراهية، ترجمت في ثمانية ترشيحات وجائزة وحيدة. رشح ثلاث مرات لفئة أفضل ممثل مساعد عن "العراب" 1973 و"Dick Tracy" أو (ديك تريسي) 1991 و"Glengarry Glen Ross" أو (قبعة جلين روس) 1993، العام الذي حظي فيه بترشيحين، حيث كان اسمه أيضا في قائمة أفضل ممثل عن "عطر امرأة". ذلك الدور تحديدا، الذي جسد فيه شخصية كولونيل كفيف لا يزال يحاول الاستمتاع بحياته، والذي كان الإيطالي فيتوريو جراسمان في "Profumo di Donna" قد جسده عام 1974، هو الذي منحه جائزة أوسكار التي انتظرها على مدار عشرين عاما. اكتفى بالترشح أيضا عن "سيربيكو" 1973 و"العراب، الجزء الثاني" 1974، و"Dog Day Afternoon" أو (عصر يوم قائظ) 1975 و"...And Justice for All" أو (.. والعدل للجميع) 1979. وفي نظر الكثيرين كان يستحق أيضا الحصول على ترشح على الأقل عن أعمال أخرى كثيرة مثل "Cruising" أو (المبحره) 1980، و"Frankie and Johnny" أو (فرانكي وجوني) 1991، و"Carlito's Way" أو (طريق كارليتو) 1996، و"Heat" أو (حرارة) 1995، و"Donnie Brasco" أو (دوني براسكو) 1997، و"Any Given Sunday" أو (فرص أيام الأحد). وهناك أعمال أخرى أقل شهرة لكنه ترك فيها أثرا كبيرا مثل "Bobby Deerfield" أو (بوبي ديرفيلد) 1977، و"Author! Author!" أو (كاتب! كاتب!) 1982، و"Sea of Love" أو (بحر الحب) 1989، و"The Local Stigmatic" أو (البغض المحلي) 1990، و"Devil's Advocate" أو (محامي الشيطان) 1997، و"Insomnia" أو (أرق) 2002، و"The Recruit" أو (ذا ريكروت) 2003، و"Minutes 88" أو (88 دقيقة) 2007. العودة إلى السينما مع عمله الدؤوب، عاد في الأعوام الأخيرة من جديد إلى مسرحه المعشوق، سواء على الخشبة، أو بمعالجات سينمائية لأعمال كلاسيكية بطريقة ناجحة بقدر مخالفتها للعادة. لهذا وقف خلف الكاميرات للمرة الأولى عام 1996 لتصوير الفيلم الوثائقي "Looking for Richard" أو (البحث عن ريتشارد) الذي يجسد الاستعدادات لتنفيذ معالجة لقصة (ريتشارد الثالث) الكلاسيكية. وهو ما عاد وكرره عام 2011 بفيلم "Wilde Salomé" أو (وايلد سالومي)، حول عمل الكاتب أوسكار وايلد، حيث تقاسم البطولة مع جيسيكا تشاستين. وفي سن السادسة والسبعين، لا يزال النجم مهما ومرغوبا. وهو على علاقة حاليا بالأرجنتينية لوسيلا سولا، التي تصغره بنحو أربعين عاما، بعد قائمة طويلة من العلاقات تضمنت جان تارانت، والدة ابنته الكبرى جولي ماري، وديان كيتون وبيفرلي دانجيلو، التي رزق منها بأنتون جيمس وأوليفيا روز، وإيلين باركين. كما لم ينس السينما. وأحدث أعماله سنتي 2014 و2015 هما "Manglehorn" أو (مانجلهورن)، حيث يجسد شخصية صانع أقفال عجوز لن يتمكن قط من تجاوز قصة حب في الماضي، و"The Humbling" أو (الحقارة)، الذي يتناول قصة ممثل يفقد قدراته المسرحية أمام الجميع فيقرر الاعتزال لفترة. تحديدا ذلك الفقدان للقدرات، خاصة في ما يتعلق بالذاكرة، هو أكثر ما يقلق الممثل: "ذلك هو الأمر الخطير حقا. المأساة الكبرى. أحب مذاكرة الأدوار كي أنساها لاحقا وتأتيني بصورة طبيعية. أصل إلى المسرح وتخرج مني بصورة طبيعية، معبرا عما يجول في ضميري. عندما يذهب ذلك السحر، يصبح الأمر مرعبا. ذلك يساهم في فقدان الشهية والرغبة في الاستمرار". حتى الآن لم يحدث ذلك، وفنه لا يزال يهدي العديد من الأعمال الرائعة. وكما قال رئيس مجلس إدارة معهد الفيلم الأمريكي هاورد سترينجر، عندما كرم آل باتشينو عام 2007: "آل باتشينو إنه أيقونة للسينما الأمريكية. لقد صنع بعضا من أجمل الشخصيات في الأفلام. مشواره يلهم الجماهير والفنانين على حد سواء، مع كل عمل جديد يقدم أداء نموذجيا للجيل المقبل من الممثلين".