ينبغي الإقرار بأن الاقتراع التشريعي الأخير لم يأت بمفاجآت ، نعم لقد فقدت أحزاب بعض مقاعدها وربحت أخرى مقاعد جديدة ؛ المقاعد تزيد وتنقص كما الأصوات ، تلك "أرجوحة الديموقراطية " التي تظل وتيرة سرعتها – عندنا – طبعا بحسب قوة الدفع ومزاج الدافع وجاهزية المدفوع ... ولكن التصويت الذي شارك فيه ما يناهز 43 في المائة من الناخبين المسجلين في اللوائح بحسب الأرقام الرسمية ، أفرز بالتقريب ، نفس معطيات اقتراع 25 نونبر 2011، ولا ينبغي في تقديري ، الالتفات كثيرا لأسطوانة " القطبية " بقدر ما يستقيم الآن الإقرار بحقائق يصعب نفيها بعد كل الكلام والتحليلات والتأويلات ، وأيضا كل ما أسماه الأستاذ حسن طارق : الفوضى التي اعترت الكلمات والمفاهيم والتعليقات .. أولى الحقائق التي كان لها تأثير على طبيعة التنافس وتكتسي مظهرا سلبيا بالنسبة للنضج الديموقراطي تكمن في انشغال الأحزاب المتنافسة خلال الحملة الانتخابية عن مناقشة الجوهر ، فلا هي أحزاب الأغلبية الحكومية ركزت على تقديم حصيلة مدققة لإنجازاتها لتجعل منها وسيلة في ميزان الإقناع مدعمة ببرامج العمل المستقبلية التي تقترحها لنيل ثقة الناخبين ، ولا هي الأحزاب المحسوبة على المعارضة قدمت تقييما موضوعيا لتلك الحصيلة لإبراز مكامن الخلل فيها واقتراح البدائل ببرامج محددة والاختيارات القابلة للإنجاز التي من شأنها ترجيح الكفة لصالحها في الاقتراع . التنافس غلب عليه التنابز والرجم غي الدقيق بالأرقام والنسب ، ورفع شعارات متشابهة لا تسمن ولا تغني من جوع ، لا يتعلق الأمر هنا بتبخيس العمل السياسي والفاعلين فيه كما يصر البعض على اتهام كل توصيف موضوعي لواقع الحال ، فكل المعطيات تبرز الإضرار البليغ المحدق بقواعد بناء ديموقراطية سليمة ، والناتج عدم إقناع الناخبين للإقبال على صناديق الاقتراع ، واستمرار آفة التصويت للأشخاص وتغييب البرامج ، والتشابه في الخطاب والعروض وغلبة السطحية في التعاطي مع القضايا الحيوية للبلاد . ثاني الحقائق عنوانها المفصلي هو واقع المشهد السياسي بمختلف مكوناته: - فرغم الاستهداف الذي تعرض لح العدالة والتنمية استطاع حزب رئيس الحكومة أن يصمد ويدعم مكانته الانتخابية بما حصده من أصوات ومقاعد متربعا الصف الأول في قائمة الأحزاب المتنافسة . - وبالنسبة للأصالة والمعاصرة ، وبغض النظر عن كل ما صاحب نشأته والرعاية الخاصة التي حظي بها شأنه في ذلك شأن أجداده من الأحزاب الناشئة في أحضان السلطة فقد رسخ موقعه كمنافس أول في استقطاب أصوات الناخبين وصار حقيقة بديهية في الخريطة السياسية لا يمكن تجاهلها أو التنقيص من آثارها الآنية والمحتملة غدا . - أما أحزاب الاستقلال والاتحاد والتقدم والاشتراكية فالظاهر أنها – كل بصيغته – تواصل أداء ضريبة الإنهاك من الداخل والخارج وتحتاج إجراء نقد ذاتي عميق ومراجعة جريئة لتظل قادرة على تجديد أنفاسها بأنفة رصيدها التاريخي وتقوية الشحنة المشهود لها بها ودورها الحقيقي في النضال لإرساء مسار التطوير الديموقراطي للبلاد . - في المقابل فإن ثلاثي( الأحرار والدستوري والحركة )، الذي كان قطعة رئيسية في لعبة ( البازل ) البامية ذات المكونات الثمانية ، ليلة اقتراع 25 نونبر 2011 ، يبدو مؤهلا لبعث وفاقه القديم الذي ظل لسنين الضرورة الحكومية رمادا خامدا صار من المحتمل بعد استحقاق 7 أكتوبر 2016 إسعافه بجذوة نار تدفئ أوصاله في أحضان البام . - في مقام آخر تظل فدرالية اليسار مشروعا سياسيا قادرا على الصمود لتأكيد حضور مستقبلي وازن ملائم لمصداقية خطابها ورصيد مكوناتها مع حاجة أكيدة لنسج امتداد تنظيمي داعم لكفاءات ونضالية نخبها . - وأخيرا تبقى الكائنات السياسية الصغرى الناشئة بمقتضى الحق الدستوري والضمانات القانونية ولكن - خارج الاحتياج الفعلي – تقاوم للاستمرار في تأثيث المشهد السياسي تحت يافطة "باقي الأحزاب " التي تعكس نتائجها الانتخابية غياب أثرها في الساحة . كل هذه الحقائق ليست رجما بالغيب ولا تحتاج لأي اجتهاد أو تحليل هي توصيف لواقع ملموس مسند بالأرقام ومدعم بالمعايير ذاتها التي ذكر بها خطاب دكار يوم 6 نونبر الأخير لتشكيل الحكومة القادمة ، والتي راج بشكل قوي أنها قد تكون مستهدفة ب "بلوكاج " أو مناورات ل " مايسترو " يحرك القطع من خلف الستار.. المعطيات المتوفرة تقود إلى منطق مشاورات تفضي إلى حكومة منسجمة ذات أغلبية معقولة في مواجهة معارضة منسجمة أناطها الدستور بضمانات وحقوق وبما يكفل لها القيام بأدوارها البناءة . كل الأحزاب تصرح منذ ظهور النتائج وبدء المشاورات أنها لا تروم سوى تحقيق مصلحة الوطن والمواطن وأن ذلك همها الوحيد الأوحد فلماذا كل هذا المد والجزر ؟ إن تشكيلة حكومة بنكيران واضحة من خلال العودة لنوايا الانطلاقة التي أفصح عنها رئيس الحكومة في 2011 طبعا ليست بأغلبية مريحة ولكن الأمر – وكما قال الملك – لا يتعلق بتكوين أغلبية عددية حسابية ، ذلك أن التحديات التي تواجهها ودروس التجربة السابقة تحثها إلى صياغة برنامج محدد وواضح وتقديم كفاءات مؤهلة مقنعة واعتماد الهيكلة الفاعلة القوية التي تحتاجها البلاد ، إن ربح رهانات الديموقراطية المغربية امتحان لا يتوقف بالضرورة على الإذعان لما يروج أنه شروط معلنة من أحزاب تصر أن لا تكون إلا في الحكم ولو ضد طبيعة الأمور. .. عدا ذلك يبدو أن مجمل التركيبات الأخرى الممكنة ستولي ظهرها لحقيقة المشهد السياسي كما أقره اقتراع سابع أكتوبر وقد تجعل المغرب يخلف موعدا حاسما في مسار النضج الديموقراطي والتطور السياسي .