"خاوة خاوة.. بلا عداوة" أغنية تجسد نداء الأخوة المغربية الجزائرية في ذكرى المسيرة الخضراء أعلنت شركة موغادور ميوزيك ديجيتال المغربية عن قرب إصدار الأغنية الجديدة "خاوة خاوة.. بلا عداوة"، بمشاركة نخبة من الفنانين المغاربة والجزائريين، في عمل فني مشتر    دراسة حديثة: الاحتباس الحراري يؤثر في توزيع الأمطار والثلوج    ارتفاع أسعار النفط بعد التوصل إلى إطار عمل لاتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والصين    سورج: يامال تأثر بصافرات الاستهجان.. والخسارة في الكلاسيكو لا تدعو للقلق    إعطاء انطلاقة 49 مركزا صحيا جديدا على مستوى 9 جهات    المغرب ضمن المتوجين بجائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في دورتها الرابعة لعام 2025    بورصة البيضاء تبدأ التداول بأداء إيجابي    تصاعد الشكاوى من عنصرية المرضى والزملاء ضد الممرضين في بريطانيا    هامبورغ تتصدر مجددا قائمة الولايات الأكثر سعادة في ألمانيا    ترامب يرغب في لقاء كيم جونغ أون    روسيا تعلن اعتراض 193 مسيرة أوكرانية    شكاية ضد توكل كرمان بتهمة التحريض    إسماعيل باعوف ضمن القائمة الأولية لمنتخب المغرب لأول مرة    الأمين العام للأمم المتحدة يدين انتهاكات حقوق الإنسان في مخيمات تندوف    النفط يرتفع بعد توصل أمريكا والصين إلى إطار عمل لاتفاق تجاري    الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار .. تقدم الرئيس المنتهية ولايته الحسن واتارا    كيوسك الإثنين | إصلاحات جديدة لتعزيز الشفافية وتحصين العمليات الانتخابية    دونالد ترامب يبدأ زيارة رسمية لليابان    الصين: ارتفاع أرباح الشركات الصناعية الكبرى بنسبة 3,2 بالمائة عند متم شتنبر    عصبة الأبطال الافريقية (ذهاب الدور التمهيدي الثاني) .. نهضة بركان يتعادل مع مضيفه الأهلي طرابلس (1-1)    إجهاض محاولة تهريب أقراص مخدرة    الريال يهزم برشلونة في "الكلاسيكو"    توقيف مواطن فرنسي من أصول جزائرية بمطار محمد الخامس مبحوث عنه من السلطات الفرنسية    العداء المغربي المحجوب الدازا يتوج بلقب النسخة ال16 من الماراطون الدولي للدار البيضاء    أغنى رجل في إفريقيا سيجعل مصفاته في نيجيريا "الأكبر في العالم"    الأمين العام الأممي يدين انتهاكات حقوق الإنسان في مخيمات تندوف    "البحر البعيد" لسعيد حميش يتوج بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة    المؤتمر الوطني الثاني عشر للاتحاد الاشتراكي – قراءة مؤسساتية ودستورية (2025)    نقل مصابين بتسمم جماعي الى المستشفى الإقليمي بأيت يوسف وعلي    طنجة: المغاربة يتصدرون منصة التتويج في النسخة الثالثة من بطولة "كوبا ديل إستريتشو"    حزب العمال الكردستاني يعلن سحب جميع قواته من تركيا إلى شمال العراق    بعد تداول صور لأشغال قرب موقع أثري ضواحي گلميم.. المجلس الوطني يؤكد أن الموقع سليم ويدعو لحمايته    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    سفينتان نرويجيتان ترسوان بميناء آسفي لدعم أبحاث المحيطات وحماية الأنظمة الإيكولوجية    نسبة ملء السدود المغربية تتراجع إلى أقل من 32% وفق البيانات الرسمية    حفل الحراقية يختم مهرجان الصوفية    الملك: تعاون المغرب والنمسا إيجابي    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أوناحي يواصل التألق في الليغا ويؤكد أحقيته بمكان أساسي في جيرونا    رياضة الكارتينغ.. المنتخب المغربي يفوز في الدوحة بلقب بطولة كأس الأمم لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    ترامب يرفع الرسوم الجمركية على السلع الكندية    "مايكروسوفت" تطلق إصدارا جديدا من المتصفح "إيدج" المدعوم بالذكاء الاصطناعي    المغرب يطلق "ثورة" في النقل الحضري: برنامج ضخم ب 11 مليار درهم لتحديث أسطول الحافلات    طقس الأحد: برودة بالأطلس والريف وحرارة مرتفعة بجنوب المملكة    زلزال بقوة 5,5 درجة يضرب شمال شرق الصين    إرسموكن :لقاء يحتفي بالذكرى ال50 ل"ملحمة 1975″ و محاكاة رمزية لها بحضور شاحنة "berliet" ( صور + فيديو )    الرقمنة أنشودة المستقبل الذكي    افتتاح متميز لمعرض الفنان المنصوري الادريسي برواق باب الرواح    إسبانيا.. العثور على لوحة لبيكاسو اختفت أثناء نقلها إلى معرض    المهرجان الوطني للفيلم بطنجة يعالج الاغتراب والحب والبحث عن الخلاص    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    طب العيون ينبه إلى "تشخيص الحول"    علماء يصلون إلى حمض أميني مسبب للاكتئاب    أونسا: استعمال "مضافات الجبن" سليم    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجيد: ثالوث إسرائيل والقومية والبترول حطم صورة أمريكا
نشر في هسبريس يوم 05 - 03 - 2017

تشغل أمريكا العالم، وينشغل بها. وقد سبقت الثورة الأمريكية الثورة الفرنسية وألهمت بعض زعمائها. ولعب المثقفون الأمريكان دورا كبيرا في هذه الثورة وبناء اتحاد الولايات الأمريكية، كما أشاعوا الفكر التنويري أساس هذه الثورة ذات البعد الكوني. وكان المغرب أول دولة اعترفت بهذا البلد الثائر، وحمى سفنه التي تعبر المحيط، فضمن لنفسه مكانة خاصة في تاريخ أمريكا، فأبان المولى محمد بن عبد الله عن نظرته الإستراتيجية..
هذه محاور وأخرى يتطرق إليها الحوار مع الروائي والمفكر المغربي الأمريكي أنور مجيد في ثلاثة أجزاء.. وهذا الجزء الثالث والأخير من هذا الحوار الثري والطويل
تشغل أمريكا العالم، وينشغل بها..مارست أمريكا سحرا جارفا على العالم ومنه العالم العربي والإسلامي، لكن القرن العشرين جعل العالم العربي يشعر ببعض الخيبة نحوها.. فقد اكتشفت البترول وجعلت منه عصب الاقتصاد، وعشقها الأكبر، وتولت حماية إسرائيل والابتعاد عن العرب والمسلمين، واكتشف العرب خصوصيتهم ورغبوا في الدفاع عنها.. وكان سوء الفهم الكبير، فهل يمكن أن يتحول إلى تفاهم كبير؟
يبدو حلول أمريكا محل انجلترا في حماية إسرائيل والتحالف معها قديما وليس حديثا وجذوره دينية قبل أن تكون سياسية..
لقد كان لأمريكا، على الدوام تعاطف طبيعي وثقافي مع اليهودية.. بدأ الأمر منذ الثورة البروتستانتية في القرن السابع عشر.. كان من نتائج هذه الثورة أن اكتشف المسيحيون، لأول مرة، "العهد القديم"، ولم يكونوا يقرؤون، من قبل، إلا "العهد الجديد" في الكنيسة. ذلك أنه بحسب المذهب الكاثوليكي فالمسيحية ترى أنها ألغت العهد القديم ولم يعد صالحا، وحل محله "العهد الجديد". ثم اكتشف المسيحيون الأمريكيون في "العهد القديم" هجرة موسى، والأرض الموعودة، فلاحظوا نوعا من التماثل بينهم وبين اليهود. هم عانوا أيضا من القمع والظلم بانجلترا، مما دفع بهم نحو الهجرة، ورحلوا نحو عالم جديد ليؤسسوا دولة جديدة، وهكذا لاحظ الإنجليز أنهم عاشوا التجربة ذاتها التي عاشها اليهود، فقد كانوا يعيشون في مصر، ثم هاجروها، وتاهوا، ثم رغبوا في العودة إلى الأرض الموعودة.. ومن هنا نشأ التعاطف الطبيعي والثقافي بين الشعبين، والتقارب أيضا.
شرع الانجليز يسمون مدنهم بأمريكا بأسماء مدن العهد القديم نفسها: وهكذا وجدنا مامفيس، سيلان، وسموا أبناءهم بأسماء وردت في العهد القديم أيضا: جورج، جاكوب، ثم شرعوا يذهبون إلى المدرسة يوم الأحد ليدرسوا تاريخ الأرض المقدسة وكل ما يتعلق بها للتعرف عليها أكثر.. وفي القرن التاسع عشر، شرع الأمريكيون يسافرون إلى الأرض المقدسة، فأصبح ذلك أهم وأحسن سفر يقوم به الأمريكي.. وقد سافر الكاتب "مارك توين" نفسه إلى هذه الأرض، وإن لم يعجب بها.. وكثير من الحجاج إلى هذه الأرض خاب أملهم..
لو عدنا الآن إلى بداية نشوء فكرة الحركة الصهيونية تاريخيا، في غير ثوبها الحالي والمعروف..
كان أول ظهور للصهيونية في ثوب مسيحي، وهو ما سمي "بالكرشن صاينيزم " (Christian zionism)، بشكل من الأشكال، في القرن السابع والثامن عشر. وكان الإنجليز يتقربون من السلاطين العثمانيين، ويطلبون منهم السماح لليهود بالاستقرار في ما يسمى الآن فلسطين، ويؤكدون أنهم يساعدونه، ويكونون مخلصين له. فقد انطلقت فكرة (restoration) إعادة اليهود إلى أرضهم الموعودة في الغرب منذ القرن السابع عشر ولم تعرف التوقف.. وهو ما أطلق عليه عودة اليهود إلى الأرض الموعودة؛ بل كان مفكرون يقولون بها عن اقتناع، ومنهم شاتبوري، وكان رجل دولة كبير، ومن المساندين الكبار لهذا التيار. وهكذا. ولما كتب تيودور هيرتزل كتاب (The jewish state)، "الدولة اليهودية" سنة (1896)، كان مسيحي آخر، قبل هذا التاريخ بسنتين، قد كتب كتابا يحمل المضمون نفسه. كانت هذه الفكرة منتشرة في الأوساط المسيحية، وفي الفكر المسيحي البروتستانتي، خاصة. أما الفكر الكاثوليكي فتربطه باليهود عداوة حقيقية. وهكذا، فعلاقة الصداقة والمساعدة التي تربط بين اليهود وأمريكا تعود إلى هذه الأصول الثقافية، وليس إلى اللوبي اليهودي أو الصهيوني في أمريكا الآن، كما يقال أو كما هو شائع. هذه أشياء حديثة قد تكون دعمت العلاقات الثقافية التاريخية القديمة.
بالطبع، تعتبر ولادة إسرائيل وتبني أمريكا لها، لبعض الأسباب المشار إليها آنفا، اللحظة الفاصلة في بداية توتر علاقات الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربي (أو الإسلامي)..
بالفعل، ذلك هو الأمر الذي أثر في علاقة أمريكا والعالم العربي: ولادة دولة إسرائيل، واكتشاف النفط. وقد جعل النفط مصالح أمريكا تصبح مصالح حيوية، بل مصالح وجودية، لا يجب أن يفسدها أحد... ومن ثم أصبح، بالنسبة إليها، نظريا وفي الواقع، التدخل في سياسة دول النفط، والشرق الأوسط، ضروريا وطبيعيا. وكذلك أصبح لديها موقع الشرق الأوسط إستراتيجيا، وحضورها فيه ضرورة ملحة. ويجب ألا ننسى أن الأمريكيين هم من اكتشفوا النفط، وطوروا آليات استخلاصه، وتكريره... ومن ثم يرون أن من حقهم الطبيعي الحصول عليه، والتحكم في مصادره، ومنعه عن الخصوم؛ وبذلك أصبح سلاحا إستراتيجيا.
أثر هذا التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، وفي سياسة الدول البترولية العربية خاصة، في صورة أمريكا داخل العالم العربي..
بالفعل، صورة أمريكا في العالم العربي يحكمها التدخل في سياسات هذه الدول، وميلاد إسرائيل. ويبدو أن نشوء إسرائيل يمثل أحد أهم أحداث القرن العشرين. فقد وضع حدا للإعجاب الكبير الذي كان يكنه العرب لأمريكا. ويبدو أن من الأسباب، أيضا، نشوء القومية العربية. ففي القرن التاسع عشر لم تكن فكرة القومية العربية منتشرة. وهكذا شهد القرن العشرين ميلاد ثلاثة أحداث أدت نتائجها إلى تحطيم صورة أمريكا والإعجاب بها: وهي نشوء القومية العربية، ميلاد دولة إسرائيل، فاكتشاف البترول. كان لها تأثير كبير في علاقة أمريكا والعالم العربي بل والعالم الإسلامي، بل غيرت مسار هذه العلاقة.
هل يبدو من حل أو إصلاح للعلاقة بين أمريكا والعالم العربي الإسلامي، بالرغم من هذه المعطيات الثلاثة؟
يجب على العرب والمسلمين أن يدرسوا التاريخ الأمريكي، بل يدرسوه بعمق. والعرب والمسلمون يعرفون أمريكا (الحديثة) من خلال الأخبار، أو الحروب أو الصراعات التي تغذيها أو تديرها أو تسهم فيها.. ولكن لا يعرفونها من خلال ثورتها، وآثار ثورتها في العالم، وتطورها الفكري والسياسي.. ولا يعرفون كيف تفكر أمريكا في العالم، ولا كيف تنظر إليه، ويكتفون بالقول إنها يحكمها اليهود.. وهي فكرة يحكمها بعض الرهاب.. فأمريكا قارة، يسكنها أكثر من (320) مليون نسمة، وتتشكل من خمسين ولاية، لكل ولاية تاريخها وثقافتها ودستورها.. يجب أن تقارن أمريكا بأوربا.
هل يمكن تصور سياسة ناجحة تجعل العرب مثلا يربطون علاقة بأمريكا من خلال ولاياتها، ولاية فولاية.. وبذلك يمكن خلق التفاهم المتبادل بشكل عمودي.. قصد التأثير على المدى البعيد..
يبدو لي أنه مادام العالم العربي (والإسلامي) مرتبطا بتراثه الديني فلا يستطيع عقليا، ونفسيا، ولوج الإطار الفكري للثورة الأمريكية أو الاندماج فيه. ولا يجب أن ننسى أن أمريكا كانت تسمى العالم الجديد. معناه أن مجموعة بشرية خرجت من العالم القديم جغرافيا، وثقافيا، وفكريا، وسياسيا، ودينيا، واجتماعيا.. ثم حطت الرحال بأرض حرة، بكر تقريبا.. وشكلت مجتمعا جديدا، وفكرا جديدا.. كان يتلاءم مع عصر فلسفة الأنوار. أما نحن، العرب والمسلمون، فإننا نسعى دائما أن نجد حريتنا في التاريخ، بالعودة إلى الوراء.. إلى السلف الصالح، أو الدين كما كان في نقائه الأول، بعيدا عما علق به من أدران.. مثلما قامت بذلك الحركة الوهابية. فلم فشل ابن عبد الوهاب؟ ..كان قد رأى الخلاص في العودة إلى فكرة أو منظور عن الإسلام خال من البدع؛ وهذه فكرة مستحيلة، لأن التاريخ لا يعيد نفسه، وإذا ما عاد، افتراضا، فهو يكون مجرد حلم مزعج. لا يمكن أن نسترجع حساسيات الآخر، وإذا كان يستحيل علينا استرجاع شكل الأشياء قبل نصف قرن فكيف يمكن استرجاع الأشياء التي مضت قبل قرون؟.. ما نقدر على استرجاعه هو بعض التخيلات عن المراحل التاريخية السابقة، ولو أنها مبنية على كتابات وقراءات واستقراءات وتأويلات. لا يمكن حصر تقدم التاريخ ولا استرجاع الماضي والعيش في كنفه، ذلك أمر صعب بل مستحيل. وقد تحدث "كونستانتان كاستورياديس" عن هذه الأشياء بوضوح كبير.. لهذا يصعب على العالم العربي الاندماج مع أمريكا، والعكس صحيح..
ولكن نلاحظ اندماجا بين إسرائيل وأمريكا...
صحيح.. التقارب بين أمريكا إسرائيل نابع من كونهما معا تصورا مجتمعا جديدا، وقد قامت بذلك المجموعات البشرية التي شكلت أمريكا، وهو ما قامت به الحركة الصهيونية، وقام به الصهيوني تيودور هرتزل... مجتمع مستقبلي وليس مجتمعا يقوم على التاريخ.. فهو قد كان علمانيا، ولم يكن رجلا متدينا، استغل كون اليهود شعبا مضطهدا في أوربا وغيرها. ضاقت بهم السبل لحماية أنفسهم، ففكرت الحركة الصهيونية في الأرض الموعودة، التي ظلت تمثل حلمهم (وحلمها) عبر التاريخ. ولكن المجتمع الذي تصوره هرتزل، بالرغم من ذلك، يقترب في جوهره من المجتمع المستقبلي الذي تصوره الأمريكيون وطنا لهم. لقد تصور الأمريكيون مجتمعا مستقبليا، وتركوا للديانات مكانتها في النطاق الخاص، نطاق العبادات. قال الأمريكيون إن العلاقة بين الفرد والخالق علاقة خاصة، وسنقوم بحمايتها، ولكن المجتمع الذي نرغب في بنائه، وهو مجتمع متقدم، مستقبلي وتحكمه القوانين...
لا يحتل الدين مكان القانون ولا مركزيته في المجتمع الأمريكي، بينما نحن، في العالم العربي (الإسلامي) نبدو نعاني من نوع من الإعاقة: نتقدم خطوة نحو التحديث، وأخرى نحو السلفية.. وبذلك نظل في المكان نفسه، ولا نتقدم في الواقع خطوة حقيقية واحدة. وبذلك تظل الدول العربية مشدودة إلى الأرض، لا تقدر على الإتيان بأي خطوة في سبيل التقدم، لا هي حررت عقلها ووضعت الدين ضمن النطاق الخاص، ولا هي بنت مجتمعا معافى من الأمراض، تحكمه القوانين، ويحقق المساواة بين مواطنيه. ثم إن المشروع المجتمعي يجب أن يبنى على منظور عقلي، على تجميع كل الطاقات العقلية للتفكير والإبداع في مجال العلوم، والسياسة، والفكر... من أجل بناء مجتمع يشعر فيه المواطنون جميعا بأنهم متساوون، لا تنقصهم كرامة ولا طعام.. مجتمع يشمل كل مواطنيه، سواء كانوا مسلمين أو يهودا أو مسيحيين.
ولعل ما ينقصنا، على وجه الدقة، أننا لم نعثر بعد على صيغة أو وضعية تحدد علاقة مثلى مع الدين.. طريقة تسمح بتقدم مجتمعاتنا مع احترامنا للدين. لم نعثر على هذه الصيغ منذ دخل نابليون مصر، نهاية القرن الثامن عشر، وانطلقت حركة النهضة في العالم العربي. وهنا نحس بصدق قولة عبد الله العروي بأننا تغربنا في التاريخ.. نعيش نوعا من الاستلاب في علاقتنا بالغرب. فكلمة الغرب من الغرب (بالمعنى الجغرافي)، ونعيش من حيث الواقع وبالفعل مع الغرب.. غريب، متغرب، مغترب ويقصد بها كلها العلاقة بالغرب. وهكذا تغربنا في التاريخ وتغربنا في الغرب، نعيش نوعين من التغريب، نوعين من الاستلاب. لم نتحكم في أي من العلاقتين. وكل هذا يعني أننا لم نعثر بعد على نظرة مستقبلية لبناء مجتمعاتنا. معناه أننا فشلنا في هذا المجال..
لم يستطع مفكرونا أن يبدعوا سبيلا في هذا المنحى. وتلك ورطة عظمى. فلم نستطع السير إلا في طريق التقليد.. والحداثة، في العالم العربي والإسلامي، بمعناها الحقيقي هي التقليد.. تقليد ومحاكاة كل ما هو غربي. لاحظ مظهر الإنسان العربي والمسلم، ماذا ترى؟ كائنا بمظهر غربي، فعلي: من حيث اللباس، والهاتف النقال، وسبل التواصل... ولكنه من الداخل، وفي تصوراته، وأفكاره، وعلاقاته، وتخيلاته يؤكد لنفسه أنه يتمتع بأصالة لا تلين، وأنه يختلف عن الغرب.. بينما هو لم يبلغ بعد مستوى الفكر الغربي ليتمكن من المساهمة في هذه الحضارة الراهنة ويحس بالانتماء إليها بشكل حقيقي وواقعي. والحضارة الراهنة ليست حضارة غربية بل هي حضارة إنسانية ساهمت فيها، بنصيب كل شعوب العالم من الهند إلى الصين.. كما ساهم فيها العرب والمسلمون في وقت سابق.. لم يتمكن عالمنا العربي أن يصبح مشاركا فعليا في هذه الحضارة بل مجرد مستهلك لها فقط.
لعل من السبل التي يمكن أن يعتمد عليها العالم العربي والإسلامي للخروج من وضع التخلف والتقليد سبيل التعليم.. ما شكل هذا التعليم الواجب توفيره في هذه البلدان؟.. وأمريكا رائدة في هذا المجال بلا منازع..
يجب أن يكون التعليم متنورا، ثم يجب أن تحتضن الدراسة، بكل الشعب العناية بالتاريخ، ودراسة الحضارات التي سبقت الإسلام، وهي حضارات عريقة، وغنية جدا، ومنها الحضارة الصينية، والهندية، والفارسية، وحضارة الرومان وأمريكا اللاتينية ومنها حضارة الآزتيك، والمايا.. ثم أم حضارات حوض البحر الأبيض المتوسط وهي اليونانية. ولا ننسى أن العصر الذهبي للعرب والمسلمين هو الذي ترجموا خلاله الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية. فقد دخل هذا الفكر إلى العربية ولقحها. لكن الترجمة، الآن، مضمحلة في العالم العربي. تترجم اليونان وحدها أكثر مما يترجم العرب جميعا. وهذا وضع لا يرضي العدو نفسه. ثم يجب أن نعلم أن هناك فضاءين لتدريس الدين: أولا في كليات الشريعة والمعاهد الدينية الخاصة بتكوين الفقهاء والأئمة، ثم ثانيا، كما هو الأمر عليه في أمريكا، يدرس الدين في كليات ضمن تخصص التاريخ، والأنتربولوجيا، وعلم اللغة، والأركيولوجيا... للوقوف على ظروف نشأة الديانات. وهناك سبيلان لنشأة الدين، أولها أن الله تحدث إلى نبي حديثا خاصا هو الوحي، وثانيها أن نعتبر الدين كتيار فكري يخلق في ظروف معينة، ثم يتبلور ويخلق الأمة، ويسهم في خلق القانون..
ولا تلغي أي دراسة الأخرى. فعلماء الدين يعتمدون عليه من زاوية العقيدة وحفظ الكتاب المقدس والأحاديث، والآخرون ينظرون إلى الدين من زاوية العلم باعتبارهم مؤرخين، وعلماء إناسة، الخ.. وغالبا ما يتعرض هؤلاء إلى انتقاد أو ضغط من الفريق الأول كلما وصلوا إلى خلاصات لا تتفق مع ميوله. وهناك مشروع لتجريم يروم من ينتقد الدين، وهو مشروع قد يصيب بالأذى كل من لا يرى البعد المقدس للدين، بل بعده الفكري، والتاريخي.. فهذا القانون، إذا ما تم تبنيه فهو سيعيد العالم العربي والإسلامي إلى وضع الإعاقة والتكلس والجمود الشامل. ويضمن استمرار وضع تأبيد تقليد الغرب. والمقدس، في حد ذاته ليس خطيرا، ولكن توظيفاته أصبحت تعود بكل السلبيات على المجتمع العربي الإسلامي. لن يسمح ذلك الوضع لهذه الشعوب بأن تفتخر بأنها شعوب حرة، ومتقدمة، وتتبوأ المرتبة ذاتها مثل الشعوب المتقدمة الأخرى.
وعليه يجب أن نروم نوعا من التخصص، مدارس يدرس فيها الدين كمقدس، ومدارس أخرى يدرس فيها الدين برؤى مختلفة. ثم يجب أن نجعل الفكر التنويري تراثا مشاعا بين التلاميذ، والطلبة، وأفراد المجتمع. الفكر التنويري للإغريق وللمجتمع الأمريكي فالمجتمعات الأوربية.. لأن النواة الأصلية لكل هذا الفكر هو الحضارة الإغريقية. فهي التي قدمت معارف في كل المجالات: الطب، والفلسفة، والأدب، والمسرح، والجغرافية.. فالمعجزة المعرفية للبشرية هي الحضارة الإغريقية للقرن الخامس قبل الميلاد، بأثينا. والدليل أن ما أخذه العرب عن الإغريق هو ما زرع بذور الثورة في هذا الفكر ونتج عنه مفكرون كبار وفلاسفة وشعراء وأطباء (ابن رشد، وابن نفيس، والفارابي، وابن الهيثم، وابن البيطار، والجاحظ، والمعري، ابن الراوندي، الرازي، التوحيدي، ابن سينا، عمر الخيام...).. ولو أن العرب والمسلمين قاموا بعمل انتقائي ولم يوغلوا في تضاريس كل الفكر اليوناني.. ولكي نستعيد عصر الأنوار، يجب علينا أن نقوم بما قام به العرب والمسلمون في بغداد، وهو اللجوء إلى الترجمة، وتشجيع الفكر، وإغداق العطايا على العلماء، والاستثمار في المعرفة، والعناية بالفكر الأمريكي، والياباني، والروسي...
أين يكمن الاختلاف الحقيقي بين التعليم في أمريكا والمغرب أو العالم العربي، التعليم الأمريكي منتج، وفي المغرب (والعالم العربي) يعاني من نوع من الكساح..
تعكس الأنظمة التعليمية والمدارس دائما الثقافة العامة، ولكي تكون لنا مدرسة جيدة ومنافسة يجب أن يتغير المجتمع نفسه، أي يتغير الفكر المجتمعي، الفكر السائد في المجتمع، والمقصود به الصحافة، والجمعيات الثقافية، والخطاب السياسي.. المدرسة تعكس شروط المجتمع، وهي خلاصة السائد في المجتمع. ويجب أن يكون تغييرهما متوازيا، ويكون التغيير شاملا. وقد كانت أمريكا أول دولة أسست المدرسة العمومية في القرن التاسع عشر، لسبب رئيسي وهو ليندمج أبناء المهاجرين ويسهموا في بناء المجتمع، بناء الديمقراطية الأمريكية. ومن قبل كانت المدارس خاصة. ولا يفشل التلاميذ عامة في الدراسة، ويكررون السنة الدراسية.. بل يدرسون جيدا، ويتفاعلون.. قد لا تكون الصرامة حاضرة دائما، ولكن تحضر المرونة باستمرار، وتعمل على تحميل التلميذ المسؤولية، ليتعلم التفكير بمفرده، ولا يعتمد على غيره. وحين تلتحق بالجامعة تقضي سنتين تقوم الدراسة فيها على الجذع والمناهج المشتركة ولا يختار الطالب نوع الدراسة إلا حين يبلغ من العمر العشرين سنة، وينضج فكريا. ولا يفرض على الطالب التخصص منذ الصغر. ثم إن التعليم في أمريكا لا يقوم على أساس ديني، يدرس المتعلم تاريخ الديانات، وتاريخ الحضارات، حتى لا يتم توجيه المتعلم منذ الصغر، إلا إذا اختار المدارس الكاثوليكية، وهي مدارس خاصة، وليست عمومية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.