هل ما زال مشروع تجاوز الرأسمالية قائما؟ عندما أطلق الزعيم غورباتشوف برنامجه الإصلاحي "البرسترويكا أو الكلاسنوست 87-91" كان الاتحاد السوفياتي على وشك الانهيار. ولم يكن حلم "إعادة البناء" ممكنا تاريخيا، لأن منطق التاريخ أقوى من إرادة الأشخاص. لقد كان أمل إنقاذ الاتحاد السوفياتي من السقوط مسألة مستحيلة، على الرغم من الشعارات الإصلاحية الكبرى التي أعلنتها البرسترويكا (تعدد النماذج، نقد النموذج البيروقراطي للدولة، التأكيد على العلاقة بين الديمقراطية والاشتراكية، إطلاق المبادرة الحرة والملكية الخاصة في قطاع الخدمات والتجارة الخارجية والتصنيع، وفتح الاستثمار الأجنبي...). وبعد الانهيار، ظل السؤال مطروحا: هل انهارت الاشتراكية أم انهار نموذج تطبيقي من الاشتراكية؟. ففيما اعتبر البعض بأن الاتحاد السوفياتي انهار بسبب بيروقراطية الدولة وديكتاتورية الحزب الواحد، وسوء الإدارة الاقتصادية، ذهب البعض الآخر إلى القول بأن السقوط كان حتميا أمام الاختراق الثقافي الغربي للنموذج السوفياتي. أما قراءات أخرى فعلقت سقوط الاتحاد السوفياتي على عدم قدرته على مجابهة اقتصاد السوق، وزحف الرأسمالية العالمية، ورجعت كتابات عديدة إلى الظروف التاريخية التي رافقت قيام ثورة أكتوبر للتساؤل النظري المستلهم من الماركسية نفسها.. كيف يمكن للاشتراكية أن تنجح في بلد لا يمتلك القاعدة المادية لبناء الاشتراكية (ضعف تطور الرأسمالية وآليات توزيع الرأسمال)، وهو الشرط الموضوعي الذي طرحه ماركس؟. وإذا كانت ضحكات غورباتشوف لم تكن كافية لإنقاذ الاتحاد السوفياتي من الانهيار، فهل عبارات "تخوينه" ستكون كافية لفهم ما جرى؟. لنتساءل اليوم: كيف السبيل إلى فكر يدعي انتسابه إلى العلوم - ولطالما تغنى بتفوقه النظري في فهم الواقع الملموس، وفي تفسير الظواهر لاستخلاص القوانين الناظمة لها- أن يساهم في فهم ما يجري لتخليص الاشتراكية من العديد من الأوهام اللاتاريخية التي ظلت ملتصقة بها، ولتحريرها من التبريرات النظرية التي لم تسعفها، إلى حدود الساعة، للانتصار على عدوها التاريخي: الرأسمالية. وهذا سؤال اشتراكي متجدد: هل ما زال مشروع تجاوز الرأسمالية قائما؟ وماذا يعني التجاوز، أو على الأصح ما هي حدوده ومساحاته المتاحة في ظل عولمة الرأسمال؟ وإذا كانت الاشتراكية (كتطبيقات) تبشر بتخليص الإنسان من عبودية الإنتاج، ومن الاستيلاب الاقتصادي، ومن القهر الطبقي، وإذا كان الفكر الماركسي (كنظرية) قد اجتهد في تحليل الميكانيزمات الداخلية التي تحرك عملية الإنتاج، والتراكم الرأسمالي، وعلاقات الإنتاج القائمة، فما زال السؤال يفرضه نفسه، ليس فقط بالنسبة إلى الدول الرأسمالية المتقدمة، بل، بشكل أكثر استعجالية وإلحاحية، بالنسبة إلى البلدان المتخلفة لفهم نمط أو أنماط الإنتاج السائدة (نمط الإنتاج الكولونيالي؟ نمط الإنتاج المختلط؟، الرأسمالية التابعة؟ رأسمالية دول المحيط؟ التطور اللارأسمالي..؟) في سياق تاريخي يؤكد بأن الرأسمالية تتجاوز أزماتها الذاتية بنجاح، وهي المتفوقة اليوم، وهي التي تسعى إلى تسييد نماذجها عبر القارات. لقد ظلت حركات التحرير والقوى الاشتراكية في العالم الثالث سجينة النماذج الاشتراكية والنظم المفاهيمية الجاهزة القادمة من "المعسكرات" الغربية دونما اجتهاد في تبييء الفكر الاشتراكي، وإخضاعه للشروط التاريخية التي تنتجه، ودونما الاهتمام الكافي بالعديد من الاجتهادات النظرية المتقدمة، حيث ظلت بعض المقولات النظرية تؤثر سلبا على مسارات الفكر الاشتراكي بالبلدان النامية لدرجة تحولت معها المفاهيم إلى مقولات مقدسة (ديكتاتورية البروليتاريا وتحقير طبقات أخرى، الطليعة الثورية، الحقد الطبقي، البرجوازية الرثة)، ودون عناء "التحليل الملموس للواقع الملموس"، ودون الكشف العلمي عن طبيعة التناقضات القائمة في علاقات الإنتاج، والعلاقات والتشكيلات الاجتماعية، والتناقضات الأساسية والثانوية، وطبيعة التفاعلات مع المحيط الإقليمي والجهوي، ودون تحليل معمق للتعبيرات الثقافية، وللطقوس الدينية، والمعتقدات، والعادات، ونظم القيم.. حيث تم التعامل الصارم مع العديد من المقولات كمسلمات إيديولوجية، ومن ضمنها التعامل مع مفهوم الطبقة كمفهوم إيديولوجي، والنظر إليها كوظائف مطلقة في التاريخ، وتهميش التعبيرات الثقافية، وإخضاعها لتصنيفات قبلية، مما نتج عنه التعسف النظري في مقاربة وفهم مستويات الوعي، والإدراكات، والتمثلات، وأنماط الاستهلاك لفئات مختلفة من المجتمع، وحصر التقسيمات الاجتماعية في ثنائية البرجوازية مقابل العمال، دون الكشف عن طبيعة القوى الاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي أصبحت جزءا من تقسيم العمل، والاستهلاك، والإنتاج. وإذا كان الفكر الاشتراكي يستند في تفسيره للتطور التاريخي على تحليل التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، أي بين قوة العمل ورأس المال، ففي المجتمعات النامية يأخذ هذا التناقض أشكالا مختلفة ترتبط بمستوى تطور هذه المجتمعات، وضعف وتيرة النمو. كما أن مستويات الوعي الاجتماعي تحمل معها آثار الأنماط الثقافية التي تجعل "البنية الفوقية" أحد عوامل التأثير المباشر في هذه التناقضات، حيث تتداخل عضويا مجموعة من العناصر، منها المعتقدات، والتقاليد، والروابط العصبوية، والقيم العشائرية.. وسيكون من باب السذاجة إهمال هذه العناصر، في مقابل التسليم النظري الجاهز بأن "الوعي الطبقي" وصفة خالصة تعكس التناقض القائم بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. إن التحولات الكونية التي يشهدها العالم اليوم في سياق العولمة، ورهانات النيوليبرالية، تفترض تجديد التفكير السياسي بما يسمح بتأهيل مقولاته لمجابهة قضايا الديمقراطية، والتنمية، والعدالة الاجتماعية، ودولة الرفاه، وحقوق الإنسان، واقتصاد السوق.. والتفكير في الآليات الكفيلة بضمان مقومات الدولة الاجتماعية. ولعل التراكمات التي حصلت في الفلسفة السياسية العالمية تفضي اليوم إلى تلاقح معرفي وسياسي يزاوج موضوعيا بين مستلزمات مجابهة دكتاتورية السوق ومتطلبات بناء نماذج مختلفة للديمقراطية الاجتماعية على قواعد التعددية السياسية والثقافية، والحريات العامة، والحقوق الكونية للإنسان، والمساواة، والتوزيع العادل للثروة، ودعم السلم العالمي، ومحاربة العنصرية، والتطرف بمختلف أشكاله، والتجاوب مع المتطلبات الجديدة للحقوق البيئية. إن محاولة التحكم في بنية الاقتصاد العالمي، من خلال تحرير الأسواق، وتدويل الإنتاج، وتدخل الصناديق الدولية للقروض يشكل عناصر لإعادة صياغة التقسيم الكوني للعمل، ويؤشر على تحولات في دور الدولة الوطنية، وسيادتها، وحدود تدخلاتها، ووظائفها، باعتبار النتائج المترتبة عن هذا الوضع، عبر الإملاءات التحكمية في الدول، بدءا بما يسمى بسياسات الانفتاح الاقتصادي، والتوازنات الماكرو اقتصادية، والتدخل في تحديد الأسعار، والسياسات المالية للدول. واليوم، يشهد العالم تفاوتات متزايدة في توزيع الثروة، ليس فقط بين دول الشمال ودول الجنوب، بل أيضا بين الفئات الاجتماعية المنتمية إلى البلد نفسه، كما أن التناقضات الحادة بين رؤوس الأموال والعمل تفضي إلى تكريس العطالة، وموجات التسريح الجماعي، واتساع دوائر الفقر والهشاشة، مما ينذر بوقوع كوارث اجتماعية كونية ستزيد من تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء.