اتفاق أمني مغربي فرنسي جديد يرسم خارطة طريق لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة    باستعمال الدرون والكلاب البوليسية.. حجز 3 أطنان من الشيرا كانت موجهة للتهريب الدولي    بنفيكا يزيح بايرن عن الصدارة وبوكا يودّع مونديال الأندية    أزمة مالية تهوي بليون الفرنسي إلى الدرجة الثانية    الجواهري : يجري استكمال مشروع الميثاق الخاص بالمقاولات الصغيرة جدا    "حرب بلا هوادة".. سلطات عمالة المضيق تواصل القضاء على احتلال الشواطئ وتزيل مظلات الأغنياء        بعد غياب طويل.. عودة الإعلامية لمياء بحرالدين للساحة الإعلامية بشكل جديد    مجلس الحكومة ينعقد للحسم في تاريخ الشروع الفعلي للمجموعة الصحية الترابية لجهة طنجة تطوان الحسيمة    بنعلي: المغرب حقق قفزة نوعية في مشاريع الطاقات المتجددة    بركة: 300 كيلومتر من الطرق السريعة قيد الإنجاز وبرمجة 900 كيلومتر إضافية    لائحة لبؤات الأطلس المشاركة في "كان السيدات 2024"    استمرار حملات الإغاثة المغربية لفائدة العائلات الفلسطينية الأكثر احتياجا في قطاع غزة    ارتفاع حصيلة القتلى في إيران إلى 610 منذ اندلاع المواجهة مع إسرائيل    رئيس الهيئة: التسامح مع الفساد والريع المشبوه يُضعف المؤسسات ويكرس اللامساواة    "ماتقيش ولدي" تدق ناقوس الخطر بعد حادث الطفلة غيثة وتطالب بحماية الأطفال على الشواطئ    الجديدة.. جهوية الدرك تضبط 10 أطنان من مسكر "الماحيا"    ردود الفعل الدولية على تصاعد التوتر الإيراني الإسرائيلي    الصوديوم والملح: توازن ضروري للحفاظ على الصحة    إشادة كبيرة ومدويةللإعلام الفرنسي للنجم المغربي حكيمي كأفضل ظهير أيمن في العالم    الحسيمة .. دعوات لمقاطعة شركة "ارماس" تقسم نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي        المغرب على موعد مع موجة حر شديدة نهاية الاسبوع    ترامب: الآن يمكن لإيران مواصلة بيع نفطها للصين    الأداء الإيجابي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    بودريقة يقدم للمحكمة صوراً مع الملك محمد السادس    المملكة المغربية تعرب عن إدانتها الشديدة للهجوم الصاروخي السافر الذي استهدف سيادة دولة قطر الشقيقة ومجالها الجوي    بعد مسيرة فنية حافلة.. الفنانة أمينة بركات في ذمة الله    راغب علامة : المغرب بلد عظيم ومشاركتي في موازين محطة مميزة في مسيرتي    تركيا تنجز في المغرب مشاريع إنشائية بقيمة 4.3 مليار دولار وتعد بمزيد من الاستثمارات .. تفاهم مغربي تركي على إزالة العقبات التجارية ورفع المبادلات فوق 5 ملايير دولار    العراق يعلن إعادة فتح مجاله الجوي    مهرجان "موازين" يتخلى عن خدمات مخرجين مغاربة ويرضخ لشروط الأجانب    ترامب: إسرائيل وإيران انتهكتا الاتفاق    دراسة تكشف ارتفاع معدلات الإصابة بالتهاب المفاصل حول العالم    الإكثار من تناول الفواكه والخضروات يساعد في تحسين جودة النوم    هل تعالج الديدان السمنة؟ .. تجربة علمية تثير الدهشة    قبيل حفله بموازين.. راغب علامة في لقاء ودي مع السفير اللبناني ورجال أعمال    في برنامج مدارات بالإذاعةالوطنية : وقفات مع شعراء الزوايا في المغرب    تعزية في وفاة الرمضاني صلاح شقيق رئيس نادي فتح الناظور    زغنون: في غضون شهرين ستتحول قناة 2m إلى شركة تابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة    نادر السيد يهاجم أشرف داري: "إنه أقل بكتير جدًا من مستوى نادي الأهلي"    الهولوغرام يُعيد أنغام عبد الحليم حافظ إلى الحياة في مهرجان موازين    في مهرجان موازين.. هكذا استخفت نانسي عجرم بقميص المنتخب!    بوغبا يترقب فرصة ثمينة في 2026    إسرائيل تعلن رصد إطلاق صواريخ إيرانية بعد إعلان وقف إطلاق النار وطهران تنفي    الوداد يطمئن أنصاره عن الحالة الصحية لبنهاشم وهيفتي    قهوة بالأعشاب الطبية تثير فضول زوار معرض الصين – جنوب آسيا في كونمينغ    ترامب يعلن التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار شامل بين إسرائيل وإيران    ميزانية الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها    رمسيس بولعيون يكتب... البرلماني أبرشان... عاد إليكم من جديد.. تشاطاراا، برويطة، اسعادات الوزاااار    "بي واي دي" الصينية تسرّع خطواتها نحو الريادة العالمية في تصدير المركبات الكهربائية    الهلال السعودي يتواصل مع النصيري    بركة: انقطاعات مياه الشرب محدودة .. وعملية التحلية غير مضرة بالصحة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللّغَةُ العَرَبيّة في يَوْمِهَا العَالَمِيّ
نشر في هسبريس يوم 18 - 12 - 2018

ليت المرحوم حافظ إبراهيم كان يدري أيّة نبوءةٍ إعجازيةٍ كبرى قذف بها إلى مَسمع الدّهر يوم حكى لنا أنّ اللغة العربية قالت عن نفسها: أنا البّحر في أحشائه الدرّ كامنٌ / فهل سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي..؟!، صدق شاعر النيل، وها هو ذا العالم أجمع يحتفل في 18 من شهر ديسمبر الجاري 2018 باليوم العالمي للّغة العربية، يُحتفىَ بها في هذا التاريخ من كلّ عام، باعتبارها لغة عالمية، رسميّة، متداولة، ومُستعملة في جميع المحافل الدّولية والمنظمات العالمية، ولم يأتِ هذا التتويج عبثاً أو اعتباطاً، بل جاء بعد نضالٍ متواصل، وجهودٍ متوالية انطلقت منذ أواسط القرن الفارط، بعد أن أقرّت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ذلك في الدورة ال92 لمجلسها التنفيذي المنعقد عام 2012، حيث طفق هذا المنتظم الدّولي في الاحتفال لأوّل مرّة بهذا اليوم في ذلك العام، قبل أن تقرّر الملحقية الاستشارية للخطة الدّولية لتنمية الثقافة العربية المعروفة ب(أرابيا) المنبثقة عن اليونيسكو كذلك هذا اليوم عنصراً أساسيّاً في برنامج عملها المتواتر في هذا المجال، وهكذا حتى نصل إلى قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة بجعل اللغة العربية لغة عمل بصفةٍ رسمية بين مختلف اللغات الحيّة الأخرى المعتمدة في الجمعية العامة وهيئاتها المختلفة، وأخيراً الإعلان عن اليوم العالمي لهذه اللغة في 18 ديسمبر من كل عام كلغة رسمية متداولة في مختلف الهيئات والمنظمات والمحافل الدّولية.
ومع ذلك ما زالت تترى الدّراسات، وتتعدّد النقاشات، وتُطرح التساؤلات، وتُثار التخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب علوم الحداثة، والعصرنة، والابتكار، والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني، وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المُتطوّر والمُذهل، كما تحمّس بالمقابل فريق آخر فأبرز إمكانات هذه اللغة وطاقاتها الكبرى مستشهداً بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضّاد في نقل العلوم وترجمتها شأواً بعيداً، كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد أن يُصبح حديثَ جميع المجالس والمنتديات والمؤتمرات في مختلف البلدان العربية، فهل تعاني هذه اللغة حقاً من هذا النقص؟ وهل هي في حاجة إلى مناقشات من هذا القبيل؟ يقول الخبراء الواقع إنّ اللغة العربية في العمق ليست في حاجة إلى ارتداء درع الوقاية يحميها هجمات الكائدين ويردّ عنها شماتة المتخوّفين، إذ تؤكّد كلّ الدلائل والقرائن قديماً وحديثاً أنّها كانت ولا تزال لغة حيّة، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض المُتشكّكين من نعوت ونقائص، كانت قد أثارتها في الأصل زمرة من المُستشرقين في منتصف القرن المنصرم، حيث اختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم، كان الغرض من منها إثارة البلبلة والشكوك بين أبناء هذه اللغة، الذين يعرفون جيّداً أنّها لغة تتوفّر على جميع مقوّمات اللغات الحيّة. وجدير بنا في مناسبة الاحتفال بيومها العالمي أن نستقي من التاريخ شهادة حيّة قائمة عن الشأو البعيد الذي أدركته هذه اللغة حيث كانت لها الغلبة، وبالتالي تأثيرات بليغة في عددٍ من اللغات العالميّة الحيّة، وفي طليعتها اللغة الإسبانية.
العربية وتأثيرها في لغة سيرفانطيس
كان للغة الضّاد بالفعل تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، حيث استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور، وهي الآن تعيش جنباً إلى جنب مع هذه اللغة، وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة، ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وجزالة وفحولة وخصوبة لغة الضّاد التي ما فتئت تتألق وتتأنق وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مطواعةً مرنةً سلسةً عذبة متفتّحة، ينبوع حنان تأخذ وتُعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما.
وتعيش اللغة الإسبانية في الوقت الحاضر تألقاً وانتشاراً واسعيْن في مختلف ربوع المعمور، ووعياً من الإسبان بما أدركته لغتهم من رِفعةٍ و"أوج" يحلو لهم عند الحديث عن انتشارها، والإشعاع الذي أصبحت تعرفه استعمال هذه الكلمة العربية بالذات للتباهي بها وهي (الأوج)، والتي تُنطق عندهم ( Auge ) ""أَوْخيِ" حيث تُقلب أو تُنطق الجيمُ خاءً، كما هو الشأن في العديد من الكلمات العربية الأخرى المبثوثة في اللغة الإسبانية مثل: جبل طارق الذي يُنطق عندهم (خِبْرَلْطَارْ)، وكلمة جَبَليّ تُنطق (خَبليّ )، وهو "الخنزير البرّي الذي يعيش في الجبل"، وكلمة الجامع التي تحوّلت عندهم إلى (أَلْخَامَا)، والجرّة غدت (خَارّا)، وهو الدنّ أو إناء الفخار، ونهر أو مدينة "وادي الحِجارة"، التي تحوّلت إلى (غْوَادِيلاَخَارَا)...إلخ."، إنهم يبذلون جهوداً مضنية، ويرصدون إمكانات كبرى للتعّريف بلغتهم وثقافتها وإظهار كلّ ما من شأنه أن يبثّ الاعتزاز في ذويها وأصحابها، ومن ثمّ تأتي تلك الندوات والمناظرات التي تعقد في هذا السّبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني الأسبق أو نجله العاهل الإسباني الحالي، حيث يحرصان على حضور مختلف جلسات الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصّة عند انضمام عضو جديد إليها أو عند تكريم أحد الرّاحلين عنها، ويصرف الإسبان أموالاً طائلة في سبيل نشر لغتهم وثقافتهم والتّعريف بتاريخهم، وبآدابهم، وفنونهم، وتراثهم.
نيبريخا، الدّؤلي، والفراهيدي
ويهدف التنسيق بين مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية في مجال المصطلحات اللغوية والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان بغاية توحيدها ومحاربة الدّخيل. ولجعل حدّ "للغزو اللغوي" الأجنبي أعدّت أكاديمية اللغة الإسبانية بالتعاون مع جميع أكاديميات اللغة الإسبانية الأخرى الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية والتي يبلغ عددها 21 أكاديمية لهذه الغاية معجماً أسبانياً فريداً في بابه وهو: "معجم الشكوك الموحّد"، بمعنى أنّ أيّ متحدّث أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الإسبانية الذي قد يخامره شكّ أو تساوره ريبة حول أيّ استشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة سوف يجد ضالته في هذا المعجم.
والإسبان واعون بأهمية لغتهم في عالم اليوم، وبالمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوّأها في مختلف البلدان، وهم يعلمون كذلك أنّ لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكثر اللغات الحيّة تأثيراً وانتشاراً في العالم أجمع في هذا القرن وما بعده؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها - حسب التوقعات المستقبلية- ما ينيف على 100 مليون خلال العقدين المقبلين. وتعرف اللغة الإسبانية تقدّماً مهمّاً في البلدان العربية وأصبحت تحظى بإقبال كبير من لدن الطلاب والباحثين، وهي تدرّس اليوم في مختلف الجامعات العربية، وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب ستة ملايين من الناطقين بهذه اللغة، كما أصبحت العناية بها تحظى باهتمام متزايد في مختلف البلدان المقابلة للجزيرة الإيبيرية والمحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسّط جنوباً نظراً لعوامل تاريخية وحضارية وثقافية بين إسبانيا وهذه البلدان بحكم الجيرة. ويرى الملاحظون أنّ تقدّم اللغة الإسبانية وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصّدفة، بل يرجع إلى عدّة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية؛ ذلك أنّ نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية). كما أنّ "الأوج" الذي تعرفه اللغة الإسبانية في العالم حقق للثقافة الإسبانية حضوراً مهمّاً في العديد من المحافل العالمية في مجال النشر، والتأليف، والمسرح، والفنون التشكيلية، والموسيقى، والشعر، والأدب، والسينما.
وتتعاون إسبانيا مع شقيقاتها ببلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بهذه اللغة في هذا الاتجاه لتقوية وتعزيز الهويّة الثقافية باعتبارها من الأواصر القوية التي سوف تعمل على تحقيق تقارب أكبر وتعاون أوثق فيما بينها، في مختلف المجالات. وقد قامت هذه البلدان، بالإضافة إلى معجم الشكوك اللغوية الموحّد، بإصدار أوّل معجم لتوحيد النّحو الإسباني كذلك. والإسبان، وإلى جانبهم سكان البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، على وعي تامّ بأنّ هذه الجهود لا بدّ أن تؤتي أكلها، إذ لا بدّ أن يعقبها ذيوع وانتشار أوسع للغتهم وثقافتهم، وبالتالي تقدّم اقتصادي وازدهار سياحي، خاصّة أنّ إسبانيا تعدَ من أكبر البلدان السياحية في العالم، إذ تعرف هذه الصناعة عندهم تقدّماً هائلاً، وتطوّراً مذهلاً، وتعتبر المآثر والمعالم الحضارية الإسلامية في الأندلس عنصراً مهمّاً لجذب السّياح من مختلف أنحاء العالم مثل قصر الحمراء بغرناطة (وهو المعلمة العربية الأولى في إسبانيا الأكثر مشاهدة من طرف السياح الأجانب) بالإضافة إلى العديد من القصور والحصون والمعالم التاريخية الأخرى في مختلف المدن الإسبانية كصومعة لاخيرالدا وبرج الذهب في إشبيلية والجامع الأعظم في قرطبة وقصر الجعفرية بسراقسطة وسواها من المآثر الأخرى .
"نيبريخا" وهو واضع أوّل وأشهر كتاب في النحو الإسباني(1492)، وأوّل معجم في اللغة الإسبانية (1495) أيّ إنه يعتبر عندنا بمثابة أبي الأسود الدّؤلي واضع النحو العربي، والخليل بن أحمد الفراهيدي واضع أوّل معجم في لغة الضّاد وهو "العين"، يقول نيبريخا في مقدّمة معجمه مخاطباً الملكة الكاثوليكية إزابيلا: "اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية"، يريد نيبريخا أن يقول بهذا المعنى "أنّ اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة، والجذور، والحضور، ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة، وهي تعني كذلك مغزى الوجود الاسباني في أبعد الآفاق" (يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتّاج الإسباني في ذلك الأوان).
كلمات عربية وأمازيغية في الإسبانية
يشير الباحث عدلي طاهر نور، في مقدمة كتابه "كلمات عربية في اللغة الإسبانية"، إلى "أنه لا جدال في أنّ اللغة العربية ظلت لعدّة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السّائدة في العالم.. ولا عجب أن نسمع ألبارو القرطبي، وهو من أقطاب الثائرين على المسلمين في القرن التاسع الميلادي، يستنكر انصراف المسيحيين في إسبانيا عن دينهم ولغتهم، ويندّد بشغفهم بعلوم المسلمين وباللغة العربية وآدابها، وإنفاقهم الكثير في سبيل اقتناء كتبها، وهو لا يجد بين ألف منهم شخصاً واحداً يستطيع أن يكتب باللاّتينية خطاباً صحيحاً إلى صديق له".
خلال الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، وبشكل خاص في الأندلس، تعايشت كلّ من اللغتين العربية والأمازيغية جنباً إلى جنب؛ بل لقد كان لهما تأثير بليغ في لغة سيرفانطيس. وبحكم هذه المعايشة، هناك العديد من الكلمات العربيّة والأمازيغيّة التي استقرّت فيها.
يرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أن معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل، والسّقي، أو الريّ، والبناء، كلها من أصل عربي، فَمَنْ يبني البِنَاء؟ ألبانييل Albañil(بالإسبانية) وهو البَنَّاء، أو الباني، وماذا يبني؟ القصرAlcázar، القبّة Alcoba، السّطح Azoteaأو السقف (وهي بالتوالي تُنطقُ في الإسبانية: ألكَاسَرْ،ألْكُوبَا،أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية Acequia، والجُب Aljibe، وألبِرْكَة Alberca (و هي تُنطق في الإسبانية):أسِيكْيَا،ألْخِيبِي،ألبيركَا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّرAzúcar، الأرزArroz، النارنج Naranja، الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa،التّرمُسAltramuces، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas(وهي تُنطق في الإسبانية بالتوالي: أسوُكار،أرّوث،نارانخا،الليمون، الكاشُوفا، ألترامويسيس، أسيلغا، إيسبيناكاس).وبماذا تزدان بساتيننا، أوتُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين، Jazmín والزّهرAzahar، والحبَق Albahaca، وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا،) بالإضافة إلى العديد من الكلمات الأخرى التي لا حصر لها كلّها دخلت وتستقرّت في هذه اللغة، وما فتئت الألسنُ تلوكها، والمعاجم تثبتها، وتنشرها، وتتباهى بها، والكتب والتآليف والمجلدات، والأسفار، والمخطوطات، والوثائق، والمظانّ تحفل بها بدون انقطاع إلى اليوم سواء في إسبانيا، أو ما وراء بحر الظلمات في مختلف بقاع، وضِيَع، وأصقاع العالم الجديد.
وهناك كذلك العديد من الكلمات الأمازيغية التي استقرّت بدورها في اللغة الإسبانية مثل (تَزَغّايثْ) أو الزغاية Azagaya (وتعني الرّمح الكبير)، واستعملها كولومبوس في يومياته، بصيغة الجمع Azagayas ( الزغايات) وهي موجودة، ومُدرجة في معجم الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية، وغير موجودة في المعاجم العربية لا " لسان العرب " ولا " مقاييس اللغة" ولا " الصّحّاح في اللغة " ولا " القاموس المحيط " ولا " العُباب الزّاخر " لا في صيغة المفرد، ولا في صيغة الجمع، مِمّا يدلّ الدلالة القاطعة على أصلها وأثلها الأمازيغي حسب ما يؤكّد المُستشرق الهولندي المعروف (رَيِنْهَارْت دُوزِي: Reinhart Dozy)، وكلمة (آشْ) تُجمع ب "أشّاون" وتعني القرون ومنها اسم مدينة (الشّاون) المغربية، ويؤكّد صاحب "الإحاطة في أخبار غرناطة " لسان الدين ابنُ الخطيب أنّ النّهر الوحيد في شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل اسماً أمازيغياً هو"مدينة آش"، ونهر"وادي آش" أيّ وادي القرن وهو في الإسبانية "Guadix "، أو "río de Acci"، "Wadi Ash"،" río Ash " بالقرب من مدينة غرناطة.إلخ (وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالقبائل وبعض الضّيع والمدن مثل مدينة Teruel الإسبانية (بالقرب من مدينة سراقسطة) المقتبسة من إسم مدينة " تروال" المغربية بالقرب من مدينة وزّان( وسط المغرب) ( وهي من قبائل بربر صنهاجة)، ومدينة Albarracín بالقرب من ترويل الإسبانية، ويرجع اسم هذه المدينة إلى القبيلة البربرية "بني رزين" التي عاشت بها واستقرت في ربوعها في القرن الثالث عشر، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدر من "بني رزين" وهي قرية أمازيغية جبلية مغربية والكائنة في الطريق السّاحلي الرّابط بين تطوان والحسيمة شمال المغرب، ومنها كلمات مثل Gomera من "غمارة" وهي عند الإسبان اسم جزيرة في الأرخبيل الكناري، de Gomera Vélez وهذه الكلمة من اسم " بادس" وهو(اسم شبه الجزيرة المحتلة الكائنة بجوار شاطئ "قوس قزح" وبني بوفراح ونواحيها بإقليم مدينة الحسيمة)، وإليها يُنسب الوليّ الصّالح أبو يعقوب البادسي، الذي ذكره ابن خلدون في مقدمته بكل تبجيل، كما تحمل اسمَه الكريم أعرقُ ثانوية في جوهرة البحر الأبيض المتوسّط مدينة الحسيمة، واسم بادس مُستعمَل بكثرة في إسبانيا مثل:Vélez Rubio, Vélez Malaga,Velez Benaudalla,Velez Blanco ,Rio Vélez, إلخ، ناهيك عن أسماء المنتوجات والصنائع التي أدخلها المسلمون إلى أوروبا في مختلف الحقول والمجالات وما أكثرها.
كولومبوس والعربية
ومن أطرف ما يمكن أن يحكىَ في مجال التأثير (اللغوي) العربي في المجتمع الإسباني هو أنّه حتى كريستوفر كولومبوس نفسه استعمل كلمات عربية وأمازيغية في يومياته ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه أيّ علوم البحر، ومعارف الإبحار بل في المسمّيات اليومية العادية. ويكفي أن نستدلّ في هذا الشأن بالفقرة الأخيرة من يومياته بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر1492 حيث يقول: "وعند الصّباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم، ثمّ قدموا في اتّجاه المركب بواسطة (المعدّيات) في الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس (ألميدياس)، (مفردها المعديّة وهي كلمة أوردها معجم الدكتور عدلي طاهر نور في كتابه آنف الذكر، وهي زورق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة مدينتي سلا والرّباط على نهر أبي رقراق)، ثم يقول: "واستقدموا معهم لفائف من (القطن)، (وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس "ألغُودُون" كما تنطق اليوم في الإسبانية)، وكانوا يحملون (الزغّايات)، وجاءت هذه الكلمة في يوميات كولومبوس باسم "أزاغاياس" وهي كلمة أمازيغية سبقت الإشارة إليها أعلاه تعني اليوم عند الإسبان الحرْبة القاطعة التي تثبت في الطرف الأعلى للبندقية التي كان يحملها رجال الحرس المدني)، ويضيف: "كما استقدموا معهم طيور( الباباغايوس) "جمع الببّغاء وهو طائر يُطلق على الذّكر والأنثى، من خصائصه أنّه يُحاكي كلامَ الناس"، وهكذا نجد في فقرة قصيرة جدّاً من هذه اليوميات الكلمات العربية والأمازيغية التالية: (المعديّة، القطن، الزغّاية، الببّغاء)، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقباً عربياً وهو "أمير البحر" وينطق في الإسبانية مُحرّفاً بعض الشيء (ألميرانتي)، وما زال هذا اللقب يُستعمل في الإسبانيّة إلى اليوم.
المستشرقون ولغة الضّاد
العالم يركض ويجري من حولنا، والحضارة تقذف إلينا بعشرات المصطلحات والمستجدّات يومياً. والاختراعات تلو الاختراعات تترى في حياتنا المعاصرة.. ونحن ما زلنا نناقش ونجادل في أمور كان ينبغي تفاديها أو البتّ فيها منذ عدّة عقود، ترى كيف يرى كبار المستشرقين الثقات هذه اللغة بعد انصرام هذه القرون الطويلة التي لم تنل من قوّتها وزخمها وعنفوانها حبّة خردل؟ إنها ما زالت كما كانت عليه منذ فجرها الأوّل لم يستعصِ عليها دينٌ ولا عِلمٌ ولا أدبٌ ولا منطق، إنّها ما زالت مشعّة، نابضة، خلاّقة، مطواعة معطاء، لقد شهد لها بذلك غير قليل من الدّارسين والمستشرقين، واعترفوا بقصب السّبق الذي نالته على امتداد الدّهور والعصور في هذا القبيل. يقول المستشرق الفرنسي لوي ماسّنيون في كتابه (فلسفة اللغة العربية): "لقد برهنت العربية بأنّها كانت دائما لغة علم، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التي طبعتها على امتداد قرون خلت،إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية، ولها قدرة خاصّة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والاختصار..إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلاّ في جُمَلٍ طويلة ممطوطة". إنّه يضرب لذلك مثالاً فيقول: "للعطش خمسُ مراحل في اللغة العربية، وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء، وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصَّدَى، والأُوّام، والهُيام، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان "هائمٌ" هو الذي إذا لم يُسْقَ ماء مات"، ويضيف ماسّينيون: "نحن في اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطراً كاملاً وهو"إنه يكاد أن يموت من العطش" ولقد أصبح "الهيام" (آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشّديد. وآخر مراحل الهوى، والجوى، والوله، والصّبابة.
يرى "بروكلمان" أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع انتشاراً تكاد لا تعرفه أيُّ من لغات الدنيا. ويرى إدوارد فان ديك أنّ "العربية من أكثر لغات الأرض ثراءً من حيث ثروة معجمها واستيعاب آدابها". المستشرق الهولاندي رينهارت دوزي (صاحب معجم الملابس الشهير) يقول: "إنّ أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا اهتماما يُذكر للغة اللاتينية، وصاروا يميلون للغة الضاد، ويهيمون بها." يوهان فك يؤكّد أن التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة في التاريخ". جان بيريك: "العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل". جورج سارتون :"أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين". وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تُخْفِ إعجابها بلغة الضاد يضيق المجال لسردها في هذا المجال.
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية -الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوتا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.