انطلاق الدورات التكوينية في مجال تدريس اللغة الأمازيغية بجهة طنجة تطوان الحسيمة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    ارتفاع أسعار النفط بعد الضربات الإسرائيلية على رفح    الجيش الإسرائيلي علن سيطارتو على الجانب الفلسطيني من معبر رفح.. ورفع الراية ديال بلادو    المبعوث الصيني الخاص لتغير المناخ يزور الولايات المتحدة    مؤتمر عربي بالقاهرة يبحث آلية لجمع ورصد مؤشرات النزاهة في في القطاع العام في الدول العربية    مسؤولين فالزمالك المصري سبقو فريقهم لبركان    بايرن يخطف نجم الميلان ويربك حسابات ريال مدريد    توقعات أحوال الطقس اليوم الثلاثاء    طعنة سكين تصيب عميد شرطة بتزنيت    وزير النقل يسجل ارتفاعا في ضحايا حوادث السير من مستعملي الدراجات النارية    نزار بركة: لأول مرة يتم إدراج ميزانية خاصة لصيانة الطرق القروية    بطولة انجلترا: وست هام يعلن رحيل مدربه مويس نهاية الموسم    المنتخب الوطني "للفوتسال"يحتل المرتبة السادسة عالميا    أمازون: سنستثمر 9 مليارات دولار فسنغافورة    الطيران الأميركي يعلن التحقيق مع "بوينغ"    جيش إسرائيل يعلن السيطرة على معبر رفح    بطولة ألمانيا: الفرنسي كومان يعود لتدريبات بايرن ميونيخ    تقرير الخارجية الامريكية: المثليين المغاربة كيعانيو.. كاين عنف واعتداءات واعتقالات وتهديدات بالقتل    قاضية صبليونية انتاقدات التعاون بين المغرب وبلادها في مجال تهريب المخدرات    مخاوف في سبتة من انهيار جدار حدودي مائي وتسلل المهاجرين    سيمانة قبل ما يبدا مهرجان كان.. دعوة ديال الإضراب موجهة لكاع العاملين فهاد الحدث السينمائي الكبير وها علاش    صعود أسعار الذهب من جديد    ريان أير تُطلق خطًا جويًا جديدًا داخل المغرب    بأكثر من 15 مليون دولار.. نجل الصفريوي يشتري منزلاً في ميامي وهذه صوره    منير المحمدي يكشف.. هذا هو قدوتي وهذا ما كنت لأفعله لو لم أكن لاعب كرة قدم!    حدث في أمستردام.. تميز النساء المغربيات يُبرز في لقاء جمع نساء من مختلف الثقافات    "فريق نجم طرفاية: قصة نجاح وتألق في عالم كرة القدم"    إبراز فرص الاستثمار بالمغرب خلال مائدة مستديرة بالولايات المتحدة    برقية تعزية ومواساة من جلالة الملك إلى خادم الحرمين الشريفين        كبير إيطاليا يدخل بقوة على خط التعاقد مع زياش    "العرندس" يتوج نفسه وينال جائزة الأفضل في رمضان    هتك عرض تلميذات من طرف مدير ثانوية فمولاي يعقوب.. المشتبه فيه للجدارمية: الكاميرا اللي عندي فالمكتب كتخدم غير فوقت الامتحانات وصافي والبورطابل ديالي ضاع مني    زيلينسكي يستعجل استلام أسلحة غربية    خلال 3 أشهر.. تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج بلغت 27,44 مليار درهم    الدورة الثانية عشر لعملية تأطير الحجاج بإقليم الناظور    نتنياهو يرد على "قبول حماس للصفقة" بمهاجمة رفح    "البوليساريو" تهاجم الإمارات بسبب الصحراء    مرصد يثمن مأسسة الحكومة للحوار الاجتماعي    الأمثال العامية بتطوان... (591)    وفاة المقدّم التلفزيوني الفرنسي الشهير برنار بيفو    بسبب تصرفات مشينة وعنيفة.. تأجيل محاكمة محمد زيان في قضية اختلاس أموال الحزب الليبرالي    ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في المغرب ب56,2% عند متم مارس 2024    تطويق أمني بالعاصمة يحول "مسيرة الصمود" لأطباء الغد إلى "وقفة الحشود"    بلقصيري: أجواء افتتاح مهرجان سينما المرأة والطفل في دورته الأولى    وثائقي فريد من وزارة الثقافة والتواصل يبرز 6 ألوان فنية شعبية على ضفاف وادي درعة    اللي كيمشي لطريفة وعزيز عليه الطون والسربيسة والسينما: ها مهرجان وها الافلام المغربية المعروضة فيه    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    المشاهد الجنسية في أفلام هوليوود تراجعات بنسبة 40% وها علاش    باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    رأي حداثي في تيار الحداثة    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    الأمثال العامية بتطوان... (589)        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حميش يغوص في زمن "الطاعون الأعظم" .. سياسة ودين وطبقية
نشر في هسبريس يوم 18 - 05 - 2020

تجول المفكر والفيلسوف والروائي المغربي الكبير بنسالم حميش في دروب التاريخ وأقبية العصور المختلفة، مقتنصا أخبار الطاعون الأعظم من كتب المؤرخين والحكماء وأفواه الأطباء والفقهاء، ليقدم للقارئ "زبدة" ما وجده من مسببات وتداعيات الوباء، في هذا المقال:
وعدت في متم مقالتي "جائحة الطاعون الأعظم" بأن تعقبها أخرى، وهأنذا أفي بوعدي.
"إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب بالأعيان والصدور وجميع المشيحة وهلك أبواي رحمهما الله". (ابن خلدون، التعريف...، ص 55).
"وفي الأرضِ منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خافَ القلى متعزَّلُ". (الشنقري الأزدي).
*
من باب النظر الشمولي لعلل وباء الطاعون ومسبباته الأولى، يظهر أن مردها ليس إلى عفن الهواء وحده، كما يذهب البعض. فهذا تيمور لانك المغولي (الأعرج)، أحد كبار الغزاة في العصر الوسيط، يعترف في مذكراته بالعلّية السياسية لما ينسب عادة إلى الكوارث الطبيعية، فيقول: «لقد عملت على الإمساك عن الابتزاز والقهر، إذ أني لا أجهل أن هذه جرائم تُنتج المجاعات وشتى الأهوال التي تحصد أجناساً كاملة».
وعلى سبيل المثال، إن الضغط الجبائي اللامشروع، الذي يطال المزارعين خصوصا، يكون على الإجمال سببا في انخفاض أو زوال أنشطتهم، مما يتأدى عنه، بصفة أو بأخرى، ظهور المجاعات والطواعين. وعلى أي حال، فالطاعون الذي نحن بصدده، كظاهرة كلّية، تكشف أيضا، على الصعيد المغاربي، أن علله توجد أيضا في الجو السياسي القاهر المتصدع، كما يقرُّ ابن خلدون في غير ما موضع: «وأما الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات أو كثرة الفتن لاختلال الدولة.
فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء» (المقدمة، ص 376)؛ وكذلك الشأن عند ابن هيدور الذي سجل: «وهذا الوباء لازم من لوازم الغلاء كما أن الغلاء لازم من لوازم الفتنة الدائمة. وإذا كان الغلاء طال واشتدت أسبابه لزم عنه الوباء. وهذا علم صحيح وقانون مطرد لا يُحتاج فيه إلى نظر في النجوم» (المقالة الحكمِية مخطوطة، ص 40). وتجدر الإشارة إلى أن لابن هيدور مخطوطة أخرى حول ما يسميه بالوباء الثاني، هي رسالة ماهية المرض الوبائي.
من جهة أخرى، في وصف ثوسيديد للكوليرا في آثينا (Loimos إبان أوج فداحتها (430 - 429 ق.م)، تظهر خصوصيات ردود فعل المجتمع ذي الآلهة المتعددة، كالمجتمع الإغريقي، ومنها على وجه التحديد تلك التي يفرزها الشعور الحاد بلا جدوى الطب والمعابد ووسطاء الوحي في رفع الوباء او حتى التخفيف منه، فينجم عن ذلك الاستهتارُ بالألوهية والتقاليد والأعراف، والغوص في الملذات المحسوسة اللامضبوطة.
ومما كان يزيد الوضع شؤما أن أثينا آنذاك كانت تعاني من حصار البلوبونيزين بزعامة اسبرطة، كما أرخ لها ثوسيديد في تاريخ حرب البلوبونير. وطبعا، لا يبدو -على الأقل من وثائقنا- أن أيّاً من ردود الفعل تلك كانت تسري بين فئات المصابين في المجتمعات الإسلامية.
من بين الدراسات الحديثة عن الأوبئة في أوروبا القرن التاسع عشر يمكن الإشارة إلى بحث ر. باشريل في كوليرا 1836، "الكراهية الطبقية في زمن الوباء". فمن خلاصاته أن الأغنياء كانوا يحمّلون الفقراء مسؤولية الوباء، والفقراء يتهمون الأغنياء والحكومة، والأغنياء والفقراء معاً يطعنون في الأطباء.
كما أن المصابين كانوا يتظاهرون في أحياء النبلاء والبورجوازيين مطالبين بموتهم ونيلهم حظّهم من الوباء. وهذه الأجواء المشحونة بالبغضاء، كان اليهود يُنظر إليهم كمسمّمين للآبار والسواقي وبالتالي كرؤوس الجائحة... أما الباحثة لويز دي مينيزس فقد انكبت على دراسة "وثائق حول الطاعون الأسود في ضيعات تاج أراغون (سرقسطة 1956)"، فتمكنت من النظر في ظهور وسريان الوباء وفي إجراءات الدولة قبل الكارثة وخلالها وبعدها، كما في غلاء الأسعار والإخلاء السكاني للمدن، وكذلك في حالات التفكك الإداري، وكل هذه المظاهر تعكسها أو تعبر عنها المراسيم الخمسة والخمسون للأمير Pedro le cérémonieux...
ويمكن كذلك الاطلاع على حالة إسبانيا وإلى حد ما غرناطة الإسلامية في دراسة شارل فرليدن، «الطاعون الأكبر لسنة 1348»، وحيث يقيم الباحث دراسته أساسا على جرد القرارات والتدابير الإدارية الساعية إلى تطويق الوباء... أما عن مملكة غرناطة، فإنه لا يشفي الغليل إذ لا يتعدى الاعتماد على ابن الخطيب وخصوصا ابن خاتمة.
أما جنوب البحر المتوسطي، فلا يبدو أن مثل تلك المقاربات الوثائقية شملت بلاد الإسلام حيث كان الخاصة من المؤرخين والأطباء يرصدون مأتى الأوبئة وزمانها، كما هي الحال في جلّ الكتابات التي أشرنا أهمها في المقالتين. في حين كان عامة الفقهاء يشيعون بين الناس فكرة أن الأوبئة وغيرها من الكوارث امتحانٌ لا مناص منه وقدرٌ من الله لا ينفع الفرار منه، إلخ.
ولعلّ كل هذه العوامل مشتركة هي التي تفسّر شروط إمكان اللوحة الرائعة المؤثرة في رحلة ابن بطوطة عن الطاعون الذي نحن بصدده إذ قال: «ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في الجامع الدمشقي حتى غصّ بهم، وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصلّ وذاكر وداع، ثم صلّوا الصبح وخرجوا جميعاً على أقدامهم وبأيديهم المصاحف والأمراء حفاة، وخرج أهل البلاد ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، وخرج اليهود بتوارتهم والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء والولدان، وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه...».
ختاما، يلزم أن نسجل أن أسئلة عدة حول موضوعنا، بعد كل إضاءة إضافية، تبقى قائمة وتتطلب المزيد من البحث فيها. وكلها تدور حول آثار الوباء على الذهنيات والمواقف والحساسيات، وعلى الأوقاف والعلاقات الطبقية والسياسية، أو تدور حول مردودية الحياة الأخلاقية والدينية في زمن الوباء...
ويبقى أن نتساءل كذلك مع المستشرق روبير برانشفيك، كما الشأن بخصوص بلدان أخرى، «إن لم يكن لتطور الأمراض المعدية تأثير على حيوية السكان ومستواهم الثقافي، ولم يكن أحدَ العوامل في تصدع الإسلام المتوسطي».
هذا ويمكننا الآن الإجابة عن هذا السؤال بأن افتراضه الثاني ليس أقلّ احتمالا من افتراضه الأول، شريطة أن نتذكر دوماً أسبقية الأزمة، التي هي سياسية واقتصادية، على الوباء نفسه. وبالنسبة للحضارة الغربية يحدد جاك لوغوف العلاقة بين طاعون 1349م وأزمة أوروبا الغربية للقرن الرابع عشر فيقول: «إنه من الواضح أن الأزمة سابقة على الوباء الذي لم يفعل سوى أن ضخمها وأن أسبابها يجب البحث عنها في عمق بنيات المسيحية، الاقتصادية منها والاجتماعية» حضارة الغرب الوسيط، ص 142؛ وانظر أيضا "الطاعون الأسود في الشرق الأوسط" (بالفرنسية).
قريبا من نزعة لسان الدين ابن الخطيب العقلانية المذكورة في مقالي الأول نقرأ للشقوري أفكارا كهذه: «وعلى أهل الدين والعقل ممن أسند إليه أمر من أمور المسلمين أن يمنع أهل الجهل والإنتحال من مضرة المسلمين بإعطاء الأدوية دون مشورة الأطباء واستعمال وما شابه.
وأما التنبيه فقد نص جماعة من الحكماء المهرة حسبما أحكمته التجربة وشهد له القياس على أنه إذا سقطت شهوة الغذاء في مرض الوباء جُبر المريض على الأكل، فإن أكثر من يتشجع ويأكل قسرا يفيق من مرضه»، (النصيحة، ص32). ويسجل أيضا في المخطوط نفسه: «الطب نعمة من عند الله ورحمة أجراها لعباده على أيدي من شاء من عباده، كما أجرى المسببات على أسبابها وخلقها عندها» (ص27).
هناك قلة من مؤرخينا المعاصرين تطرقوا إلى موضوع الطاعون الهائل، ولكن عموما على نحو ضيق أو متعجل لا يتلاءم مع حجمه التاريخي ولا مع أبعاده الدلالية الثرية، فعبد الله العروي مثلا في تاريخ المغرب تراه يعلل الانهيار الديمغرافي للقرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد بآثار حملات المرينيين على الأندلس، ويكاد لا يشير إلى آثار المجاعات والأوبئة التي كان أفدحها ذلك الطاعون؛ أما محمد القبلي الذي وضع عن فترة المرينيين والوطاسيين أهم مؤلف إلى هذا اليوم (رغم أن ثلثيه مخصصان للتاريخ السياسي الحدثي)، فإنه اكتفى للأسف في موضوعنا بدراسة لجان سوبلي حول مخطوط لابن حجر العسقلاني "بذل الماعون في فوائد الطاعون" عززها بما كتبه واصفا م. و. دولس Dolis عن موضوع الطاعون المذكور.
وبالتالي فإنه لم يحفل إلا بالموقف الفقهي من الوباء دون الموقفين الطبي والتوفيقي؛ كما بيناهما؛ أما محمد البزاز الذي له الفضل في تخصيص أطروحة كاملة للمجاعات والأوبئة في مغرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (الرباط، 1992) فقد اشتكى بخصوص الطاعون الذي يهمنا من قلة المعلومات، والراجح أنه لم يطلع على ما توافر منها في مطبوعات علاوة على مخطوطات ذكرنا أهمها، وكانت توجد في ملكية المؤرخ محمد المنوني رحمة الله عليه ورضوانه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.