نمو حركة النقل الجوي بمطار طنجة الدولي خلال بداية سنة 2024    رئاسة مؤتمر حزب الاستقلال تقترب من قيوح .. واللجنة التنفيذية تشعل المنافسة    أخنوش تلاقى وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي وبحثوا التعاون الثنائي والإرتقاء بالشراكة الإستراتيجية بين الرباط وباريس    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    الاتحاد الجزائري يرفض اللعب في المغرب في حالة ارتداء نهضة بركان لقميصه الأصلي    بطولة مدريد لكرة المضرب.. الاسباني نادال يبلغ الدور الثاني بفوزه على الأمريكي بلانش    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    زنا المحارم... "طفلة" حامل بعد اغتصاب من طرف أبيها وخالها ضواحي الفنيدق    بايتاس ينفي الزيادة في أسعار قنينات الغاز حالياً    الأمثال العامية بتطوان... (582)        بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الخميس على وقع الأخضر    الوزير جازولي يدعو المستثمرين الألمان إلى اغتنام الفرص التي يتيحها المغرب    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    "اتصالات المغرب".. عدد الزبناء ديالها فات 77 مليون بزيادة وصلات ل2,7 فالمية    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدعوة إلى الله أساس الإصلاح
نشر في هسبريس يوم 21 - 02 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. فاتحة هذه الكلمة التعريف بالدعوة إلى الله، فبيان لمنزلتها، ثم تسطير جملة من آثارها المباركة... سائلا الله تعالى التوفيق والسداد وهو المستعان لا إله غيره ولا رب سواه.
ما المراد بالدعوة إلى الله؟
الدعوة إلى الله هي العمل على استمالة الناس إلى دين الله تعالى وتقريبهم إلى ربهم سبحانه بلسان الحال أو المقال1. ولعل ورودها في القرآن والسنة مضمومة إلى الله تعالى فيه التنبيه البليغ على أن أهم ضابط لها ومحدد لماهيتها أن تكون لوجه الله تعالى خالصة، وأن يكون الغرض منها ربط البرية ببارئها سبحانه.... فهي دعوة إلى الله وكفى....
وقد ورد التعبير عنها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بمختلِف الاصطلاحات. فبالإضافة إلى التعبير عنها بمصطلح الدعوة2، فقد وردت باصطلاحات أخرى من نفس الأسرة المفهومية للدعوة إلى الله من مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والجهاد، والنصيحة... وكل ذلك للدلالة على ما للدعوة إلى الله من المكانة المحمودة والمنزلة الرفيعة. قال الدكتور يوسف القرضاوي: "فالأمر الذي يُعنى به القرآن الكريم – بحيث يكرره ويؤكده في أكثر من سورة وأكثر من مناسبة، وبأكثر من أسلوب – يدل بوضوح على أن له أهمية ومنزلة وأثرا في الدين والحياة، توجب الالتفات إليه والتنبيه عليه، وإعطاءه حقه من التأمل والعناية الفكرية والعاطفية والعملية، على قدر حجمه في القرآن..."3 كما أن في ذلك بيان اتساع دائرة الدعوة من حيث مواضيعها وأشكالها... فهي ترغيب وترهيب... وهي بيان للخير وأمر به، كما هي بيان للشر وتنفير منه... وهي نصيحة غالية وتوعية قاصدة وتعليم حكيم كما هي فعل للخير وتفريج كربة الغير... وهي تكوين للدعاة وتثبيت لهم على الحق وتذكير لهم بالصبر....
جماع القول في بيان المراد أنه: ما من كلمة أو فعل أو إشارة... بغرض استمالة القلوب إلى الله وردم الهوة بين الخلق وخالقهم، ابتغاء وجهه سبحانه... فهي دعوة إلى الله.
منزلتها:
ليس هنالك من كلام مرشح لبيان منزلة الدعوة وشرفها أجود ولا أبلغ من كلام الله تعالى. ولنجعل منطلقنا في ذلك قوله تعالى في الآية 108 من سورة يوسف: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ."
الدعوة وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أبرز ما تجليه الآية الكريمة من سورة يوسف أن الدعوة إلى الله هي وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام الرئيسة وكفى بذلك شرفا. والناظر في سيرته عليه الصلاة والسلام يدرك بجلاء أن حياته النبوية هي حياة دعوة إلى الله بامتياز. فبعد أن أُخبر بالرسالة وأُمر أن يقرأ ما أنزل عليه، كان أمر الله له بالدعوة والتبليغ. فقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنذِرْ?4 وقال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)5. كما سماه الله تعالى "داعيا إلى الله" لثبات صفة الدعوة فيه وسموها، فقال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا?6، وقال تعالى: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)7. فقام عليه السلام فبلغ، وبشر وأنذر، ودعا قومه إلى الخير الذي أنزله الله عليه. ولما كمل الدين وتمكن، كان ذلك إيذانا بانتهاء وظيفته عليه السلام فنزل قوله تعالى: ?إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا?8.
الدعوة إلى الله وظيفة كل متبع لرسول الله:
والدعوة إلى الله ليست وظيفته عليه السلام وحده، وليست وظيفته ووظيفة العلماء من أمته فحسب، وليست مسؤوليته ومسؤولية الحكام من ملته لا غير... وإنما هي وظيفته ووظيفة كل مُتَّبِع له عليه الصلاة والسلام ?أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي?. فكأن الآية الكريمة تفيد أن لا اتباع لرسول الله عليه السلام يُعتبر ما لم يتحقق فعل الدعوة إلى الله. فالقيام بتبليغ رسالة الله من صفات المسلم اللازمة له، إذا أردت أن تقيس مدى اتباعك لرسولك الكريم عليه الصلاة والسلام ومدى سيرك على سبيله، فما عليك إلا أن تنظر في واقع قيامك بالدعوة إلى الله وخدمة دينه.
الدعوة إلى الله مقدمة على غيرها من الأعمال:
إن السياق القرآني الذي ورد فيه النص على أن الدعوة إلى الله هي وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، باعتبار أنها المعلمة الأولى المحددة لسبيل المصطفى صلى الله عليه وسلم، كاف للدلالة على منزلتها السامية.
إلا أن هناك قضية في الآية من سورة يوسف تستحق أن يقف عندها الناظر مَلِيا لِما تتضمنه من الفوائد البليغة. فلنا أن نتساءل لماذا بدأ بها الحق سبحانه وتعالى في الذكر وقدمها على التوحيد وغيره؟
قبل الإجابة أحب أن أقرر مسألتين:
الأولى: إن القرآن الكريم (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(9 "أي نظمت نظما محكما لا يلحقها تناقض ولا خلل"10. فما ذكر في كتاب الله مرة ليس كالذي ذكر مرارا، وما قدم فلا يناسبه في ذلك السياق إلا التقديم، وما أخر فلا أنسب له إلا ذلك، وهكذا...
الثانية: إن تقديم الدعوة إلى الله لم يتم في الآية من سورة يوسف فحسب، بل ورد في غيرها. من ذلك: قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ.)11 وقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ، وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)12، وقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)13.
ولعل السر في ذلك يكمن في أمرين:
الأول: لبيان منزلة الدعوة إلى الله عز وجل وأثرها الكبير على الفرد والمجتمع. ولهذا استحقت أن تحتل صدارة الكلام.
الثاني: الواقع أن الخير كله والصلاح جميعه والسعادة حق السعادة... كل أولئك رهين بالدعوة إلى الله. فبالدعوة إلى الله تتحقق العبادات كلها والفضائل جميعها، وبها يُحافظ على الخير كله، كما أن التهاون بشأنها يُهدد كلَّ ما ذكر.
الدعوة إلى الله أخص مهام المؤمن وأبرز مهام الأمة الشاهدة:
سبق التنبيه على أن الدعوة إلى الله تعالى وظيفة الرسول الأساسية ومهمة المتبعين له اللازمة لهم. ويزداد أمرها ثقلا حين يعلم الإنسان أنها من صفات المؤمن الظاهرة على غيرها. قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)14. وقال تعالى مبينا أن الدعوة إلى الخير والنهي عما لا يرضاه الله لعباده، من خصائص الأمة الشاهدة الوسط. قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ.)15. وقال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)16
زبدة القول بهذا الخصوص أن القيام بالدعوة إلى الله من أهم ما يبرهن على صحة نسبة الفرد إلى الإيمان وسلامة سيره على درب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. كما أنها علامة الأمة الوسط التي قامت بأمر الله لإقامة أمر الله.
أثر الدعوة إلى الله:
ما أبعد آثارها:
الأعمال الصالحة من حيث أثرها نوعان كبيران: نوع لازم، وهو ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم {المنقطع} لا يتعدى أثره مكان الإنسان ولا زمانه. فهو إلى حدّ ما محدود من حيث زمانه ومكانه ومن حيث القائم به. وذلك من مثل الصلوات الخمس وذكر الله عز وجل... ونوع متعدي، أجره لا يقف عند شخص الفاعل ولا زمانه بل يتعداهما إلى غير شخصه وإلى غير زمانه. إنها أعمال تجعل من عمر الإنسان عمرا مديدا لا يعلم منتهاه سوى الواحد الأحد سبحانه، وتجعل أثره ممتدا امتداد نفعها وبركتها.
وعلى رأس هذه الأعمال الدعوة إلى الله. فهي أفضل الأعمال وأعظمها أجرا عند الله. فإنه لا قولَ يفضل كلمة الدعوة، إذ لا ثمرة أجود من ثمرتها. قال تعالى: ?وَمَن اَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ?17. فأثر الدعوة يتعدى الفرد إلى غيره، فهي نقل للسعادة إلى الإنس جميعهم، بل إلى الكون بكل مخلوقاته. وخيرها لا ينقطع بموت الداعية بل يستمر إلى ما يشاء الله... فالدعوة امتداد في الإنسان وإسعاد للخلق إنسه وحيوانه وجماده، كما أنها امتداد في الزمان. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ دَعا إلى هُدىً كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيئاً). فانظر أخي الحبيب كيف يضاعف الله أجر الداعي إلى ما يحبه سبحانه ويرضاه من الخير. إذا علمت هذا لك أن تدرك لماذا رفع الله تعالى من شأن رسوله عليه الصلاة والسلام، ولماذا خُص الصحابة الكرام بمنزلة لا تدانيها منزلة، من مثل ما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبّوا أَصْحَابِي. لاَ تَسُبّوا أَصْحَابِي. فَوَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا أَدْرَكَ مُدّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ." وذلك لأن كل خير عرفته البشرية فمرجعه إلى رسول الله وإلى أصحابه معه... فتأمل.
الدعوة نجاة للفرد والمجتمع:
هذه من أهم بركات الدعوة وثمرات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذ المؤمن بانخراطه في دلالة الخلق على خالقهم سبحانه غرضه أن يعذر إلى الله تعالى بقيامه بمسؤولية الرسالة وأداء ما أوجبه الله عليه من النصيحة ونشر الخير. وفي الآن نفسه حريص على أن يستجيب الناس له وينتفعوا بدعوته فتثمر أعماله استقامة عميقة وإصلاحا عاما وإقبالا على سبيل الله المفضي إلى رضوانه. قال تعالى: "وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ."18
في حين يعد التخلف عن الدعوة وتعطيل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتحا لأبواب الشر على مصراعيها مما ينقل حال الأفراد والمجتمعات إلى واقع الأمم الملعونة المطرودة من رحمة الله المؤهلة لاحتضان كل ألوان الفساد وصور الانحراف. تأمل قوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى بنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِيسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ?19
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) يا للهول. إنها اللعنة... إنها الطرد من رحمة الرحمن الرحيم... إنها فتح أبواب الشر كلها في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد... إنها نصيب إبليس بعد أن أبى واستكبر... فكانت النتيجة: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ لدِّينِ.)20. وفي سورة (ص) (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيَ إِلَى يَوْمِ الدين)21.
نعم إن جريرة إبليس كانت معلومة، فلماذا لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل؟ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ). إنه العصيان والعدوان.. عصيان رب العزة سبحانه والاعتداء على الحق بالتكذيب والتحريف، والاعتداء على الرسل وأتباعهم بالتقتيل والتعذيب... كل هذا كبير وخطير... لكن الآية الكريمة، من باب عطف الخاص على العام لبيان خطره، ما ذكرت ذلك وإنما ذكرت معضلة أخرى هي مفتاح الكبائر والصغائر... (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِيسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). كانت الدعوة إلى الله معطلة في صفوفهم، كانت النصيحة مستنكرة في أعرافهم، كانوا متواطئين على فعل المنكر... أخرج الإمام أبو داود في سننه عن عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قال قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أوّلَ مَا دَخَلَ النّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ الرّجُلُ يَلْقَى الرّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتّقِ الله وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فإنّهُ لا يَحِلّ لَكَ ثُمُّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ الله قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمّ قالَ: (لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بنِ مَرْيَمَ - إلَى قَوْلِهِ – فَاسِقُون)، ثُمّ قالَ: كَلاّ والله لَتَأْمُرُنّ بالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنّ عن المُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنّ عَلَى يَدَيِ الظّالِمِ، وَلَتَأْطِرُنّهُ عَلَى الْحَقّ أطْراً، وَلَتَقْصُرُنّهُ عَلَى الْحَقّ قَصْراً».
الدعوة تعميم للخير والرحمة:
المتأمل في دلالات الدعوة إلى الله تعالى غايات وأهدافا يقف بجلاء على طبيعة ما جاء به الأنبياء والمرسلون. فالرحمة التي بعثوا بها وكلفوا بتبليغها والدعوة إليها، لا تقبل إلا أن تنبعث من قلب الإنسان المشبع باليقين، المحلى بحب الله ورسوله وحب محابِّهِما... فلذالم يكن من سبيل البتة لتحقيق هذا الانبعاث الأصيل وهذا التحول القلبي العميق إلا الدعوة إلى الله تعالى المؤسسة على البينات مضمونا، وفي هذا قال تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات..."22، وعلى الدلالة بلطف وبصيرة أسلوبا، وهو المسمى بالهداية23 في نصوص القرآن والسنة.
لقد اتضح أكثر من أي وقت مضى أن ما يصطلح عليه بالتخصصات رغم أهميتها وضرورتها في عملنا المعاصر، لا ترقى وحدها إلى تحقيق الإصلاح المنشود وتجاوز الانحراف والفساد الموجود.... والسبب الرئيس الكامن خلف ذلك هو طبيعة كل تخصص من هذه التخصصات والحدود التي رسمتها الحياة المعاصرة لكل منها....
وعليه كانت الدعوة إلى الله كما يرضى الله، أساس الإصلاح المنشود، الإصلاح المؤسس على صلاح القلوب، المنبعث من أعماق النفس البشرية، لا التحول المستند على تغيير الأشكال والمظاهر والقوانين والإجراءات فحسب. وذلكم الأثر الجوهري للدعوة هو البيئة المناسبة للتأسيس للخير واحتضانه وتنميته ودفع كل ما يهدده... مما يخدم بحق الانتقال الراشد اللطيف بأمتنا من الأمة الإسلامية إلى الأمة المسلمة... وأبرك به من تحول وأنعم به من ارتقاء... من أمة إسلامية تنتسب إلى الإسلام، إلى أمة تعيش الإسلام وتدين بالإسلام وتستقيم على الإسلام... وذلكم، ورب الكعبة، طموح الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. قال تعالى: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"24. هذه الآية الكريمة لتمثل بحق دستورا منهجيا يحدد الهدف بوضوح وعناية كالشمس في ضحاها، كما يبين النهج بجلاء كالقمر إذا تلاها... فالغاية هي الفرد المسلم لله المنقاد لأمر الله تعالى ثم الأمة المسلمة الرحمة للعالمين... والسبيل هي الجهود الدعوية الراشدة التي تتخذ من بناء المؤسسات وتشييد البيوت الدعوية استراتيجيتها في الدعوة إلى الله والتمكين للخير.
الدعوة وموقعها من الوظائف الثلاث:
معلوم أن كتاب الله تعالى حدد عمل النبي عليه الصلاة والسلام في ثلاث وظائف كلية. والغالب أن تأتي في السياق القرآني مرتبة كما ورد في قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"25.
في هذه الثلاث يجتمع الإصلاح المراد قال تعالى: "إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ." 26. وواضح أن التزكية لا تكون إلا للذي استجاب لداعي الله سبحانه وحصل عنده الاستعداد المبدئي للتلقي عن رسل الله تعالى وورثتهم... كما أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكون إلا للذي أوتي الإيمان وعظمت حرمة الأمر والنهي في قلبه... فهو المرشح للتكوين في مختلف المجالات ليكتسب القوة المؤهلة له للرقي بنفسه وأمته إلى منازل العبودية لله تعالى....
لكن الدعوة إلى الله تعالى بتلاوة آيات الله الدالة عليه لا تكون إلا منفتحة على الكل، موجهة للبعيد قبل القريب، تستهدف الجاحد الشارد مع المقبل الراغب... وهي بهذا أم الوظائف كلها وأولى خطوات السير إلى الله تعالى.... فبصلاحها قد يصلح ما بعدها، كما أن الخلل فيها سيعود حتما بالضعف على ما عداها. فمن ثَمَّ كانت الحاجة ماسة إلى العناية الفائقة بالعاملين في ميادينها تكوينا وتفريغا... كما أن الحاجة ملحة إلى الاهتمام بمؤسساتها ومنابرها وإبعادها عن كل ما يمس ربانيتها والنأي بها عن كل ما يشوش على صفاء مقصدها وعمق رسالتها. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
والحمد لله رب العالمين
******
1 .قال ابن فارس: "دعو الدال والعين والحرف المعتل أصلٌ واحد، وهو أن تميل الشَّيءَ إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك" (مقاييس اللغة مادة دعو)
2 - فقد وردت - بصيغة الفعل أو الاسم- مضمومة إلى الله إحدى عشرة مرة. وذلك في مثل قوله تعالى: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَن اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ.?يوسف 108 ، وقوله:?يَا أَيُّهَا النَّبِيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا الَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا?الأحزاب 45. 46. وورد فعل الدعوة مضموما إلى ما يُقَرّب إلى الله أو ما ينتج عن ذلك حوالي ثماني عشرة مرة. وذلك في مثل قوله تعالى: ?أُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? النحل 125، وقوله تعالى: ?وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم?المومنون 74.
3 - كيف نتعامل مع القرآن ص451
4 . المدثر 1. 2
5 - الغاشية 21
6 . الأحزاب 45. 46.
7 - القصص 87
8 . النصر
9 - هود 1.
10 - القرطبي
11 - فصلت 33
12 - آل عمران 110
13 - التوبة 81
14 - التوبة 81
15 - آل عمران 110
16 - الحج 41
17 . فصلت 32
18 . الأعراف 164. 165
19 - المائدة 80. 81
20 - الحجر 34, 35
21 - ص 76
22 - سورة الحديد 25
23 - فالهداية في اللغة الدلالة بلطف
24 - البقرة 127. 128
25 - الجمعة 2
26 - هود 88


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.