استمع المغاربة لخطاب العرش قبل أيام، ومما جاء في مضامينه نجد فقرة تحدثت عن الانتخابات التشريعية المقبلة، حيث وجه الملك تعليماته إلى وزير الداخلية بإطلاق مشروع الاستعداد الجيد والفعلي لهذه الاستحقاقات، وقد خلّفت هذه الفقرة من الخطاب نقاشا وتضارب آراءٍ حول موقع رئيس الحكومة من هذا الأمر، بما اعتُبِر سحب لصلاحية الإشراف السياسي على الانتخابات منه ومنحها لوزير الداخلية، وهو ما يعني ضمنيا أن السيد رئيس الحكومة أضر بمؤسسة رئاسة الحكومة وساهم في تحجيم مكانتها نتيجة ممارسات غير سليمة. لقد أنصت المغاربة للخطاب الملكي وتابعوا النقاشات المتولدة عنه، وهم يشاهدون عن كَتَب طيلة هذه الولاية الانتدابة سواءً في الحكومة أو في الجماعات الترابية عددا مهولا من فضائح الفساد السياسي تحتاح المشهد أفقيا وعموديا، العشرات من هذه الفضائح زُجَّ بالضالعين فيها من المسؤولين الحزبيين في السجون، وهذه الفضائح لم تتوقف حتى الآن ونحن تقريبا على بعد سنة ونَيِّف من الانتخابات، بل لا زالت تتناسل إلى يوم الناس هذا على نحوٍ تصاعدي، وكأن هؤلاء النخب التي جيء بها لتدبير الشأن العام تتهافت على تحصيل المكاسب الشخصية قبل انتهاء الولاية كأنهم عدائين بلغوا اللفّة الأخيرة في سباق، ما جعل الأحزاب التي تنتمي إليها هذه النخب تظهر وكأنها تتنافس على من يحوز جائزة الحزب الأكثر فضائحية. إن بلادنا قامت بدسترة الاختيار الديمقراطي كتابث من التوابث الوطنية، وهذا رهان داخلي كسْبُه يعني زرع الثقة بين المغاربة وتقوية لحمة الوطن ورص الصف الداخلي في وجه التحديات المختلفة، خاصة بعد الخدش العميق الذي أصاب الثقة نتيجة ملابسات انتخابات 2021 وما عرفته من تجاوزات كثيرة شابت العملية الانتخابية وألقت بظلالها على التجربة الديمقراطية عموما، وما نتج عنها من تداعيات وممارسات تدبيرية لا مسؤولة. وعطفا على كل هذا، ينتصب أمامنا تحدي مصداقية وجدية الخطاب الرسمي حول دولة المؤسسات واحترام الدستور والديمقراطية بما يؤهل بلادنا لتصير فعلا في مصاف الدول الصاعدة، ارتباطا بمؤشرات التنمية البشرية وخدمة المواطنين وجودة الحياة، وليس فقط دولة شعارات للاستهلاك الداخلي، بما جعلنا عالقين في وحل سلطوية مزمنة ووهم مسار انتقال ديمقراطي لا نهاية له، وهو ما يجعل صورة بلادنا على المحك أمام العالم في استمرار غياب ربط حقيقي بين المسؤولية والمحاسبة، ونحن على أبواب استحقاقات دولية، تضعنا في بؤرة منظار العالم، كتنظيم كأس أفريقيا 2026 وبعده مونديال 2030، فمن حق أي مغربي واعي بهذه التحديات أن يخشى من وصول وجوه إلى المسؤولية يُذَكِّروننا بفضائح الضلوع في الاتجار بالمخدرات وفضائح التلاعب بتذاكر المباريات لمسؤولين ترابيين وحزبيين ورؤساء أندية كروية، فكيف سيكون وضعنا إذا تكررت مثل هذه الوقائع الفضائحية أثناء أو إبّان هذه التظاهرات؟. ناهيك عن كوارث التدبير الترابي وتضييع الزمن التنموي نتيجة تفكك المجالس المنتخبة وضعفها، وهي أمور لا محالة ستتضرر بسببها مشاريع التهيئة المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر في المدن المحتضنة لهذه التظاهرات الدولية. بلادنا كذلك مقبلة على استحقاقات أهم ترتبط بقضية وحدتها الترابية، وهي في مرحلة جد مهمة وحساسة، وتعيش منعطفا مصيريا ومؤثرا في تاريخ القضية، خاصة في ظل تهاوي سردية الطرح الانفصالي مقابل تنامي الاقتناع بواقعية ومعقولية الحل المغربي، في أفق الحسم النهائي لهذا المشكل المفتعل الذي عمَّر أكثر من اللازم. والذي نحتاج في تجاوزه لنخب سياسية حقيقية وطنية وجادة ونزيهة، لديها الكفاءة والأهلية والمصداقية تساهم في تقديم مقترحات متينة ورؤى متقدمة في موضوع الحكم الذاتي وآليات تفعيله شكلا ومضمونا، والأهم من ذلك نخب تعطي الثقة للساكنة في مناطقنا الجنوبية بتحمل المسؤولية التدبيرية الجهوية والمحلية ترابيا في تنزيل مقتضيات الجهوية والحكم الذاتي مستقبلا على الوجه المطلوب، بما يُقنع الناس وينفعهم ويحقق مصالحهم ويضمن كرامتهم ويُشعِرهم بالانتماء للوطن، ويجعل أفئدتهم تهوي إلى المقترح وتتبناه، وليس نخبا مهترئة تعتمد أساليب فضائحية في الحشد للأنشطة الحزبية وفي التعبئة الانتخابية وفي تفويت الصفقات، كما حدث في واقعة مدينة الداخلة مؤخرا. إن قوة بلادنا كذلك في استقلالية قرارها السيادي، وفي التحام قيادتها بالمجتمع وبقواه الحية وبشبابه، أكثر من أي ارتهان آخر بالخارج كيفما كان هذا الخارج، وفي هذا الصدد لقد أبدى المجتمع بشكل واضح وقدّم الدليل القاطع تلوى الآخر، وذلك طيلة قرابة سنتين، موقفه من قضية فلسطين العادلة وحول ما يحدث على الأرض المحتلة من فضائع لا مسبوقة في تاريخ البشرية، وتفهَّم المجتمع بالمقابل إكراهات الدولة خارجيا بما يكفي في نُعِتَ باسئناف العلاقات مع الكيان، بكل صبر وأناة وحس وطني، وقابلت الدولة كذلك انتفاضه السلمي وحراكه الحضاري ومسيراته التضامنية مع الفلسطينيين بقدر معتبر من الحكمة والتفهّم. وقد حان الوقت لتُستمد القوة والشرعية التفاوضيتين في قضيتنا الوطنية وفي غيرها من قضايا من إرادة المجتمع، ومن مصداقية المؤسسات الوطنية، ومن صلابة الصف الداخلي، في ظروف تتآكل فيها يوما بعد يوم صورة الكيان ومصداقيته وحجم تأثيره دوليا، لذلك على المغرب أن يتملك قراره، وقراره هو من قرار شعبه، وبالتالي فالاستحقاقات الانتخابية المقبلة عليها أن تتحرر من كل هاجس خارجي، وأن ترتبط بإرادة الناخبين وحدها لا شريك لها، بما يقوي الثقة بين المواطنين في بلادهم ومؤسساتهم ويعزز سيادتها.