إعادة إنتخاب ادريس شحتان رئيسا للجمعية الوطنية للإعلام والناشرين لولاية ثانية    خارجية روسيا تتباحث مع دي ميستورا    "الأحرار" يحيي نصف قرن من المسيرة    احتجاجات بالصويرة رفضا للمشاركة الإسرائيلية في منتدى نسائي    احتجاجات أكادير تحرك المياه الراكدة بقطاع الصحة.. غضب شعبي وزيارات للوزير تكشف الأعطاب المزمنة    حاجيات تمويل الخزينة تقفز إلى 75.6 مليار درهم    "حركة ضمير": أخنوش استغل التلفزيون لتغليط المغاربة في مختلف القضايا    إقصاء العداءة المغربية آسية الرزيقي في دور النصف من مسابقة 800 متر ببطولة العالم لألعاب القوى    تأجيل محاكمة الغلوسي إلى 31 أكتوبر تزامنا مع وقفة تضامنية تستنكر التضييق على محاربي الفساد    برادة: تعميم تدريس الإنجليزية في الإعدادي والأمازيغية في أكثر من نصف الابتدائيات    مشروع قانون يسمح بطلب الدعم المالي العمومي لإنقاذ الأبناك من الإفلاس        الأندية المغربية في دوري أبطال إفريقيا وكأس الكونفدرالية: تحديات وطموحات التتويج بالألقاب القارية    منتخب الفوتسال يشارك في دوري دولي بالأرجنتين ضمن أجندة «فيفا»    إنفانتينو يدشّن أول اجتماعاته بمقر "الفيفا" الجديد في الرباط    أخبار الساحة    ترسيخا لمكانتها كقطب اقتصادي ومالي رائد على المستوى القاري والدولي .. جلالة الملك يدشن مشاريع كبرى لتطوير المركب المينائي للدار البيضاء        الصين تشيد بالرؤية السديدة للملك محمد السادس الهادفة إلى نهضة أفريقيا    بعد طنجة.. حملة أمنية واسعة تستهدف مقاهي الشيشة بالحسيمة    حجز أزيد من 100 ألف قرص مهلوس بميناء سبتة المحتلة    مساء اليوم فى برنامج "مدارات" : صورة حاضرة فاس في الذاكرة الشعرية    ثقة المغاربة في المؤسسات تنهار: 87% غير راضين عن الحكومة و89% عن البرلمان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    ثماني تنظيمات نسائية حزبية تتحد لإصلاح النظام الانتخابي وتعزيز مشاركة النساء    المغرب والصين يطلقان شراكة استراتيجية لإنشاء أكبر مجمع صناعي للألمنيوم الأخضر في إفريقيا    شركة عالمية أخرى تعتزم إلغاء 680 منصب شغل بجنوب إفريقيا    ظهور جزيرة جديدة بفعل ذوبان نهر جليدي في ألاسكا    غرفة جرائم الأموال بفاس تفصل في ملف "البرنامج الاستعجالي" الذي كلّف الدولة 44 مليار درهم    شكاية أمام القضاء للتحقيق في عبور عتاد عسكري إلى إسرائيل عبر موانئ مغربية    تقنية جديدة تحول خلايا الدم إلى علاج للسكتات الدماغية        السجن المؤبد لزوج قتل زوجته بالزيت المغلي بطنجة        إشهار الفيتو الأمريكي للمرة السادسة خلال عامين ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة يزيد عزلة واشنطن وإسرائيل دوليًا    "لا موسيقى للإبادة".. 400 فنان عالمي يقاطعون إسرائيل ثقافيا    زلزال بقوة 7.8 درجات يضرب شبه جزيرة كامتشاتكا شرقي روسيا    أسعار النفط دون تغير يذكر وسط مخاوف بشأن الطلب    الدّوخة في قمة الدّوحة !    سطاد المغربي يعين الصحافي الرياضي جلول التويجر ناطقا رسميا    الجزائر تهتز بهروب "ناصر الجن" وحلقة جديدة في صراع الأجنحة داخل الجيش و المخابرات.    الحضري يتوقع نهائي المغرب ومصر    المغرب في المهرجانات العالمية    شيرين وحسام حبيب يقضيان عطلة في "ماربيا"    الفنان مولود موملال: جمالية الغناء الأمازيغي وفاعليته التوعوية    إسرائيل تجمد تمويل مكافآتها السينمائية الرئيسية بسبب فيلم «مؤيد للفلسطينيين»    فيلم «مورا يشكاد» لخالد الزايري يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان وزان    تسجيل 480 حالة إصابة محلية بحمى "شيكونغونيا" في فرنسا    الكشف عن لوحة جديدة لبيكاسو في باريس    350 شخصية من عالم الدبلوماسية والفكر والثقافة والإعلام يشاركون في موسم أصيلة الثقافي الدولي    الذكاء الاصطناعي وتحديات الخطاب الديني عنوان ندوة علمية لإحدى مدارس التعليم العتيق بدكالة    ألمانيا تقلق من فيروس "شيكونغونيا" في إيطاليا    خبير: قيادة المقاتلات تمثل أخطر مهنة في العالم    مدرسة الزنانبة للقرآن والتعليم العتيق بإقليم الجديدة تحتفي بالمولد النبوي بندوة علمية حول الذكاء الاصطناعي والخطاب الديني    "المجلس العلمي" يثمن التوجيه الملكي    رسالة ملكية تدعو للتذكير بالسيرة النبوية عبر برامج علمية وتوعوية    الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



*المجتمع المدني بين السياسي والأخلاقي
نشر في هسبريس يوم 25 - 02 - 2013

كل الدراسات التي اعتمدتها التيارات الليبرالية، محاولة تفسير الأزمة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، اعتمادا على النموذج الاقتصادي، باءت بالفشل. فقد ظهر لكل متتبع لطبيعة هذه الأزمة، بعيدا عن كل تفسير ذو صبغة إيديولوجية، أن السبب الحقيقي لهذه الأزمة، هو فشل دولة العناية** ( الدولة التي تلعب الدور الأساسي في حماية و توفير الرفاه الاقتصادي و الاجتماعي لمواطنيها). و الدافع إلى ذلك هي "المواقف الثقافية الجديدة تجاه هذه الدولة (سعي متواصل من أجل الإستقلالية لدى الأفراد، عدم الإرتياح للمضايقات التي تفرضها البيروقراطية ...)"(1)
وهذا ما تسبب في نفور عديد من الأفراد من السياسة، التي لم تعد تمثل الطموحات التي يسعى إليها كل فرد في المجتمع. و هذا بدوره تسبب في انهيار الشرعية في المؤسسات و السلطات السياسية. لهذا يعتبر المحللون السياسيون بأن: " الدولة المعاصرة، التي يمكن أن تقوم على أسس ديموقراطية، هي تلك التي تستمد شرعية سلطتها من مساندة مواطنيها" (2)
ويضيف آخرون بأن الضغوطات الإجتماعية قد تضاعفت بشكل فرض على الدول مراجعة نفسها و إعادة تشكيل هياكلها عبر " تسطيح أشكالها الهرمية و إنشاء هياكل و وحدات أفقية و مستقلة" و "استخدام هياكل صغرى تحقق مرونة أكثر و تملك القدرة على التكيف مع الإحتياجات الصغيرة، خلافا لما تعرف الهياكل القديمة و التقليدية" (3)
إلا أن المطالب الإجتماعية لم تتوقف على هذا الحد، بل صارت تطالب بمشاركة المجتمع المدني في القرار السياسي. مما خلق ضغوط إضافية على الدول تحد من تأثيرها في تقرير مصير المجتمع. هذه الثقافة الديمقراطية الجديدة التي أصبحت تشق طريقها، فرضت تحولا على السلطات السياسية داخل المجتمع. و كأن الأفراد يريدون من السياسة مجالا واقعيا مسيرا من طرف أفراد و ليس فقط من طرف تسيير مؤسساتي يعلب عليه الغموض. و هذا في نظر بعض المحللين، يعتبر أحد الأبعاد السياسية الهامة المنبثقة من هذه المطالب،التي تساهم في تحويل وسائل التنظيم و التسيير داخل مجتمعات ما بعد الحديثة.
سوف نحاول في إطار هذا التعقيب توضيح كيف وقع هذا التحول، انطلاقا من الخطاب المعاصر حول انهيار دولة العناية و الإلتجاء إلى الخيار الأخلاقي عن طريق المجتمع المدني. فهو محاولة متواضعة من أجل فهم تصاعد الطلب على ما هو أخلاقي و تفسيرات ذلك، من أجل فهم قواعد لعبة التحولات في العلاقات بين السلطة و المسؤولية في مجتمعاتنا حاليا. و سيكون ذلك من خلال ثلاث محاور:
أخلاقيات دولة العناية: -1
إن تحليل الأحداث التاريخية الكبرى القريبة منا، وخصوصا فيما يتعلق بما وقع خلال القرن العشرين، يؤكد أن قيم المجتمعات الحديثة لم يبقى لها ذلك البريق. فالحرب العالمية الأولى و الثانية، و ما خلفته من آلام، و الثورة البلشفية و ما خلفته من آثار كالكولاك، و السباق الجنوني من أجل التسلح النووي، ثم حربا يوغوسلافيا و روواند و ما خلفتاه من مآس ... فتاريخ القرن العشرين لم يخلف تقدما أخلاقيا ملموسا، كما أنه لم يساعد البشرية على تحررها.
فالتقدم صار عبادة مقدسة، و حاولت من خلاله الأخلاقيات الحديثة جمع الشروط المثالية لتحقيق "بشرية الإنسان"، الإنسان "المعاصر و الكوني". فعالم الإجتماع الفرنسي ألان تورين ذكر في كتابه (4) أن البحث عن الإنسان الكوني هو أحد سمات الأخلاقيات الحديثة، التي وعدت بإيجاد حلول لكل المشاكل بفضل القوة الخارقة ل"مبدإ الفردانية"(5) عن طريق فرض التجانس من خلال تسوية الخلافات. و هكذا، تحت غطاء هاجس" الكونية" تميزت الأخلاقيات الحديثة بمعياراستبعاد كل ما هو متباين و ما لا يتماشى مع ما سطرته في اتجاهها.
لقد كان في طليعة الدعاة إلى هذه الأخلاقيات الحديثة، هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم تنويرالجماهيرمن أجل معرفة المشروع العالمي الذي اشتهر ب"الأنوار" و من خلاله فرض الأخلاقيات الحديثة. هذه الطليعة هي التي أشرفت على تحويل وجهة مشروع العصرنة نحو "الحداثة"، حيث تم تحويرها الى "ما هو غير اخلاقي" (6) دون تحميل أحد أي مسؤولية.
بهذا يمكن اعتبار انتشار دولة العناية امتدادا للأخلاقيات الحديثة، مع اضافة الصبغة الدينية المسيحية، بحيث اختلطت العناية الأجتماعية بالعناية الإلهية حسب التشبيه الذي قام به بيير روزانفالون(7) و قد قال قبله غوستاف لوبون بأن هذا المشروع الجديد للدولة قد يصبح: " بابا جماعي يجب عليه تدبير كل شيء و صناعة كل شيء و تسييركل شيء، مع اعفاء المواطنين من أقل مجهود يدعو إلى أخذ المبادرة." (8)
وقد بلغ هذا النوع من العناية للدولة ذروته خلال القرن العشرين بسبب ثلاثة وقائع كبرى: الأزمة الإقتصادية في سنة 1930، و الحرب العالمية الثانية و السنوات الثلاثين المجيدة. بحيث لوحظ:"تطورمثير لمنطق الدولة، بحيث لم يبقى هناك أي مجال في المجتمع المدني إلا و أصبح تحت السيطرة المؤسساتية للدولة" (9)
و تدريجيا بسطت دولة العناية سيطرتها على كل انواع ديناميات العلاقات الإجتماعية و فرضت إملاءاتها على التنظيم الإجتماعي. من أجل الوصول إلى ذلك، قامت مؤسسة الدولة بوضع: " ترسانة من المعايير القانونية و أشكال متعددة من البيروقراطيات الحكومية و الشبه الحكومية، مسيطرة في نهاية المطاف على كل أشكال الحياة اليومية للمواطنين."(10) و قد أدى الإنتشار المتزايد لسلطة دولة العناية على مختلف مجالات الحياة في المجتمع، إلى تفكيك التضامن الإجتماعي و سلب المسؤوليات الفردية. و هذا الأمر يفند زعم الوعود بإعطاء الحرية السياسية للأفراد، عكس ذلك فقد الفرد صفة "الفاعل السياسي"(11)، و هذا ما عبر عنه المفكر السياسي الفرنسي أليكسيس دو طوكفيل ب "الإستبداد اللطيف او اللين"(12) و قد اوضح هذا الأمرعالم الإجتماع الكندي تشارلز تايلور، حيث قال: " لم تبق إلا فئة قليلة من الأفراد الذين يريدون المشاركة بشكل فعلي في الحياة السياسية.
فالأغلبية تفضل البقاء في منازلها من أجل الإستمتاع بما يرضي الحياة الخاصة، مادامت الحكومة توفر و تتكفل بتوزيع وسائل الرفاه."(13)
إلا أن وصاية الدولة على مجموع السلطة السياسية هو أمر من المستحيل أن يدوم. لأنه يوجد دائما جزء من السياسي الذي يسعى إلى التفلت من الأشكال التنظيمية المفروضة من طرف الدولة. و هذا ما بينه الكنديان آن لوكاري و نيكول مورف، حيث قالا: " تعرف السياسة دائما نوعان من السلطة يصعب سحقهما: الأول هو سلطة الفرد على نفسه، و الذي يمكن أن يتحول إلى سلطة جماعية، و لا يمكن ذلك إلا إذا كانت العلاقة بين الفرد و نفسه علاقة وطيدة. أما الثاني فهو سلطة الدولة، و الذي من المفترض أن يؤسس للسلطة الأولى، إلا أنه بإمكانه الاستغناء عنها."(14)
2- انهيار دولة العناية و تطور دينامية إجتماعية جديدة:
بالرغم من تسلط دولة العناية و تركها لبصمات عميقة في المخيلة الإجتماعية و السياسية عند الأفراد، فإن التحولات الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية التي طرأت منذ 1960 قد تسببت في خلق تغيرات كبيرة في المواقف و السلوك. فالأفراد لم يعودوا يجدون ذواتهم في العقد الإجتماعي الحديث ذو العناية و الرعاية، الذي كان يعطي للدولة حق التحكم في الساحة السياسية. و هذا ما بينه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، عندما قال بأن دولة العناية استطاعت أن تفرض نفسها بفضل نشر نمودج "مجتمع العمل" الذي كان يعد كل فرد بالحصول على عمل، وعلى كل أنواع الخدمات و وسائل الإستهلاك، مقابل دفع الضرائب.(15)
إلا ان الذي وقع هو استفحال البطالة و استيطانها في المجتمعات الغربية، كما أن الطبقة الوسطى و الشعبية ازدادتا فقرا، و صارت الحكومات تقتص من ميزانيات الخدمات الإجتماعية. كل هذا جعل من الأفراد يستفيقون على شبح اوهام دولة العناية. فكان و لابد لهم من مواجهة هذا الواقع المر. و أخذت المواجهة أشكالا و انواعا على رأسها التهرب الضريبي و الإشتغال في السوق السوداء و تهريب البضائع ... فانتشرت ثقافة تحقيق اكبر ربح ممكن ضدا في الدولة، مع الدفع لها أقل مستحق ممكن. و كان بإمكان دولة العناية لمواجهة هذه المظاهر مضاعفة وسائل المراقبة و المتابعة. إلا أنها لم تسعى إلى هذا النوع من الحلول.
الأفراد إذن لم يعودوا يثقون في المسؤولين، و خصوصا فيما يتعلق في توجيهاتهم المتعلقة بنمط الحياة و تأطيرها. فصار كل واحد يسعى إلى تسيير نمط حياته بناءا على قيمه الشخصية. و قد واكب هذا الأمرخلق ثقافة ما سمي ب "الخيارات المتعددة"(16). فتعددت القيم و العقائد و الحقائق و أنماط الحياة. مما جعل كل فرد يطالب بحق المشاركة في تقرير المصير الأجتماعي و السياسي للمجتمع.
فإذا استمر الأفراد من جهة في طلب خدمات نوعية من الدولة، فمن جهة أخرى لم يتوانوا من الطعن في مشروعية بعض السياسات الحكومية باسم الخطاب المؤيد للحقوق و الحريات. و نمودج كندا الذي عرف عدة قضايا مرفوعة ضد الحكومة أمام المحاكم هو اكبر دليل على نهاية قداسة المؤسسة الحكومية.
وقد تسبب هذا الواقع في الجمود السياسي لبعض الحكومات، خوفا من تهديدات المجموعات الإجتماعية، التي صارت تطال كل القرارات ذات الأبعاد الرئيسية. و صار بعض المتتبعين للشأن السياسي يتكلمون عن "الأزمة الحكومية" باعتبار، كما قال الفيلسوف الفرنسي فرانسوا إوالد، المسؤولية الحقيقية هي التي لها سلطة اتخاد القرار.(17) فإذا لم يبق المسؤولون الحكوميون قادرين على اتخاذ القرارات الحاسمة في إدارة الشأن العام، و تنظيم العيش المشترك، و توجيه المشاريع المجتمعية، فمن الذي بامكانه أن يتحمل هذه المسؤوليات؟
فأزمة دولة العناية جعلت الكثير من المفكرين يعيدون النظر في تحديد العلاقة بين المواطن والمجتمع و الدولة. فالفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفسكي مثلا يرى أن هذا الوضع هو فرصة تدفعنا إلى البحث عن "وسائل لنشر و مضاعفة المسؤوليات الإجتماعية "(18) و هي كذلك فرصة لتحديث مفهوم مبدأ "المسؤولية الفردية".
إعادة النظر، إذن، في سلطة الدولة، دفعت إلى التفكير في ركائز جديدة لبناء مشروع حياة مجتمعية. كان لابد من تطوير تنشئة اجتماعية أكثر مرونة. كما آن الأوان لتطوير استراتيجيات جديدة من أجل الإنتقال من الأنظمة الحكومية إلى أشكال جديدة من الأنظمة الإجتماعية ذات التنظيم الذاتي، كالهيئات المهنية ومجموعات الضغط و التجمعات المحلية ... بحيث يصبح دور الدولة يقتصر في هذا المجال على متابعة هذه الهيئات من أجل دفعها إلى تحمل مسؤولياتها الإجتماعية الجديدة بشكل صحيح.
3- المجتمع المدني و العودة إلى الأخلاقي:
بالنسبة للفيلسوف الألماني هانس جوناس، العودة إلى ما هو أخلاقي يترافق مع عودة مبدإ المسؤولية.(19) اما المفكر و الرئيس اليوغوسلافي السابق فاكلاف هافيل فقال موضحا هذا الأمر: " إن الحقوق و الحريات غير قابلة للتجزئة. و مبدأ المسؤولية يفرض على الفرد أن لا ينطوي على نفسه، و أن لا يهتم إلا بما يدخل في حياته. ليس المطلوب ان يضحي بكل ما يملك، و لكن على الفرد ان يعلم أن الدفاع على مصالحه الشخصية يكون أيضا من خلال الساحة العامة. بهذه الوسيلة فقط، بإمكانه أن يسترجع مكانة "الشخص التاريخي الإيجابي" و الحصول على شرف المواطنة. إن عودة الشعور بالمواطنة أمر أساسي، باعتباره يساهم في عودة السيطرة على مصير الشأن العام من طرف كل المواطنين. إنها عودة ظهور الوعي بالمسؤولية المشتركة تجاه الشؤون العامة."(20)
هكذا دخلت المجتمعات حقبة جديدة، بحيث لم يبقى هناك مجال لثقافة الإعتماد على الغير و مد اليد لطلب المساعدة، و عوض ذلك تفتح الأبواب على مصراعيها لقيم المسؤولية المشتركة لتأخذ مكانها في المخيلة الإجتماعية و السياسية. و لأن الناس قد جردوا من المسؤوليات لعقود عديدة، صاروا الآن يطالبون بها بحرارة.
يقول المفكر الفرنسي بول ريكور أن : "طلب كل ما هو اخلاقي مرتبط بشكل كبيرومباشر بأزمة الديمقراطية التمثيلية و بالمشاركة الغير كافية للمواطنين في الحياة العامة."(21)
إن تطور الوعي الأخلاقي يتم حول ثلاث قيم: التواصل و التضامن و المسؤولية. فانعدام التجانس في المجتمعات حاليا جعل من التواصل قيمة اساسية يجتمع حولها الناس. كما أن هذا الأمر فرض قيمة التضامن، باعتباركل فرد أصبح مضطرا للتعامل مع غيره، كما قال تشارلز طايلور: "لا يوجد شخص يستطيع أن يحدد نفسه بنفسه"(22) كما أنه يضع شرطا أساسيا ألا و هو المسؤولية و ذلك من اجل تجاوز آفات دولة العناية.
لهذا كان من الطبيعي ان يكون للأخلاقي دور أساسي لإخراج المجتمع المدني للوجود. فالأفراد من اجل الإقتراب من مراكز صنع القرار، أو تقريبها منهم، صاروا يطمحون إلى لعب دور الريادة. فهذه الدينامية في تحمل المسؤولية تنبئ عن رغبة حقيقية عند الكثير منهم في الحصول على الإستقلالية عن الدولة و عن كل ما يتعلق بالسلطة.
فهذا الشكل الجديد من التنظيم عن طريق ما هو أخلاقي قد عرف و سيعرف انتشارا واسعا باعتباره أكثر ملاءمة من الثقافة المجتمعية المعاصرة، خلافا لما تعرفه الأشكال التقليدية من القوانين و التي تعيش حاليا حالة من الإنتكاس.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الحكومات تفاعلت مع هذه الثقافة الجديدة، و التي يحمل مشعلها المجتمع المدني ،بمنطق المصلحة. فالحكومات فهمت أن من مصلحتها التفاعل مع هؤلاء الفاعلين الجدد لما صار للأخلاقيات من قوة فاعلية على المستوى الميداني و السياسي و حتى الإقتصادي (إيزو). فصارت تحول إدارة مجموعة من الملفات العالقة و المستعصية عليها على مؤسسات و هيئات المجتمع المدني (ملف العنف عند الشباب أو مشاكل التعليم على سبيل المثال ...) فالدول و الحكومات صارت تعاني كل يوم من تعقدات مجتمعات تعرف تنوعات لا حصر لها على المستوى الثقافي و الفكري و السياسي و حتى في بعضها على المستوى الديني. فكان عليها ان تدير هذه الإشكالية ب "أقل تكلفة".
فصارت الأخلاقيات إذن حلا سياسيا مهما يساعد الحكومات على تجاوز جزء كبير من مشاكلها، كما أن بعضها أصبح يفرض على المجتمع المدني، عندما تشوبه إختلالات، التحلي بهذه الأخلاقيات. و بالتالي لم تبقى مكتوفة الأيدي، بل صارت بدورها تساهم في العلاج دون ان تشارك بشكل مباشر، و لاسيما في بعض الملفات الشائكة و التي قد تخلق نقاشا حادا على المستوى الإنتخابي ( الملفات المتعلقة بالبيئة). و بهذا كما يقول بعض المحللين، فهمت الحكومات ان المجتمع المدني بما يتميز به من أخلاقيات أصبح حلا مناسبا للتقليل من بعض الأزمات الإجتماعية.
إن أهمية المجتمع المدني تتجلى في كونه استطاع أن يبلور استراتيجية جديدة للحفاظ على التماسك الإجتماعي، و التي تحاول من خلاله تطويرعملية الحماية المتبادلة التي تتماشى مع رغبة كل فرد في المجتمع. إن عبقرية المجتمع المدني تتجلى في كونه لم يفرض من فوق. فكل فرد من خلاله يحاول خلق جو من الطمأنينة تستفيد منه كل المجموعة.
إلا أن السؤال الذي يبقى مطروحا، باعتباره يشكل أحد معوقات السير الطبيعي للمجتمع المدني من خلال هيئاته و مؤسساته، و الذي سأختم به هذه المداخلة المتواضعة، هو: من يتخذ القرار و من يتحمل مسؤوليته؟ فالكل يعلم أن أغلب جمعيات المجتمع المدني التي استطاعت أن تطفو فوق السطح تجد اشكالات عديدة في من يملك القرار فيها، و أغلبها لا تستطيع بشكل طبيعي اتخاذ قرارات دون أن يكون للسياسي فيها أثر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.