أخنوش متمسك بأغلبيته ويستبعد في الوقت الراهن إجراء أي تعديل حكومي    حزب الاستقلال يعقد مؤتمره محسوم النتيجة    أخنوش: لا سنة بيضاء في كليات الطب ونهدف إلى إصلاح شامل لمنظومة الصحة    انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس "مولان روج"    الأمير مولاي رشيد يترأس بمكناس مأدبة عشاء أقامها الملك على شرف المدعوين والمشاركين في المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    في ظل ضبابية رؤية الحكومة.. هل يلغي أخنوش صندوق المقاصة؟    "IA Branding Factory"… استفادة 11 تعاونية من الخدمات التكنولوجية للذكاء الاصطناعي    الصين تتعبأ لمواجهة حالات الطوارئ المرتبطة بالفيضانات    السعودية قد تمثَل للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون    رسميا.. بدر بانون يعود لأحضان فريقه الأم    بطولة إفريقيا للجيدو... المنتخب المغربي يفوز بميداليتين ذهبيتين ونحاسيتين في اليوم الأول من المنافسات    انطلاق أشغال مشروع تهيئة الغابة الحضرية "ليبيكا" بالعرائش    جمع أزيد من 80 كيس دم في حملة للتبرع بجرسيف    مؤسسة (البيت العربي) بإسبانيا تفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها ال18    "لمسات بألوان الحياة".. معرض تشكيلي بتطوان للفنان مصطفى اليسفي    عرض فيلم "أفضل" بالمعهد الفرنسي بتطوان    مسؤول بوزارة التربية يمنع التلاميذ من مضغ "العلكة" في المدارس بتزنيت    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    زلزال استقالات يضرب الخارجية الأمريكية بسبب دعم بايدن لحرب إسرائيل على غزة    النسخة السادسة للمباراة المغربية للمنتوجات المجالية.. تتويج 7 تعاونيات بجوائز للتميز    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    معرض لفلاحة 16 بمكناس كبر وخاصو يتوسع. دورة مقادة كان مشكوك فيها 3 اشهر. اقبال كبير وتجاوب مزيان وحركة دايرة    عدد العمال المغاربة يتصاعد في إسبانيا    قفروها الكابرانات على لالجيري: القضية ما فيهاش غير 3 لزيرو.. خطية قاصحة كتسناهم بسبب ماتش بركان والمنتخبات والأندية الجزائرية مهددة ما تلعبش عامين    تحت اشراف الجامعة الملكية المغربية للملاكمة عصبة جهة سوس ماسة للملاكمة تنظم بطولة الفئات السنية    القبض على مطلوب في بلجيكا أثناء محاولته الفرار إلى المغرب عبر إسبانيا    وزير دفاع إسرائيل: ما غنوقفوش القتال حتى نرجعو المحتجزين لعند حماس    الدكتور عبدالله بوصوف: قميص بركان وحدود " المغرب الحقة "    شاهد كيف عرض فيفا خريطة المغرب بمتحفه في زوريخ    تسليط الضوء بالدار البيضاء على مكانة الأطفال المتخلى عنهم والأيتام    أخنوش: الحكومة تقوم بإصلاح تدريجي ولن يتم إلغاء صندوق المقاصة    هل دقت طبول الحرب الشاملة بين الجزائر والمغرب؟    طنجة تحتضن ندوة حول إزالة الكربون من التدفقات اللوجستية بين المغرب و أوروبا    نهضة بركان تطرح تذاكر "كأس الكاف"    البيرو..مشاركة مغربية في "معرض السفارات" بليما لإبراز الإشعاع الثقافي للمملكة    مؤتمر دولي بفاس يوصي بتشجيع الأبحاث المتعلقة بترجمة اللغات المحلية    أخنوش: نشتغل على 4 ملفات كبرى ونعمل على تحسين دخل المواطنين بالقطاعين العام والخاص    أخنوش يربط الزيادة في ثمن "البوطا" ب"نجاح نظام الدعم المباشر"    الخريطة على القميص تثير سعار الجزائر من جديد    رئيس الحكومة يجري مباحثات مع وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي    المغرب يستنكر بشدة اقتحام متطرفين المسجد الأقصى    ''اتصالات المغرب''.. النتيجة الصافية المعدلة لحصة المجموعة وصلات 1,52 مليار درهم فالفصل اللول من 2024    نمو حركة النقل الجوي بمطار طنجة الدولي خلال بداية سنة 2024    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    الأمثال العامية بتطوان... (582)    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسس النظرية والتاريخية لقيام ثقافة الفضاء العام
نشر في المساء يوم 19 - 02 - 2011

يجب أن يكون لأطروحتنا حول الفضاء العام في المغرب مدخلان أساسيان: المدخل الأول هو الجذور العربية الإسلامية، من خلال طرق تحديدات مفهوم «الحضارة»، كما صاغه العلامة
عبد الرحمان بن خلدون، والذي يعطيه دلالات سياسية واجتماعية وتاريخية من الخطأ عدم تقديرها في هذا الباب، بالاعتماد على الكتاب -العمدة لابن خلدون «المقدمة»، أما المدخل الثاني فهو الذي أسسه العقل الأنواري، والذي يعتبر مرجعا رئيسيا في ما تعيشه أوربا اليوم من ثقافة متقدمة جدا في فضائها العمومي.
بالنسبة إلى المدخل الأول، فإنه لا غنى عنه، لكونه ينطلق من خصوصيات السياق العربي الإسلامي، وخاصة في بعده القيمي الأخلاقي، وهو بعد يشكل اليوم -إلى جانب أبعاد أخرى- أحدَ أسس السلوك الموجود في فضائنا العمومي، كما سنرى، ثم إن هذا المدخل عند ابن خلدون ينطوي -هو أيضا- على توتر، وإن كان في بعد آخر، ولكنه يجسد توتر مفهوم الحضارة، والذي يعتبره المرحوم الدكتور الجابري المقابلَ العربي الإسلامي لمفهوم الفضاء العمومي، ويتجلى هذا التوتر في جدل البداوة والتمدن، الأخلاق الفاسدة والأخلاق الفاضلة، الطبع والتطبع، الغالب والمغلوب... وهي علاقات يتوقف على ترتيبها مجمل النسق الخلدوني، كما سنرى بعد قليل.
أما بالنسبة إلى المدخل الأنواري فلأن هذا المدخل لا ينتمي إلى الماضي، بل هو الراهن والرهان، الحاضر والمستقبل، فما يقع في كل البلدان العربية من توترات مؤخرا، والمطالبة بالديمقراطية والحريات المدنية ومراجعة تقسيم الثروات الوطنية، يفيد شيئا واحدا سبق للأستاذ العروي أن حث عليه منذ سنوات، وهو أن الحداثة قدَر لا بد منه لشعوب البحر الأبيض المتوسط، لكون كل هذه المطالب وطريقة المطالبة بها تحيل كلها على الحداثة السياسية، والتي يعد الفضاء العمومي محورا لها.
لذلك، سننفتح على أهم الأطروحات التي تناولت مفهوم الفضاء العمومي ومختلف المفاهيم التي يشترطها، من حرية وواجب وديمقراطية والتزام، لمعرفة كيف أمكن، اليوم، للغرب الموغل في قيم الحرية الفردية، أن يكون في نفس الوقت هو السباق إلى ترسيخ، وأقول «ترسيخ»، مبادئ احترام الآخر، وهذا لا نجده عندنا إلا في ما ندر، فقدرة المجتمعات الحديثة على ضمان حرية الفرد، في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية والشخصية، وفي نفس الوقت، ضمان احترام القانون في الفضاء العمومي، تحتاج منا إلى وقفات لنأخذ العبرة والدروس، فمن ينظر في حال فضائنا العمومي المغربي، والذي تحولت فيه الفضاءات العامة إلى مزابل وأوكار للدعارة وبيع المخدرات، وتحولت المرافق العامة إلى ممتلكات شخصية للمديرين وللقيمين عليها، وتحولت المجالس التمثيلية إلى «وسيلة» لضمان الحماية من المتابعات القانونية، وتحول للإعلام العمومي إلى منبر لانحطاط الذوق العام... كل هذه المظاهر وغيرها تجعلنا ننظر إلى النموذج الأنواري على أنه بداية الطريق.
لئِن كان تعريف الإنسان بكونه كائنا متمدنا بالفطرة مدخلا لفهم نزوع الإنسان بالفطرة إلى الاجتماع البشري، فإن العيش في المدينة شكل علامة فارقة في تاريخ البشرية، تحول فيها الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة ومن حياة القبائل المتوحشة المتصارعة على مصادر الرزق إلى المدن المنظمة لتقسيم الشغل، ثم من الحياة الخاصة، «الغارقة» في الحميمية والنزوع إلى اللذة والرغبة بإطلاق، إلى الحياة العامة، المؤسسة على المشترك والعمومي، وأخيرا من العيش تحت رحمة الطبيعة إلى التغلب على الطبيعة، باعتماد الإنسان على تكاتف قوته مع قوة أخيه الإنسان، لأنه حيث وُجِدت المدينة، وجدت الحضارة -بالتعبير الخلدوني- وحيث وُجِدت الحضارة وجدت، بالضرورة، القيم المنظمة لعيش البشر في هذه المدينة، حيث يتم ترتيب العلاقة بين الأفراد بناء على التكامل الوظيفي للحاجيات.
المدنية الخلدونية.. مدخل لتأسيس ثقافة الفضاء العام إسلاميا
ما يزال صمت الفلاسفة المسلمين عن الخوض في أمور السياسة والحكم أمرا محيرا عند أغلب الباحثين، وخاصة صمتهم عن كتاب أرسطو «السياسة»، والذي سيشكل، لقرون، مرجعا في أوربا قبيل النهضة، فمن يقرأ المتن الرشدي، سيجد ابن رشد كان محيطا، بشكل كبير وبديع، بكل متطلبات المتن الأرسطي، منهجيا ومفاهيميا وموضوعاتيا، لكن الكتاب الوحيد الذي يغيب عنده هو كتاب السياسة لأرسطو، والغريب هو أننا نجده يكتب في مفهوم السياسة عند أفلاطون، فهل للأمر علاقة بالسلطة السياسية القائمة في العالم العربي الإسلامي، والتي لا تسمح بإمكانية قيام تصور للسياسة منافس؟
ورب معترض، سيحاججنا في الفارابي وكتابه الشهير «آراء أهل المدينة الفاضلة»، غير أننا نوضح أن من يقرأ الكتاب سيجد النزعة الأفلاطونية والأفلوطينية المحدثة واضحة المعالم، والذي يتكلم فيه الفارابي عن أنواع أهل المدن والسعادات المخصصة لكل نوع، بشكل مجرد تماما، وكأن السياق العربي الإسلامي آنذاك كان لا يفرض التفكير في السياسة، وبالتالي ضاعت على العرب إمكانية إدماج كتاب هام جدا في صلب الثقافة العربية الإسلامية، هو كتاب «السياسة»، الذي يتكلم فيه أرسطو عن مفاهيم تعتبر نواة الفضاء العمومي في الأزمنة الحديثة، ونقصد مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والفضيلة والحقوق والسيادة إلى غير ذلك.
ما نريد قوله هو أن ثقافة الفضاء العمومي، كما تُتداوَل اليوم، لا نجد لها من أصل عربي إلا عند مفكر واحد هو ابن خلدون، والذي صاغ نظرية عقلانية للحضارة، وإن لم تكتب لها الاستمرارية في شكل مدرسة تحقق التراكم المطلوب، وهذا مقام يقتضي مقالا آخر، المهم هو أن بن خلدون صاغ مفهومه للحضارة بطريقة تجعلنا نمسك بمجمل القوانين التي تحكم الدولة والمدينة والحضارة عموما، بعيدا عن التفسيرات الفارسية التي كان الفارابي والغزالي وابن سينا يروجون لها، بهذه الطريقة أو تلك، والتي تقدس الإمام المعصوم وتجعل حقه المطلق واجبا مطلقا على الرعية. فمن المعروف أن بعض المفكرين المسلمين يفرقون بين الحضارة والمدنية، فهم يرون أن الحضارة هي العقائد والمفاهيم والأفكار التي تعتنقها الأمة، أما المدنية فهي أساليب العمران وأشكال التطور المادي، وهي عالمية لا تختص بها أمة دون غيرها من الأمم، بل إنها تنتشر وتتناقلها الشعوب، بغضّ النظر عن مصدرها.
تعني الحضارة أو المدنية عند العرب الإقامة في الحواضر والمدن وما يتبع تلك الإقامة من أشكال التطور وأساليب العمران والتقدم. ولمّا كانت لفظة «الحضارة» مشتقة من الحضر ولفظة «المدنية» مشتقة من المدينة، فلا فرق بين الحضارة والمدنية، ولذلك كان ابن خلدون يستخدم صيغة التمدن بمعنى التحضر، بل إنه كان يرى أن المدنية هي الاجتماع ذاته.
وقد جعل ابن خلدون الاستقرار أولَ شرط في نشوء الحضارة، حيث تظهر الحاجة إلى القوانين التي تنظم حقوق الملكية وعلاقات الأفراد بعضَهم ببعض وتحدد نظام العقوبات وما إلى ذلك، مما يعتبر أساسا لنشوء الدولة، ولذلك يرى ابن خلدون أن الطور الأول للدولة هو البداوة، وبعدها تأتي الحضارة التي عرفها بأنها «تفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعمَلة في وجوبه ومذاهب من المطابخ والملابس والمباني... فصار طور الحضارة من الملك يتبع طور البداوة».
فما من حضارة إلا واعتمدت على علوم ومعارف الحضارات التي سبقتها، فهو يقول: «وأهل الدول أبدا يقلدون في طور الحضارة وأحوالها الدول السابقة قبلهم، فأحوالهم يشاهدون ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لمّا كان الفتح وملكوا فارس والروم». والواقع أن هذا الأخذ (أو الاقتباس) لا يعيب الأمة المتحضرة ولا يحط من شأنها، فهو ظاهرة عالمية، وهو يدل على مرونة الحضارة الناشئة وإيجابيتها.
هذا قول يصدر عن رجل عاين وخبر أوحال الحضارات المتعاقبة في منطقة المغرب الكبير والأندلس، حيث بنى المسلمون حضارة اقتبسوا فيها الوسائل المادية وأساليب العمران من حضارات الفرس والروم، كبناء المدن وتعبيد الطرقات وفنون الصناعات والمهارات الحربية، ولم يقتبسوا شيئا من عقائد الآخرين أو تشريعاتهم أو أنظمتهم الاجتماعية، لأن هذه الأمور مصدرها هو الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ولا يجوز الاستناد فيها إلى مصادر أخرى، حسب بن خلدون.
بل إنهم كانوا يدخلون تغييرات على أشكال المدينة والعمران، حتى تتلاءم مع مفاهيمهم ومعتقداتهم، فعلى سبيل المثال، كانت المدن الرومانية التي افتتحوها فسيحة الدور ومكشوفا بعضها على بعض وكان يخترق المدينة شارعان رئيسان واسعان، ولكنها بعد الفتح أخذت تحمل طابعا إسلاميا، حيث كانوا يبنون المسجد الجامع في وسط المدينة، ثم تنتشر حوله المدارس والفنادق ودور الإمارة، وكانت كثافة الدور السكنية تزداد في اتجاه وسط المدينة. وكانت الدار الإسلامية النموذجية تتكون من الصحن المكشوف للشمس والهواء، وهو مستور عن الغرباء، وحوله غرف ملتصقة تطل أبوابها وشبابيكها على الصحن.
ما نريد التأكيد عليه، أيضا، هو ربط ابن خلدون فساد الأخلاق وفساد العمران، فكلما بلغت أمة شأوا في الرقي والرخاء، سرت في صفوف أفرادها الدعة واستكانوا إلى الرفاهية وضعفت همتهم في الإقبال على ما يحفظون به نعمة الرخاء، بتعبيره، وبالتالي ضعف إقبالهم على العلم وضعفت فضائلهم الخليقة واتجهت أمتهم بالتالي إلى الخراب، وفق قانون حتمي، هو نفسه الذي يحكم الإنسان في حياته، فهو يبدأ طفلا ثم يصير رجلا، وبعد ذلك، تبدأ الشيخوخة، مما يعني أن «شيخوخة» الأمم تأتيهم كنتيجة حتمية للانحلال الخلقي واحتقار الفضائل.
إن الانتقال من قيم الخشونة والبداوة إلى رقة الحضارة، بمعنى الانتقال من مجتمع الحرمان الذي يشكل التضامن والالتحام السلاح الوحيد والفعال في صراع الإنسان والطبيعة والإنسان ضد أخيه الإنسان، إلى «مجتمع يغدو فيه الصراع ليس صراعا من أجل البقاء، بل صراعا من أجل الجاه المفيد للمال». (الجابري، فكر بن خلدون.. العصبية والدولة، ص. 234).
هذا باختصار هو المدخل الأول، والذي إن كانت له من قيمة، فضلا على قيمته التاريخية والفكرية العظيمة، فهو أنه ينبهنا إلى أمر هام هو أن هناك دورة حياة طبيعية تحكمنا كأمة وأن السبيل إلى نهوضنا وقيام أمرنا من جديد لا يتم بالانحلال الخلقي والمبالغة في التنافس على مظاهر البذخ واستغراقنا في الانحلال الأخلاقي...
إرهاصات ثقافة الفضاء العام في الفكر الأنواري
كل المشتغلون في الفكر الحقوقي، وحتى السياسي الحديث، يعرفون أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يعتبر «زبدة» فلسفة الأنوار، إنه العقل الألماني في عظمة آفاقه، فقد كان المنصتَ الجيد للتحولات التي أتت بها الأزمنة الحديثة على مستوى المعرفة، الأخلاق والفن، وهي المواضيع التي تحيل غلى ثلاثيته النقدية الشهيرة، والتي تجتمع كلها في تيمة واحدة وعريضة اسمها «الإنسان الحديث». وما يهمنا هنا، تحديدا، هو كيف تصور كانط مسألة العلاقة بين الحرية والواجب في المجتمع، وهي علاقة تؤدي، في حالة التباسها، إلى السقوط إما في حالة الطبيعة، حيث «الإنسان ذئب للإنسان»، وهي أطروحة هوبس الأساسية، أو تؤدي، في حالة تضخم القانون على حساب الحريات الفردية، إلى الاستبداد، فكانط كان مسكونا بتحد كبير، نعيشه في المغرب اليوم بشكل مؤلم أحيانا، وهو تحدي خلق الانسجام بين الواجب واحترام القانون، من جهة، والحرية واستقلال الإرادة، من جهة أخرى، لذلك يمكننا الحديث عن كون كانط هو المؤسس الأول لِما سيُعرف ب«الفضاء العام»، وهذا يحيلنا إلى مدخل ثان، وهو الذي يعتبر المدخل الشرعيَّ، تاريخيا، لكل حديث عن ثقافة الفضاء العمومي، لكونه ربط هذا الفضاء بالكيان المؤسساتي والجماعي العمومي وليس بالكيان الكاريزماتي الذي ينسب إلى الحاكم حقا مطلقا يجعل الأرض ومن عليها ملكا له وحده، بموجب حق مطلق... لذلك فالحديث عن الفضاء العمومي يقتضي، بالضرورة، الحديث عن مفاهيم تجسد بحق توتر هذا المفهوم، وهي مفاهيم الحق والحرية والقانون والديمقراطية، والتي هي مفاهيم تترتب عنها جملة من العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، حيث يحتفظ كل فرد بحقه الطبيعي، كالحق في الحياة والتعبير والتصرف والمساهمة في الحياة العامة، وفي نفس الوقت، احترامه لواجباته تجاه الكل وتجاه القانون، وهنا يصبح الحديث عن الفيلسوفين الألمانيين كانط وهيغل مسألة مهمة جدا، لأنهما، على التوالي، استطاعا أن يصوغا تصورا تعيشه أوربا اليوم بشكل ملموس، وهو تصور يجعل الحرية «تنسجم»، في جوهرها، مع الواجب ولا تتعارض معه، ويجعل المجتمع المدني والدولة يجسدان، في جدلهما، الحريةَ الفردية والقانون الكليَّ للروح البشرية في اكتمال نضجها التاريخي.
إن مسألة ثقافة الفضاء العمومي لا تقتصر على البحث في العلاقات الإنسانية داخل المجتمع في جانبها اليومي فحسب، بل تمتد لتتناول جوانب سياسية وأخلاقية وقانونية... فهي بهذا المعنى تحيل على مجمل الإشكالات التي تواجه المجتمعات البشرية، من قبيل نشأة التجمعات السياسية وأصل الحكومات ومشروعية السلطة السياسية ومصدر الإلزام القانوني وعلاقات الدولة بالأفراد ومفاهيم الواجب والقانون والمسؤولية... والأهم، هو أنها تحيلنا عل مشكلة الحق، كمشكلة فلسفية بامتياز، بحكم تداخلها وارتباطها الوثيق بالوجود الإنساني وبماهية هذا الوجود الحر وبطبيعة العلاقات الإنسانية.
وما بحث إيمانويل كانط في مفهوم الحق إلا محاولة لإعادة بناء العلاقة ما بين الحق والقانون، عبر توسط الواجب الأخلاقي، فهدف كانط إنما هو تبيان الحق في ذاته، من خلال «تفسير طبيعته وأصله الميتافيزيقي» (انظر كتاب «تأسيس ميتافزيقا الأخلاق»)، حسب كانط لحل مشكلة الفلسفة السياسية الحديثة، المتمثلة في التعارض بين الشرعية والأخلاقية، أي بين الحق، بوصفه حقاً قبلياً فطرياً جوهرياً لا يمكن المساس به وبين القانون، بوصفه السلطة المشرعة لحقوق الأفراد في الحالة المدنية، ومن ثم البحث في الصلة بين الإلزام القانوني وبين الحق والواجب.
يبني كانط مذهبه الأخلاقي انطلاقاً من البحث في تصور الإرادة الخيِّرة في ذاتها، عبر تصور الواجب، فالإرادة الخيِّرة لا ترتبط بمنفعة أو بميل، بل هي مستقلة، عن أي فائدة أو أثر كما يصفها كانط «تلمع بذاتها لمعان الجوهرة، مثل شيء يحتفظ في نفسه بكل قيمته». (نفس المرجع، ص. 17) ومن ثم، يفحص كانط فكرة الواجب للاستدلال على خيرية الإرادة، فاتفاق الفعل أو الميل مع الواجب إنما يكون نابعاً من شعور حقيقي بالواجب فقط، منزهاً عن أي ميل إلى تحقيق سعادته الذاتية، فلا يقع تحت تأثير الميل الباطني ولا موضوع خارجي. والواقع أن كانط يعرف الواجب بأنه هو «ضرورة القيام بفعل عن احترام للقانون». (نفس المرجع ص 27) وهو ينشأ بدافع من العقل ومبادئه الحقة ويكون وليد احترامه الكلي للواجب عينه.
ينطلق كانط في معالجته لمفهوم الحق من الحالة الطبيعية، لا بوصفها فرضاً ذهنياً أو تاريخياً مؤسساً للحق المدني، حيث العقد الاجتماعي الذي ينقل الأفراد إلى الحالة المدنية، بل باعتبارها «تساؤلاً أخلاقياً»، فإن انتقال الأفراد للعيش في مجتمع الدولة هو بمثابة ضرورة تقتضيها طبيعته واستعداداتهم الفطرية، مستفيداً من التعارض القائم داخل الحالة الطبيعية، وهذا ما دلل عليه كانط في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، المشار إليه سابقا، من أن هذا الانتقال لا يتم إلا عبر تخلي الأفراد عن الحرية الطبيعية المطلقة للانتقال من حالة القصور -ومن هنا التنوير العقلي عند كانط- إلى حالة يتم فيها «الإذعان لإلزام القوانين العامة». فبموجب هذا العقد الأصلي، تتحد إرادة الفرد مع الإرادة الكلية لمجموع الأفراد المتعينة في دولة (القانون الوضعي المدني)، دون التنازل عن الحرية الفطرية للفرد، بل الدخول في هيئة قانونية، وضعية حامية لهذه الحرية، ففي الانتقال إلى الحالة المدنية العقلانية والأخلاقية، تبدأ الذات بوعي إرادتها الحرة، من خلال سنها التشريع واحترامها مبدأ القانون الكلي، بوصفه معبراً عن الحرية، المنظمة بواسطة قانون الحرية، المتمثل في الدستور الجمهوري، وهو الدستور الوحيد، حسب كانط، المجسد لمبادئ الحق والضامن للسلم. ولأنه الدستور الوحيد الذي يعامل الفرد كقيمة أخلاقية، يتمتع بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، استناداً إلى التشريع الوضعي، بوصفه شرط تعين المواطنة في الدولة المدنية.
وفي الأخير، نشير إلى أن كانط يرى أن استمرار حالة السلم بين الأفراد في الدولة المدنية إنما يتأسس على القوانين الأخلاقية المطلقة والضرورية، بوصفه إلزاماً قانونياً يمارس على إرادة الفرد ليس قسراً خارجياً على هذه الإرادة، بل باعتباره إلزاماً ذاتياً أخلاقياً نابعاً من شعور الفرد بالواجب الأخلاقي، حيث الأخلاق (نظرية الحق) تصبح بعداً أساسياً للسياسة، فهو يقول: «لا ينبغي أن نطلب من الأخلاق تنظيم الدولة تنظيماً سياسياً صالحاً، بل ينبغي أن نتوقع من النظام السياسي الصالح تثقيف الشعب تثقيفاً أخلاقياً صالحا». (نفس المرجع، ص. 62).


الفضاء العام.. جدل الدولة والمجتمع المدني
شهدت السنوات الأخيرة، وما تزال، نقاشا صاخبا، ثريا ومتنوعاً، حول موضوع الفضاء العمومي والإشكاليات المرتبطة به. ومثله مثل مفهومي الدولة والمجتمع المدني، فقد أصبحت الإشارة إلى هذا الموضوع لازمة ضرورية في كل مناسبة تخص نقاش مشكلة الديمقراطية. وتزداد أهمية مفهوم الفضاء العمومي نتيجة تلك النزاعات التي ارتسمت في الفترة الأخيرة في المغرب، والمتعلقة بتحولات السلطة وأشكال تدبير الدولة وكذلك العلاقات الناشئة بينها وبين المجتمع، حيث تجري بلورة العلاقات الضرورية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي وتبذل جهود فكرية لتأصيل نظري لتلك العلاقات، ونظراً إلى أن النقاش الدائر حول «الفضاء العمومي» لم يظل أكاديميا صرفا، بل اتخذ طبيعة السياسة العملية الملموسة، في مناسبات عدة عرفها المشهد المغربي في العقد الأخير..
يسود الإجماع بين مختلف الباحثين في مجال الفكر السياسي على اعتبار التجربة التاريخية التي مرت بها المجتمعات الأوربية في القرنين ال71 وال81، خاصة في فرنسا وإنجلترا، وكذا الأفق الثقافي والفكري الجديد الذي ساهم فلاسفة عصر الأنوار في رسم معالمه الأساسية، بمثابة الإطار العام الذي احتضن ظهور إشكالية الفضاء العمومي لأول مرة، بكيفية واضحة ومتميزة. ومن المعلوم أن أهم نتيجة تمخضت عن هذه التجربة التاريخية، على المستوى الفكري وعلى مستوى التنظيمات السياسية والاجتماعية، هو ما يعرف بنظرية التعاقد الاجتماعي.
لذلك نقول، باقتضاب، إنه لا يمكن للناظر في العلاقة بين الحرية والقانون، الخاص والجماعي، كما تشكلت في الأزمنة الحديثة أن يغفل أيضا الإسهام الهيغلي، وكل هذا يحيلنا إلى ما يُعرَف عنده بفلسفة الحق، والتي يتناولها من خلال مدخلين هما: الحياة الإيتيقية ومفهوم المجتمع المدني، ففي إطار هذه الحياة الإيتيقية أو الأخلاقية، يمكن تحقيق الحرية، لأنها تتم من داخل مجتمع يعتبر الدولة تجسيدا نهائيا وكاملا لنهاية التاريخ، بما هو تجاوز لمرحلة العائلة والمجتمع المدني، فالعائلة تتعارض تماما مع الدولة، باعتبار أن العائلة لا تشكل إلا بدايات علاقة الحرية بالواجب، أما نضج هذه العلاقة فيتم في الدولة، أما الإطار النظري لهذا التحليل الهيغلي العميق، فهو تصوره للعقلانية عموما.
العقلانية هي أن نضع العقل في التاريخ البشري الحاكم على جميع التواريخ الخاصة، وفي الكون البشري الحاكم على جميع الخصوصيات القومية والإثنية واللغوية والثقافية، وقبل ذلك وبعده، هي أن نضع العقل في الإنسان الحاكم على كل أمة وشعب وطبقة وحزب وجماعة دينية أو مذهبية، الإنسان الذي ينتج نفسه في التاريخ وفي العالم، ثم يستعيد موضوعيتهما في ذاته المرة تلو المرة، حتى يغدو التاريخ تاريخه بالفعل والعالم عالمه بالفعل، من دون أن يفتر التعارض بين كونه فرداً مسوقاً بسائق الحاجة ومواطناً يسعى إلى الحرية والمساواة والعدالة، التعارض الذي لا بد أن ينتهي إلى أن يصير الفرد الواقعي هو المواطن الفعلي، لذلك، فإن أهم تظاهرات العقلانية، في التاريخ الحديث، هي روح المواطنة التي تتجاوز جميع الانتماءات ما قبل الوطنية أو ما قبل القومية، والتي نمت في كنف الإنسية والعلمانية والديمقراطية المفضية إلى العدالة أو الحاملة إمكانية أن تفضي إلى العدالة، بوصفها، أي العدالة، التحقيق الفعليَّ للمساواة البادئة بالمساواة أمام القانون. وقد ارتبطت روح المواطنة هذه بالظاهرة القومية التي تجلت عيانياً في المجتمع المدني والدولة القومية أو الدولة الأمة، بوصفها دولة حق وقانون، أولاً، ودولة ديمقراطية ثانياً. والدولة القومية غير دولة التعصب القومي الذي يلازم كل قومية، الأولى تبدو لجميع مواطنيها من الداخل في صورة دولة حق وقانون وتبدو لغير مواطنيها، من الخارج، في صورة دولة قومية. أما الثانية فتبدو لمواطنيها، من الداخل، في الصورة ذاتها التي يراها غير مواطنيها من الخارج، أي أنها دولة ليست لجميع مواطنيها، بل لجزء منهم فحسب...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.