للمرة الأولى منذ 2009.. "تواصل" الإسلامي في موريتانيا يتقدم للانتخابات الرئاسية    مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    كتل ضبابية وحرارة مرتفعة ورياح قوية في طقس يوم الجمعة    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    عقب قرارات لجنة الأندية بالاتحاد الإفريقي.. "نهضة بركان" إلى نهائي الكونفدرالية الإفريقية    اجتماع بوزارة الداخلية لتحديد معايير المدعوين لأداء الخدمة العسكرية برسم الفوج المقبل للمجندين    مجلس جماعة أولاد بوبكر يصادق بالإجماع على نقاط دورة ماي وغياب الأطر الطبية أبرز النقاط المثارة    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    الكعبي يتألق في أولمبياكوس اليوناني    رسميا.. اكتمال مجموعة المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    الإبقاء على مستشار وزير العدل السابق رهن الاعتقال بعد نقله إلى محكمة تطوان بسبب فضيحة "الوظيفة مقابل المال"    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    الجيش الملكي يُخرج بركان من كأس العرش    كأس العرش لكرة القدم.. الجيش الملكي يبلغ ثمن النهائي بفوزه على نهضة بركان بالضربات الترجيحية 8-7    بوريطة يتباحث ببانجول مع نظيره المالي    عمور.. مونديال 2030: وزارة السياحة معبأة من أجل استضافة الفرق والجمهور في أحسن الظروف    تفكيك مخيّم يثير حسرة طلبة أمريكيين    الملك يعزي بن زايد في وفاة طحنون آل نهيان    وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية    العقائد النصرانية    تنفيذ قانون المالية يظهر فائضا في الميزانية بلغ 16,8 مليار درهم    الأمثال العامية بتطوان... (588)    قرار بعدم اختصاص محكمة جرائم الأموال في قضية اليملاحي وإرجاع المسطرة لمحكمة تطوان    أوروبا تصدم المغرب مرة أخرى بسبب خضر غير صالحة للاستهلاك    أمطار طوفانية تغرق الإمارات وتتسبب في إغلاق مدارس ومقار عمل    مركز دراسات.. لهذا ترغب واشنطن في انتصار مغربي سريع في حال وقوع حرب مع الجزائر    أول تعليق من حكيمي بعد السقوط أمام بوروسيا دورتموند    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة    المخزون المائي بسدود الشمال يناهز مليار و100 مليون متر مكعب    ارتفاع حصيلة القتلى في غزة.. واعتقالات في الضفة الغربية    فوضى «الفراشة» بالفنيدق تتحول إلى محاولة قتل    مجلس النواب يعقد الأربعاء المقبل جلسة عمومية لمناقشة الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    ها التعيينات الجديدة فمناصب عليا لي دازت اليوم فمجلس الحكومة    بايتاس رد على لشكر والبي جي دي: الاتفاق مع النقابات ماشي مقايضة وحنا أسسنا لمنطق جديد فالحوار الاجتماعي    أزمة طلبة الطب وصلت ل4 شهور من الاحتقان..لجنة الطلبة فتهديد جديد للحكومة بسنة بيضاء: مضطرين نديرو مقاطعة شاملة    باحثون يكتشفون آليات تحسّن فهم تشكّل الجنين البشري في أولى مراحله    بذور مقاومة للجفاف تزرع الأمل في المغرب رغم انتشارها المحدود    النفط يتراجع لليوم الرابع عالمياً    طاهرة تودع مسلسل "المختفي" بكلمات مؤثرة        رسميا.. جامعة الكرة تتوصل بقرار "الكاف" النهائي بشأن تأهل نهضة بركان    مؤسسة المبادرة الخاصة تحتفي بمهرجانها الثقافي السادس عشر    البرلمان يستعرض تدبير غنى الحضارة المغربية بالمنتدى العالمي لحوار الثقافات    إلقاء القبض على إعلامية مشهورة وإيداعها السجن    آبل تعتزم إجراء تكامل بين تطبيقي التقويم و التذكيرات    تسرب الوقود من سفينة بميناء سبتة كاد يتسبب في كارثة بيئية    الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    مسؤولة في يونيسكو تشيد بزليج المغرب    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" يعلن عن أسماء الفائزات والفائزين بجائزة "الشاعر محمد الجيدي" الإقليمية في الشعر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الرئيس الكولومبي يعلن قطع العلاقات مع إسرائيل    "دراسة": زيادة لياقة القلب تقلل خطر الوفاة بنحو 20 في المائة    عبد الجبّار السحيمي في كل الأيام!    العربية للطيران ترفع عدد رحلاتها بين أكادير والرباط    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في نقد مفهوم هاراري للإنسان (3)
نشر في هسبريس يوم 10 - 08 - 2021


تجربة "الوعي" الأولى
جمجمة إغود هي جمجمة هوموساپيان إيغود، التي جرى اكتشافها مؤخرا بجبل إيغود بين بالمقربة من مدينة آسفي المغربية والتي يقول علماء الحفريات إنها تعود إلى حوالي 300 ألف سنة. إذا نظرت جيدا إلى الجمجمة، سترى بأن الحافة السفلى للجبهة بارزة بشكل يذكرنا بالإنسان النيندارتالي. هذا يعني أن إنسان إيغود هو إنسان عاقل قديم جدا، كان لا يزال يحافظ على بعض سمات الإنسان النيندارتالي.
من جوانب الضعف في تحليل هاراري أنه لم يكن يعرف بوجود جمجمة إنسان إيغود. لذلك، فإن تحقيبه للثورة المعرفية كان يبدأ 70 ألف سنة قبل اليوم؛ لكن اكتشاف إيغود يضطرنا إلى الافتراض أن الثورة المعرفية ربما حدثت قبل 70 ألف بزمن طويل.
وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان اكتساب القدرة على جمع المعلومات وتخزينها يعني أن الإنسان قد أصبح يعي بمحيطه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف كان إنسان إيغود يعي بنفسه؟ كيف كان الإنسان العاقل الأول يختبر تجربة "الوعي" الأولى؟
لنتذكر أن آخر تحليلنا كان هو أن وجود الوعي "سر" (بالمعنى التشومسكاوي)؛ وليس مجرد "مشكلة عسيرة"، حسب تعبير تشالمرز. ولنتذكر أن وضعية السرية هاته تعود إلى سببين اثنين: أولهما أن وعي الإنسان العاقل بموضوع متميز عن العمليات التي تتم داخل الدماغ ومتميز أيضا عن الموضوع نفسه. وثانيهما أن الوعي من طبيعة لا هي بالعصبية (النيورولوجية) ولا هي بالمادية.
يعطينا هايدڭر، في كتابه "الكينونة والزمن"، عنصرا مهما جدا في فهم "حالة الوعي الأولى" التي يختبرها الإنسان في حياته اليومية. يسمي هذه الحالة ب"الوجود في العالم" Being in the World. ماذا يقصد هايدڭر ب"الوجود في العالم"؟ يقصد بذلك ما يلي:
1 "الوجود في العالم" هو عندما يكون الإنسان منشغلا بعلاقته مع شيء ما. كما يكون الخياط منشغلا بخياطة الثوب مثلا.
2 "الوجود في العالم" يقتضي وجود أداة ينخرط بها الإنسان في ما هو منشغل به. الأداة في مثالنا هي الإبرة.
3 أداة الانخراط في تجربة "الوجود في العالم" تحيل إلى أدوات أخرى. مثلا: الإبرة تحيل إلى المطرقة التي تصنع بها الإبر، والمطرقة تحيل إلى المنشار الذي صنعت به يد المطرقة، وهكذا. تتضمن كل تجربة "وجود في العالم" نوعا من الوعي الخفيف بما تحيل عليه الأداة من أدوات أخرى.
4 عندما يكون الخياط منخرطا في "عالم الخياطة" (أي "موجودا في هذا العالم") فإنه يخيط دون أن يكون "واعيا" بما يفعله. مثلا، يمكنه أن يمارس الخياطة وهو يتحدث لصديقه عن مشاكله اليومية مع أبنائه.
5 إذا أخطأ الخياط في استعمال الإبرة، فوخزت أصبعه وخزا مؤلما، فإن الخياط سيستعيد وعيه بالإبرة والثوب وما يفعله... سيسترجع وعيه بالعالم الذي يوجد فيه.
6 هذا يعني أن حالة "الوعي الأولى" تكون انخراطا في العالم، أي نوعا من "الاتحاد" بالمحيط؛ لكن بمجرد أن تحدث "مشكلة" في "العالم الذي ننخرط فيه" (وخز الإبرة في مثالنا)، ينتقل الإنسان إلى مستوى آخر من الوعي يتضمن معنى "الانتباه" و"التركيز".
بهذا المعنى، فإن "الوعي"، في جوهره، هو نوع من "الاتحاد": اتحاد يجعل الإنسان ينخرط في عالم (عالم الإبرة، والثوب، والخياطة،... مع نوع من الإحالة الضمنية إلى ما قد ترتبط به الإبرة من الأدوات والعوالم الأخرى). حتى ما إذا وقع خلل ما في العالم الذي ينخرط فيه الإنسان، انتقل هذا "الاتحاد البدائي" إلى مستوى آخر من "الاتحاد" نسميه عادة ب"الوعي".
الاتحاد البدائي ("الوجود في العالم") هو اتحاد للإنسان بالأداة وما يفعله بالأداة. أما المستوى الثاني من الاتحاد فهو ربط للعمليات التي تحدث في الدماغ بموضوع خارجي بواسطة الخبرة الذاتية التي نسميها وعيا.
الاتحاد البدائي اتحاد عملي ينشغل به الإنسان بموضوعه.
أما المستوى الثاني من الاتحاد فهو تصوير / تمثيل للموضوع.
الاتحاد البدائي اتحاد بين جسد الإنسان وموضوع انشغاله.
أما المستوى الثاني من الاتحاد فهو اتحاد بين دماغ الإنسان والموضوع الخارجي الذي يعي به.
لكن لماذا ينبغي أن يكون الوعي نوعا من "الاتحاد"؟ وما هي طبيعة هذا "الاتحاد"؟ ولماذا ينبغي أن نسميه "اتحادا" أصلا؟
هذه هي الأسئلة الجوهرية التي ينبغي أن نجيب عنها إذا أردنا أن نفهم معنى "الثورة المعرفية" التي بدأ يختبرها إنسان إيغود، أي الهوموساپيان الأول. سأبين أن هناك أكثر من مجرد شكل واحد لهذا "الاتحاد".. وأن هناك شكلا آخر لهذا "الاتحاد" تحدث عنها هاراري هو السبب الرئيسي في انقراض حيوانات كثيرة في القارتين الأسترالية والأمريكية حوالي 40 ألف سنة من الآن!
اتحاد دموي بالعالم!
السؤال الذي سأحاول أن أجيب عنه الآن هو: ما معنى أن يكون "الوعي" نوعا من الاتحاد ب"موضوع الوعي"؟ ماذا يعني أن يكون وعيي بالأسد الذي يركض نحوي نوعا من "الاتحاد" بالعالم الذي أعي به والذي يوجد فيه أسد يركض نحوي؟ الجواب عن هذا السؤال مهم جدا إذا ما أردنا أن نفهم كيف استطاع الهوموساپيان الأول أن يجمع المعلومات ويخزنها.
لنجيب عن هذا السؤال، اسمحوا لي بأن أذكر ما قاله هاراري بخصوص إحدى النتائج الرئيسية لثورة الهوموساپيان المعرفية وهي رحلته إلى أستراليا.
حوالي 45 ألف سنة من الآن، وبفضل الثورة المعرفية التي عرفها الإنسان العاقل، استطاع هذا الجنس البشري أن يهاجر إلى أستراليا؛ نتيجة القدرة التي اكتسبها على صناعة الفلك، ونتيجة تخزينه للمعلومات عن الخبرات التي يحتاجها في الصيد وطرق استخدام المجاديف وغير ذلك من المهارات الضرورية للحياة بجانب البحر وأثناء السفر عبره.
حوالي 45 ألف سنة من الآن، استطاع الهوموساپيان الانتقال من إفريقيا وآسيا الشرقية نحو أرخبيل إندونوسيا حيث تعلم أسلوب الحياة البحرية دون أن يحتاج إلى تطوير بيولوجي مناسب لهذه الحياة. وبعد ذلك، انتقل من أندونوسيا إلى استراليا حيث كان مضطرا إلى التكيف بشكل مفاجئ مع نظام إيكولوجي جديد مائة في المائة.
كانت أستراليا عالما جديدا تماما بالنسبة للهوموساپيان. في هذا العالم الجديد سيلتقى الهوموساپيان لأول مرة بنوع من الكونڭورو وزنة 200 كيلوغرام وطوله متران. سيلتقي بالأسد المارسوپيالي الضخم الذي يشبه الفهد ويربي أبناءه في جيب مثل الكونڭورو. سيلتقي بحيوان الكوالا الذي كان أضخم بكثير من حيوان الكوالا اليوم. سيلتقي بطير أكبر بضعفين من النعامة. سيلتقي بسحليات أشبه ما تكون بالتنانين. وسيلتقي بحيوان الماموث الضخم.
كانت كل الحيوانات التي التقى بها الهوموساپيان في أستراليا (باستثناء الطيور والزواحف) حيوانات مارسوپيالية (تلد صغارا يكملون نموهم الجنيني في جيب كما يفعل الكونڭورو). لذلك، فقد كانت جديدة تماما بالنسبة إليه؛ لأنه لم يكن يعرف ما يشابهها في غابات الساڤانا الإفريقية.
المهم في كل هذا هو أن كل هاته الحيوانات انقرضت من أستراليا بضعة آلاف من السنوات بعد مجيء الإنسان العاقل لهذه القارة. والسبب هو أن الهومساپيان كان يستعملها كمصدر من المصادر الأساسية لتغذيته، ساعده على ذلك أمران اثنان: أولهما أن هذه الحيوانات لم تكن تتوفر على خوف غريزي من الإنسان الذي كان عنصرا غريبا تماما عن بيئتها (وليست كالحيوانات الإفريقية التي طورت غرائز قوية لاستشعار خطر الإنسان والهروب منه). وثانيهما أن هذه الحيوانات كانت مصدرا دسما للتغذية يوفر للإنسان كل احتياجاته للپروتينات.
وبما أن الهوموساپيان كان يستعمل النار، فإن نوع الأشجار الوحيد الذي نجا من الانقراض بسبب غزو الإنسان هو أشجار الكاليپتوس (المعروفة بمقاومتها للنار).
المستفاد من فهمنا لمساهمة الإنسان في انقراض الجزء الأكبر من حيوانات ونباتات أستراليا هو أن الإنسان يتمثَّل محيطه (يستوعبه بيولوجيا) بشكل كامل ليحوله بواسطة آلية الميتابوليزم (تحويل الكيماويات إلى عضويات) إلى جزء من جسده؛ فدخول الهوموساپيان إلى النظام الإيكولوجي الأسترالي غَيَّر هذا النظام بشكل كامل، لأنه "تمثَّل" جزءا منه تمثلا أدى إلى الانقراض الفعلي لأغلب حيواناته ونباتاته.
لكن، ما معنى "أن يتمثل" الإنسان النظام الإيكولوجي؟ لنتذكر أن طرحنا لسؤال "ما معنى" (وهو السؤال الذي تعلمناه من هايدڭر) هو الذي يقودنا في رحلة البحث عن معنى واتجاه تطور الهوموساپيان.
لنجيب عن هذا السؤال، دعونا نعود مرة أخرى إلى تحليلنا لمعنى اكتساب الهوموساپيان للقدرة على جمع المعلومات وتخزينها التي أولناها بدلالة اكتساب الإنسان للقدرة على الوعي بمحيطه.
أرجو أن تكون فكرة الوعي بصفته "مشكلة عسيرة" hard problem وبصفته "سرّا" Mystery قد أصبحت واضحة عندك عزيزي القارئ. الوعي "مشكلة عسيرة"؛ لأن علوم النيورولوجيا وعلم النفس والعلم المعرفي لا تستطيع أن تفسر كيف تتحول العمليات النيورولوجية من عمليات عصبية (ذات طبيعة مادية وموضوعية) إلى تجربة معرفية (ذات طبيعة غير مادية وذاتية). والوعي "سرٌّ" لأن التجربة المعرفية متميزة عن العمليات العصبية وموضوع الاختبار الخارجي أيضا.
صحيح أن العمليات الذهنية (كاستعمال اللغة والقدرة على التخطيط والقدرة على اتخاذ القرارات وتأويل المواضيع البصرية، إلخ) "مرتبطة" بمجزوءات modules مختلفة بالدماغ، لكن ارتباطها بهذه المجزوءات لا يعني أنها هي نفسها هذه المجزوءات. العلاقة بين الوعي وما يحدث في الدماغ أثناء اشتغال الوعي هي علاقة "ترابط" correlation وليست علاقة مساواة. ادعاء المساواة بين ما يحدث في الدماغ والوعي ادعاء كاذب بدون شك.
الحقيقة الثالثة التي ثبتت عندنا هي أن التجربة المعرفية تتكون من جزأين اثنين: أولهما المعرفة بصفتها "انخراطا في العالم" (انشغالا غير واع بالعالم، باستعمال أدوات كالإبرة في المثال الذي أعطيته)، وثانيهما المعرفة بصفتها وعيا بالعالم. يبين لنا تحليل هايدڭر أن الفرد يكون عادة "منخرطا في العالم" بالمعنى الأول، ولا يصير واعيا به إلا بعد أن "تحدث مشكلة" (كأن تخز الإبرة أصبع الخياط بالخطإ). كلا النوعين من "المعرفة" هو نوع من "الاتحاد" بالعالم: "الوجود في العالم" اتحاد بالعالم بمعنى أن الفرد لا يميز نفسه عن العالم عندما يكون منخرطا فيه. و"الوعي" هو اتحاد بالعالم بمعنى أنه إعادة إنتاج له في التجربة الذاتية.
الحقيقة الرابعة التي أريد أن أضيفها الآن هي من عالم النفس المعروف جان پياجي: نتعلم من هذا العالم فكرة لم نتأمل بعد في كل نتائجها المعرفية، وهي أن هناك علاقة بين التغذية والمعرفة. والعلاقة هي أن كليهما يتضمن آليات "تمثُّل" (أو استيعاب عضوي)... آلية التمثّل الأساسية في التغذية هي الميتابوليزم (عملية تحويل المواد الكيماوية إلى مواد عضوية بيولوجية). وآلية التمثل في اكتساب المعرفة هي تحويل مواضيع المعرفة (الأسد الذي يركض نحوي، مثلا) إلى بنيات معرفية (فكرة الأسد الذي يركض نحوي). التمثل الغذائي نوع من الاتحاد بالعالم عن طريق تحويل بعض أجزاء العالم إلى كائنات عضوية تصبح جزءا من الجسد. والتمثل المعرفي هو نوع من الاتحاد بالعالم عن طريق تحويل مواضيع المعرفة إلى جزء داخلي من وعي الفرد بالعالم.
لا غرابة، إذن، من أن الإنسان العاقل لم يستطع أن يتمثل جزءا كبيرا من النظام الإيكولوجي إلى بعد ثورته المعرفية التي تحدث عنها هاراري.
وعي الإنسان بمحيطه استيعاب ذهني لهذا المحيط. وتمثل الإنسان للنظام الإيكولوجي (الذي أدى إلى انقراض معظم أنواع الحيوانات والنباتات في استراليا) استيعاب بيولوجي للمحيط. الإنسان "يتحد" بمحيطه بآلية الوعي وآلية تمثل النظام الإيكولوجي.
لكن هناك فرق أساسي بين شكلي الوحدة هذين: في حالة الاستيعاب البيولوجي يصبح هذا النظام جزءا ماديا حقيقيا من جسد الهوموساپيان. أما في حالة الاستيعاب الذهني فإن العالم يبقى مستقلا والإنسان يتحد ب"صورة" لهذا العالم لا بالعالم نفسه. فلماذا هذا الفرق؟
عندما تقرأ كتاب Sapiens: a brief history of humankind) لهاراري، فإنك حتما ستُعجب بغزارة المعلومات التاريخية والتفاصيل الأنتروپولوجية التي يُضمّنها هذا المؤرخ الشاب في كتابه. لكن بمجرد أن تدقق في التفاصيل وتطرح سؤال "ماذا يعني أن يكون كذا هو كذا؟"، فإنك ستبدأ تشك في أن هاراري جمع معطياته الغزيرة في إطار فلسفة مضلِّلة misleading ... فلسفة تحتاج إلى تقويم جذري حتى تستطيع تحقيق الهدف الذي من أجله كتب هاراري كتابه: وهو بناء فهم شامل للهوموساپيان وتاريخه على الأرض.
بينت في ما سبق أن هاراري افترض أن الهوموساپيان عاش ثورة معرفية منذ 70 ألف سنة وأن ثورته التطورية كان قوامها اكتساب القدرة على جمع المعلومات والتواصل مع باقي أفراد جماعته وبناء متخيلات انطلاقا مما يعرفه عن العالم.
وصلنا، في تحليلنا لمعنى "اكتساب القدرة على جمع المعلومات"، إلى أن الهوموساپيان أصبح قادرا على توحيد نفسه مع محيطه بطريقتين مختلفتين:
(1) بإعادة إنتاج هذا المحيط على شكل تجربة ذاتية لا هي بالنيورولوجية ولا بالواقعية (المشكلة العسيرة عند تشارلز، "السر" عند تشومسكي(،
(2) بالميتابوليزم الذي أدى إلى انقراض حيوانات كثيرة بشكل مفاجئ في القارة الأسترالية.
تساءلنا، في آخر الحلقة السابقة، عن الفرق بين هذين النوعين من "الاتحاد بالمحيط".
سنفهم هذين النوعين من "الاتحاد بالمحيط" بشكل أفضل عندما نحلل نوعا ثالثا هذا "الاتحاد" سنكتشفه في المعطيات التي يقدمها لنا هاراري عن ثورة ثانية عاشها الإنسان يُسمّيها ب"الثورة الفلاحية".
تساؤل أخير
المثير في تحليل هاراري هو أن "الثورة الفلاحية" التي انخرط فيها الهوموساپيان حوالي 10 آلاف سنة من الآن كانت، بالنسبة إليه، مجرد خطإ كبير سقط فيه الإنسان. كيف؟ هذا سؤال مهم جدا سيكون الجواب عنه مفتاحا لفهم الشكل الثالث من "الاتحاد" بالمحيط الذي أتحدث عنه.
حدثت أول ثورة فلاحية بالنسبة إلى هاراري بين 9500 و8500 قبل الميلاد، في المنطقة التي تجمع اليوم بين الجنوب الشرقي لتركيا وغرب إيران وبلاد الشام؛ فكان أول ما تم "تدجينه" القمح والماعز حوالي 9 آلاف سنة قبل الميلاد، ثم الفاصولياء والعدس حوالي 8 آلاف سنة قبل الميلاد، ثم أشجار الزيتون حوالي 5 آلاف سنة قبل الميلاد، ثم الخيول حوالي 4 آلاف سنة قبل الميلاد، ثم الكرم حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. ومن المثير أن حوالي 90 في المائة من الكالوريهات التي يستهلكها الإنسان اليوم تأتي من ونباتات دجنها الإنسان بين 9000 و3500 قبل الميلاد كالقمح والشعير والذرة والبطاطس. فمطبخنا المعاصر لا يخرج كثيرا عن لحوم الحيوانات والنباتات التي دجنها الإنسان قبل 2000 سنة من الآن.
هل كانت هذه الثورة الفلاحية لصالح الإنسان؟ جواب هاراري هو: لا.. لأن الثورة الفلاحية جاءت بأسلوب حياة متعب بالنسبة إلى الإنسان. كل الهياكل العظمية التي تؤرخ لهذه الفترة من تاريخ الإنسانية والتي اكتشفها علماء الحفريات تكشف لنا أن الهوموساپيان كان يعاني من مشاكل صحية كثيرة، مثل انزلاق فقرات العمود الفقري والروماتيزم والفتق؛ فجسد الإنسان تطور ليتسلق الأشجار ويركض خلف الطرائد لكنه لم يتطور بشكل مناسب لنقل مياه السقي من مكان إلى آخر ولأعمال الحرث الشاقة.
ليس هذا فقط، بل إن الحياة الفلاحية جعلت حياة الإنسان أقل أمانا مما كانت عليه؛ فبمجرد أن يحل الجفاف، وبمجرد أن تهجم جحافل الجراد على حقول القمح، تحدث مجاعات تكون نتيجتها سقوط قتلى بالمئات والآلاف. فقد بينت الدراسات الأنتروپولوجية والحفرية حول القبائل الفلاحية التي ليست لها بنية سياسية أن العنف الإنساني كان سببا في 15 في المائة من الوفيات.
من سلبيات الثورة الفلاحية أيضا صراع القبائل على الأرض؛ فالزراعة تجعل امتلاك الأرض واستغلالها مسألة حياة أو موت. لذلك، فكل من يحاول السيطرة على أرض ليست له، سيجد نفسه في المواجهة مع منافسين شرسين مستعدين لقتل كل من يحاول مزاحمتهم في الأرض.
لماذا حدثت الثورة الفلاحية، إذن، ما دامت الزراعة متعبة ومسببة للأمراض وغير آمنة ومسببة للصراعات القاتلة؟ جواب هاراري هو: للزراعة فائدة بالنسبة إلى النوع البشري بصفته نوعاً بيولوجيا. وهذه الفائدة هي أن الزراعة توفر التغذية لعدد أكبر من الناس في مساحة من الأرض أصغر. ففي حوالي 13000 قبل الميلاد، عندما كان الإنسان يعتمد على الصيد والترحال، كانت واحة أريحا في فلسطين تغذي جماعة من حوالي 100 فرد كانوا يتمتعون بصحة جيدة.. لكن في حوالي سنة 8500 قبل الميلاد، عندما عوض الإنسان زراعة القمح بالصيد، أصبحت هذه الواحة تغذي حوالي ألف فرد يعيشون في قرية مزدحمة ويعانون من أمراض مختلفة ومن سوء التغذية.
وعليه، فإن الثمن الذي دفعته الطبيعة للإنسان لكي ينتقل من مرحلة الترحال والصيد التي كانت مناسبة له ولصحته إلى مرحلة الفلاحة التي كانت على حساب صحته وأمانه هي أنها مكنت الإنسان من مضاعفة عدد أفراده بشكل كبير. لم تكن الزراعة مفيدة للأفراد (بل كانت سببا في الكثير من الآلام) ولكنها كانت ضرورية لامتداد جنس الهوموساپيان.
هذا هو الشكل الثالث لاتحاد الهوموساپيان في محيطه: امتداده بتكثير نسخ من جيناته حتى ولو كان هذا الامتداد على حساب سعادة الأفراد.
خلاصة تحليلنا، إلى حد الآن، هي أن الهوموساپيان يتحد بمحيطه بثلاث طرق وهي:
1 إعادة إنتاج محيطه في تجارب ذاتية (الوعي، الوجود في العالم، جمع المعلومات وتخزينها...،
2 باستيعاب هذا المحيط بيولوجيا بآليات الميتابوليزم،
3 بالامتداد في المحيط حتى ولو كان هذا الامتداد مضرا بأفراد الهوموساپيان.
ما الجامع بين هذه الأشكال الثلاثة من "الاتحاد" بالمحيط؟ وما الفرق بينها؟ ولماذا ينبغي أن يتحد الهوموساپيان بمحيطه على هذا النحو وليس بأي شكل آخر؟
هذا، في نظرنا، هو المدخل الأكاديمي الصحيح لإعادة طرح التساؤل عن طبيعة الهوموساپيان في إطار أنتروپولوجيا جديدة واعية بمسلماتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.