محكي قصير: هزائم (37)

تصِلُ الحافِلةُ إلى محَطَّةِ القامرة مُتمايلةً، تمنيتُ لوْ يطولُ الطريق أكثر، فالظلامُ دامِسٌ والنُّعاسُ لذيذٌ، وقبل أن يَنْجَلي الغَلسُ، يكون الاستيقاظ أشبه بوليد صغير تسْحَبُ مِنهُ والدتهُ ثديَهَا، غَيْرَ أنَّ مُسَاعِدَ السائق لا ينقطعُ ضجِيجُه، فهو يتمنى لو يَغادر الكُلُّ في رَمْشَة عَيْن. وبِخُطى ثَقِيلَة يَخْرُجُ المُسَافِرُونَ تبَاعاً وَيتَثَاءَبَ الجالسُ إلى يَميني فتنْبَعِث الرائحة النَّتِنَة مِن فَمِهِ، كَتَمْتُ أَنْفَاسي وَدَلَفْتُ إلى الخارج كالهارب من زَبَد البَحْرِ.
في بَهْوِ المَحَطَّةِ أصْواتُ السَّماسِرة لا تَنْقَطِع، والناسُ مُترَاصونَ على الكراسي الخشبية وكأنهم صَرْعى، أغْلَبهُمْ غارق في سُبَاتٍ عَميق، القليلون فضَّلُوا انْتِظارَ ضوْء الصبَاح، غيْرَ أنَّ جفُونهُم تبْدُو للناظر إليها مُتْعَبَةً، ولا شيء في هذا المكان يَدْعُو إلى البقاء سِوَى مَنظر سَمَاسِرة الحافلات وَهُمْ يتقاذفون الزبائن، ويُدخنون لفائف التبغ، ويصيحون بعنف من حينٍ لآخر، أتساءلُ دائماً.. متى يَنَامُ هؤُلاء؟ فيأتي الجَوَابُ مِنْ امْرَأَةٍ وكأنها تَسَلَّلَتْ إلى دِمَاغي في لحْظةٍ انْشَغَلْتُ فيها بمُرَاقَبَة الآخرين..
- هادْ النَّاس ماكاينعْسُوش ...الخُبز صعيب آسي محمد...
لا أريدُ أن أَخُوضَ في حَدِيثٍ صباحي، وأنا لمْ أشرَب بَعْدُ قهْوَةَ الصَّبَاح، فهَرَبْتُ إلَى الْمِرْحَاض، الْمَكَان الوحيد الذي لا يُمْكِنُ لأحَدٍ أنْ يَقْرَأ أفْكَارَكَ فِيهِ، وَلَمْ تَمْضِ إلا دقائق قليلة حَتَّى عُدْتُ، لكِن الْمَرْأَةَ قَدْ اخْتَفَتْ وَحَقِيبتِي التِي تَحْوِي وثائق التَّأشِيرَة قَدْ اخْتَفَتْ أيضاً، لَمْ أتَجَشَّم عَنَاءَ الْبَحْث، فَالْمَحَطةُ كَمُخَيَّم للمُتَشَردِين، والسَّارقةُ لَنْ تَكُونَ غبيةً فَتبْقى بِداخِلِ الْمَحَطَّة أوْ بِمُحِيطِهَا. عُدْتُ إلَى رَصِيفِ الحَافلات، واخترتُ أوَّل رِحْلَة إلى مدينة أكادير، وَأَنَا أُرَدِّدُ: الخبز صعيب آسي محمد...الخبز صعيب....
الحسين أزاوو