-الشوط الأول المرة الألف – على ما أعتقد – تدحرجت كالكرة ناحية الشركة رأسي تحت و قدماي في السماء، هكذا حاولت أخيرا أن أتعلم المشي. في بعض الأحيان عندما أتمرد على أفكاري و أمشي عاديا كبقية البشر، أشعر كما لو أن العالم يسخر مني، يخرج لسانه في حركة بهلوانية و يشمت بي. وتبدو لي الصور ضبابية غير واضحة المعالم كخريطة كرطونية بللت في يوم ممطر.. تدحرجت ذلك الصباح الندى و كانت المدينة ما تزال نائمة- وباردة أيضا كجليد- بدت لي الشركة على مقربة مني بلا معالم، كل ما فيها أبواب موصدة و نوافذ حديدية تآكلت بفعل الصدأ. نظرت إلى رئسي فرأيته يتأرجح يمنة و يسرة. يأبى أن ينطلق إلى الداخل. ترددت كثيرا قبل أن اقرع بقدمي الباب. فتح لي صالح “شاوش" الباب بابتسامة عريضة و حياني بحرارة كما لو كنت ابنه. أول ما تنظر إليه تحس بالطمأنينة..هذا الرجل الصبيح الطيب، لابد أن له أولادا في مثل سني؟ لذلك كنت كلما جئت إلى الشركة يسرع في استقبالي بحفاوة بالغة ويدعو لي بالتوفيق، و يحذرني في الوقت نفسه، من شر المدير و الكلاب المحيطة به. 2- الشوط الثاني قطعت الممر الضيق المفضي إلى مكتب السكرتيرة الخاصة للسيد المدير المحترم. قرعت الباب و انتظرت و قتا طويلا حتى خلتها نسيت و جدودي. و أخيرا أدنت لي بالدخول. نظرت إلى و"مصمصت" شفتيها استخفافا و استمرت تمضغ العلك. حاولت أن أكون معها مؤدبا. حييتها و ابتسمت. لم تكلف نفسها عناء الرد على تحيتي. تأملتها عميقا فبدت لي كما لو أنها تمضغ العلك بمؤخرتها... فكرت في أكتر من طريقة لسحقها، و تخيلت نفسي أصرخ في وجهها:" أنا إنسان مثقف.. حاصل على الإجازة في الأدب العربي و دبلوم في الإعلاميات... شاعر نشرت عدة قصائد شعرية في جل الصحف الوطنية... و في سنة ... 19، لا أذكر السنة بضبط، كتبت رواية من الحجم المتوسط، وطفت بها أعرضها على المطابع ودور النشر..بعد جولات عديدة تأكد لي أنني أتواجد بسوق الجزارين. وخلال بعض التظاهرات الثقافية بالمدينة، التقيت ببعض الكتاب والنقاد- تضحكني كلمة النقاد حقا- قدمت لهم ملفا صحفيا شاملا عن أعمالي المتواضعة، وأعطيتهم عنواني ورقم هاتف صديقي. قلت لهم إنني انتظر ملاحظاتهم وتوجيهاتهم..خيبوا ظني" السفلة"، لم يتصل بي أحد منهم وأصبحت في خبر كان. نسيتهم تماما وكنت كلما قرأت إسما من أسمائهم، ألعنه في نفسي وأبصق عليه في خيالي...وفي أحسن الأحوال أمسح بالقصاصة فضلاتي..أذكر أنني رأيت أحدهم على الشاشة الصغيرة، كان يبتسم للكاميرا ويوزع الوعود مجانا على الشباب، ويعدهم بمستقبل أدبي مشرق، مر وقت طويل دون أن تحين هذه الفرصة العجيبة؟ أعادتني الفاتنة الغبية من هذياني وهي تصرخ في وجهي: طلبك مرفوض. الشركة عندها فائض من الموظفين. ومدت لي الطلب. قلت مستدركا:" لكن السيد المدير وعدني..."، ولكنها قاطعتني وصرخت على الكلاب ليخرجوني من المكتب. وأنا أعلو واهبط فوق أكتافهم العريضة الصلبة، رأيتها تمضغ العلك بعصبية وكأنها تمضغ وجودي وتقذف به وسط الأوحال والقاذورات... رفضتني الشركة لآخر مرة، ووجدت نفسي أتدحرج في اتجاه شركات وإدارات ومقاهي وحانات وشوارع... بدا لي العالم كله يمضغ العلك بمؤخرته.. ويصرخ في وجهي: من أنت؟" طز" في ثقافتك وخيالك البئيس..أنت لاشيء . لا مكان لك هنا". 3- الوقت بدل الضائع تدحرجت نحو نقطة معلومة، صرت بلا حجم: لا ذوق لي ولا طعم ولا رائحة..صرت ظلي ولا ظل لي. تقلص شكلي كقزم هرم.. وتدحرجت عابرا البر الأرضي في اتجاه البحر المائي. هذه المرة وصلت مربع العمليات وبدت لي الشركة على مقربة مني . بدت أقرب مما كنت أتصور..وتدحرجت بشكل غريب: بق..بق..بق..باق ..باق..باق.... 4- نشرة الظهيرة: في الحوادث: لفظ البحر شابا مجهول الهوية. التحقيق مستمر لمعرفة ملابسات الحادث . أطفأ المدير التلفاز ونهض لتناول وجبة الغذاء. 5- نشرة المساء: في الحوادث: عثر رجال الإنقاذ على رزمة من الأوراق في جيب الغريق: طلب وظيفة..قصائد شعرية..صورة شيخ في عقده السابع... ************************************************************************ *نشر هذا النص سنة 1989 بالملحق الثقافي للميثاق الوطني، وبجريدة الاتحاد الاشتراكي. كما اختير ضمن النصوص التي تم نشرها ب" انطولوجيا- قصص الهامش المغربي" عن منشورات نادي القصة القصيرة بالمغرب سنة 2009