عند عودة العمات و الأخوات من زيارة الخطبة و التعارف التي قمن بها لمنزل أحد وجهاء المدينة، وجدن الخطيب ينتظر على أحر من الجمر، فاستقبلهن مبتسما و متلهفا لسماع الأخبار الطيبة . بادرهن بالسؤال عن الفتاة التي تقدم لخطبتها و التي لم يسبق له رؤيتها و ذلك حسب تقاليد و عادات الأسر المغربية آنذاك . كان يعرف الكثير عن والدها السي المهدي الريفي ،أحد تجار المدينة و مالك سينما الطبيعة آنذاك ملكية مشتركة مع السي بوغالب السفريوي رحمهما الله، لكنه لم يسبق له رؤية العروس المستقبلية،لهذا بحذر و على استحياء كان يسأل عن شكلها و عن أخلاقها . أجبنه فرحات مستبشرات بانها صبية في ربيعها الخامس عشر، ذات جمال و حياء و على خلق و من أسرة طيبة و عريقة لكن يعيبها أمر واحد فقط. نظر إليهن بقلق و بتوجس و هو يستفسر عن عيبها، أجابته أكبر عماته : عيبها يا بني هو إسمها، إسم أمازيغي غريب، لا نفهمه، يصعب علينا نطقه و بالكاد نتذكره. سألهن ثانية و قد عادت الإبتسامة إلى محياه بعد ان اطمأن قلبه: ما اسمها؟ أجابته العمة و هي تعتصر ذاكرتها و تلوك لسانها : إسمها تلايتماس، و استدركت: و حتى لا ندرك معنى هذا الإسم ( لنعلم جميعنا لاحقا ان تلايتماس بالامازيغية هي البنت التي ترعى إخوتها و تنادي عليهم) هكذا ابتدأت الحكاية ، و هكذا شاءت الأقدار ان يتزوج والدي ابن مدينة القصر الكبير تغمده الله بواسع رحمته بوالدتي أطال الله في عمرها سليلة جبال الريف، فكانت له كثريا الماس في نقائها و صفاء سريرتها. أضاءت حياته و صانت بيته و كانت له رفيقة درب و عمر و رزق منها بالبنين و البنات. صاحبته في أغلب المدن التي عمل بها و تنقل بينها بدءا بتمسمان، الحسيمة،تفلت، زومي ليستقرا أخيرا بمدينة القصر الكبير. تقاسمت معه الأفراح و الأتراح و كانت له سكنا و ملاذا من ضغوطات العمل و الحياة، جمعتهما العشرة الطيبة الى ان وافته المنية و هي لم تتجاوز عقدها الرابع، لتتحمل مسؤولية و أعباء البيت و الأبناء كاملة و دون كلل أو ملل. فكانت كما يقول أهل الشام :” أخت الرجال ” كناية عن القوة و الشهامة، او كما كان يردد فقيدي دائما :” والدتنا راجل” . وفقت ببراعة ملحوظة بين دوري الأم و الأب في الآن نفسه، تسلحت بالصرامة و الشدة المطلوبتين في تدبير شؤون بيت يضم مراهقين و مراهقات، فأمسكت بزمام الأمور بقبظة من حديد و لم تترك المجال للتسيب او الانفلات او اي انزلاقات ممكنة، كما لم تنس أمومتها فأغدقت عليهم فيض حب و حنان كانا كافيان لخلف التوازن النفسي المنشود لديهم. اهتمت بتعليمهم و سهرت على استكمالهم دراستهم الجامعية دون ان تنسى قواعد التربية النسوية التي كانت تجيد تلقينها بنفسها للبنات اذ كانت حريصة على تأهيلهن لتحمل مسؤولية حياة زوجية قادمة، و هي تردد شعارها :” الدراسة لا تعفي من الأعمال المنزلية” و الكل داخل العائلة يشهد لها بذلك و يشيد به. بحكمتها أحسنت تدبير الأمور المادية . فبارك الله لها فيها و حافظت بذلك لأبنائها على المستوى الذي يليق بهم.. ثم كانت سعادتها بزيجاتهم ، الواحدة تلو الأخرى و الواحد عقب الآخر و لم تدخر جهدا أو مالا في سبيل ذلك. و لا غرابة ، فهذا موسم جني الثمار بالنسبة لها و مناسبة الاحتفاء بتوفقها في حمل الأمانة و صيانتها . لم تكن الدنيا تتسع لفرحتهأ عند كل واحدة من تلك المناسبات السعيدة التي كانت انتصارات لها و هي تتحرك داخل دارها الكبيرة المطلة على ساحة مولاي المهدي تردد مقطوعة أغنية شعبية: سعدي يا جارتي فرحي يا جارتي الفرحة كبالة علي ( الفرحة مقبلة علي) زوجت وليدي( أو بنيتي) و حيدت اللومة علي. غادر الأبناء ، و ما ظل بالبيت سوانا: أنا و هي و إبني، و اعتقدت أنه آن الأوان لتنعم بالراحة و الطمأنينة بعد مشوار قطعته و قادت فيه سفينتها كربان متمرس كان فيه النجاح حليفها في كل المهام و المسؤوليات التي تحملت. لكن القدر كان لها بالمرصاد فشاء لها ان تخوض الحروب و المعارك من جديد و ذلك حين تعرض فقيدنا عبد القادر رحمه الله لمضايقات و مشاكل مهنية بسبب فضحه للفساد، فكانت بداية الإنتكاسة لنا جميعا، و حملت ثانية هما قض مضجعها دون رحمة أو هوادة. عاشت بيننا أطال الله في عمرها و بارك في صحتها صامدة ، شامخة و أبية مثل الجبال التي انحدرت منها الى ان انكسرت مجاديفها و انكسرنا جميعنا معها بفقد فلذة كبدها بسبب اختيارات قادته لمصير محتوم وحده الله تعالى يعلم خفاياه. فكانت النكبة و الضربة القاضية، لكنها احتسبته عند الله شهيدا. و رغم كل ذلك ما زالت تضيء حياتنا و تنير عتمة الأيام الحالكة. تلك أمي …….ثريا الماس.