حالة الفوضى و عدم الاستقرار و تفشي الفقر و عجز التنمية فى مختلف أرجاء العالم العربي، نتاج طبيعي للحكم الفردى الذي أهلك الحرث والنسل، وفرض حالة من القحط العقلي والشلل الأدبى، رفعت منسوب اليأس وقلصت دائرة الأم ، وأقنطت العباد ودمرت البلاد… و المفارقة أن هذا التخريب يتناقض صراحة مع توجيهات الإسلام التي يتم لي عنقها –سلبا أو إيجابا- لتوافق رغبات و أهواء بعض السادة الحكام، فالإسلام جاء في الأساس لإخراج العباد من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، وأسس لحرية الرأي و المعتقد، ووضع قواعد عامة لتوسيع خيارات الناس على المستوى الفردي و الجمعي..و تبعا لذلك، فلا مجال لإلغاء العقل ورفض الرأى الآخر ٬و لا بد من تبادل الحجج و تفاعل الآراء للتوصل للحقيقة، ولا مكان لتكميم الأفواه وفرض وجهة نظر واحدة، و صاحب الصواب لا يهاب النقاش ،لكن المأساة تحدث من مبطل يريد بالعصا أن يخرس الآخرين، ويسلك مسلك فرعون قديما عندما قال"ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" فكانت النتيجة المنطقية لهذا الطغيان و الاستعلاء الغرق فى الدنيا والحرق فى الآخرة.. فالاستبداد السياسى "شر مطلق" لأنه يدمر كل أسباب الارتقاء والتقدم ٬ ولا تصلح الحياة برجل أو نظام يدعي العلم بكل شئ ٬ ويتهم الناس كلهم بأنهم دونه وعيا وفهما، فالأمم تصعد و تنهض عندما تسود فيها الشورى و الحكم الرشيد، تتسع دائرة العمل بمبدأ "إن رأيتم خيرا فأعينونى، وإن رأيتم شرا فقوموني"ف الدول المتقدمة والسائرة في طريق التقدم ليس فيها مكان للتفرعن و للحكم الفردي المستبد… وهذا المدخل عام يشمل مختلف البلاد العربية، و لكن بدرجات متفاوتة فحالة الحراك الشعبي التي عمت المنطقة بعد 2011 قد نجحت في توسيع حرية بعض الشعوب العربي، و أخرجتها من دائرة الحكم المطلق و أسست لقدر من حرية الرأي و التعبير.. ومن دون شك، أن هذه الشعوب ستنجح مع الوقت في إزالة أثار الحكم الفردي الاستبدادي، و ستجني ثمار التمرد على الظلم و الطغيان، لكن للأسف هذا التوصيف يصدق على بلاد الحرمين الشريفين، التى انحرفت في السنوات الأخيرة عن منهج الحق و العدل و عارضت و خالفت المقاصد و المبادئ التي قامت عليها الدولة السعودية، و الميثاق الذي تم بين أهل الحكم و أهل الرأي، فهي بحسب المؤسسين مهد للإسلام و حامية للشريعة وأحكامها.. فبعدما كانت السعودية في مخيال عامة المسلمين بلد الإسلام و الحرمين، و الأمن والسلام و نصرة المظلوم و إعلاء كلمة الأمة، أصبحت هذه الصورة تتوارى تدريجيا لتحل محلها مشاهد الدماء و الدمار و التهجير في اليمن، و اعتقال أهل الرأي و تقطيع و اغتيال المعارضين للنظام و التطبيع، مع الكيان الصهيوني والتنكر للشعب الفلسطيني و حقوقه العادلة، ودعم الأنظمة المستبدة و الثورات المضادة في بلدان الربيع العربي..كل هذه الانحرافات في السياسة السعودية تمت لخدمة النظام الحاكم،و استجابة للأجندة والإملاءات الأمريكية، خاصة في جزئية جانب حصار ايران ووقف تمددها في الإقليم في معارضة صريحة لمصالح شعب الحرمين، و كان من نتائج هذا الانحراف في السياسات أن أصبحت بلاد الحرمين تحت قصف صواريخ و طائرات الحوثيين،و عرضة لعداء الرأي العام العربي و الدولي.. فما الذي جنته السعودية من تورطها في اليمن؟ و من وضع يدها في سدنة الدولة العميقة في بلدان الربيع؟ و هل تمكنت بالفعل من حماية النظام من موجة الاحتجاجات الشعبية؟ و هل تقلص المد الشيعي أو الايراني في الاقليم؟ مبدئيا، نقدنا للنظام السعودي نابع من الخوف على بلاد و شعب الحرمين، و نابع من إدراكنا لخطورة ما يحدث في السعودية، و أن الانجراف وراء سياسات فاشلة ومدمرة لن يقتصر على بعض الخسائر في الأرواح أو الأموال بل أثاره المدمرة تتجاوز النظام السعودي لتشمل بلاد الحرمين و باقي الإقليم ،فقد سبق و أشرنا في مقالين لهما صله بمقتل "جمال خاشقجي"، أن السعودية ستدفع ثمن هذا الجرم وسيتم استغلاله من قبل أمريكا و معظم البلدان الغربية لابتزاز النظام السعودي، وقلنا في حينه أن الخروج من الورطة رهين: أولا- بعزل ولي العهد السعودي، والذي اعترف مؤخرا بمسؤوليته السياسية عن الحادث، وثانيا- القصاص منه هو وباقي المتورطين وفقا للشريعة الإسلامية المطبقة في السعودية، أما محاولات ايجاد "كبش فداء" لإنقاذ رأس ولي العهد فلن تجدي نفعا كما أنها معارضة صريحة للشريعة التي تطبقها السعودية، قال عليه الصلاة والسلام :" إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" (صحيح البخاري)، و سيظل العزل و القصاص هو المخرج الوحيد و المجدي لإغلاق ملف مقتل "خاشقجي"، و ترميم صورة النظام التي تلطخت بدماء الرجل.. و برأينا أن الإعتراف بالخطأ خير و أفضل من التمادي فيه، لأن التمادي في هذه الحالة سيكلف السعودية الكثير من الخسائر المادية والمعنوية، و سكوت النظام و محاولته استثمار مرور الوقت على أمل أن ينخفض الإهتمام الدولي بالقضية ، هو رهان خاسر و لن يجدي نفعا، كما أن الرهان على كسب دعم أمريكا و الغرب توجه فيه مجانبة للصواب، و لا يعني أن المملكة لن تستطيع التوصل إلى تفاهمات " مؤقتة" مع هذه القوى و الضغط عليها، لكن ذلك سيكون على حساب تقديم مزايا و تنازلات سياسية وإقتصادية، تضر بمصلحة الشعب السعودي، و بالأمة العربية والإسلامية ككل، لأن الجزيرة العربية ليست ملكا لأهلها، بل هي ملك لنحو ملياري مسلم، على إعتبار أن رسالة الإسلام انطلقت من أرضها، و على هذه الأرض ولد و بعث و دفن نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام و على أرضها توجد معظم المقدسات الإسلامية و في مقدمتها مكةالمكرمة والروضة الشريفة… كما أن السعودية مطالبة بالانسحاب من اليمن و تعويض الشعب اليمني عن الأضرار التي لحقت به، و ايجاد تسوية عادلة مع هذا الشعب، فالقوة الصلبة للسعودية لن تستطيع هزيمة هذا الشعب، و محاولتها مواجهة المد الايراني عبر التدخل في اليمن و مختلف بؤر التوتر فيه إهدار للجهد و الموارد، فقوة السعودية مستمدة أساسا من قوتها الناعمة، والتي تضررت بفعل السياسات الخاطئة،فالنظام السعودي "إنتحر سياسيا"، و عرض مشاعر المسلمين للأذى فعَلَمُ المملكة يحمل رسالة الإسلام و من المعيب أن يكون هذا العلم برمزيته الدينية و التوحيدية موضع شبهة أو إتهام، فأعداء الإسلام و في مقدمتهم الصهاينة الحاقدين على الإسلام و معهم حراكات التبشير و التنصير تستغل ذلك أبشع استغلال لتأكيد المزاعم المغلوطة عن الإسلام و المسلمين، و من ذلك أن هذا الدين مصدر للعنف و القتل… فالنظام السعودي مطالب بمراجعة سياساته، فلعل تداعيات قضية "خاشقجي"، و قصف الداخل السعودي و خاصة قصف "أرامكو" من قبل طائرات مسيرة "حوثية".. و ما صاحب ذلك، من خسائر مالية ضخمة وتوقف جزئي لإنتاج النفط، و هو ما كشف أن الحماية العسكرية الأمريكية غير ذات جدوى، و أن الاموال السعودية التي تدفع لأمريكا كمقابل للحماية، لو تم استثمارها في بناء اليمن و باقي البلدان العربية، لأصبحت السعودية قادرة على تغيير وجه السياسات الدولية، ولتمكنت من تغيير موازين القوى الإقليمية.. لكن هذه الأحداث المتتالية رغم سلبياتها، هي فرصة – بنظرنا- لمراجعة الذات و القيام بنقد ذاتي موضوعي للأشخاص و السياسات، و بالتالي فرصة لخروج النظام السعودي من حلف الشيطان عبر استبعاد المتورطين، و العودة إلى الحق و العدل، و الابتعاد عن الظلم و الطغيان، و الإستكبار على الضعفاء، و الخنوع المذل للأقوياء..و مقدمة ذلك، وقف العدوان على الشعب اليمني، و العمل على إعادة إعمار هذا البلد، و تضميد جروح و معاناة ملايين اليمنيين، فلعنة اليمن ستلاحق السعودية حكومة وشعبا و كل من شارك في هذا العدوان و لو بالصمت، و الانصياع للهوى تحت ذريعة مقاومة وحصار النفوذ الإيراني هو نوع من الجنون، فالحد من نفوذ إيران يمر عبر بوابة الوحدة العربية والإسلامية، فالسعودية عندما اختارت وأد الثورات العربية ، فقد أضعفت نفوذها وقلصت مجالها الحيوي، و ألحقت بأمنها القومي ضررا كبير..و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية.