زخات رعدية وتساقطات ثلجية وطقس بارد من الجمعة إلى الأحد المقبل    قتيلان في هجوم طعن ودهس بإسرائيل    إجهاض محاولة تهريب ثمانية أطنان من ميناء طنجة المتوسط    زخات قوية وتساقطات ثلجية بعدد من مناطق المملكة    انعقاد مجلس إدارة مؤسسة دار الصانع: قطاع الصناعة التقليدية يواصل ديناميته الإيجابية    الحسيمة.. انقطاع مياه الري بسبب سد واد غيس يفاقم معاناة الفلاحين ومربي الماشية    تبادل معطيات بين مكتب الصرف والضرائب يفضح شركات "العجز المزمن"    أمن طنجة يوقف أربعة أشخاص يشتبه في تورطهم في قضية تتعلق بحيازة وترويج المخدرات والمؤثرات العقلية    اشتوكة أيت باها: تعليق الدراسة غداً السبت بسبب اضطرابات جوية    بلمو يحيي أمسية شعرية ببهو مسرح محمد الخامس بالرباط يوم الاثنين    سوريا: 5 قتلى في انفجار داخل مسجد    قطاع الصحة على صفيح ساخن وتنسيق نقابي يعلن وقفات أسبوعية وإضرابا وطنيا شاملا        الليلة بالرباط.. أسود الأطلس أمام اختبار مالي لحسم التأهل مبكرا    "كان المغرب".. أسود الأطلس في اختبار حقيقي أمام مالي ومواجهة نارية بين مصر وجنوب أفريقيا    لا أخْلِط في الكُرة بين الشَّعْب والعُشْب !    تريليون يوان..حصاد الابتكار الصناعي في الصين    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    إجراءات مالية وجامعية بفرنسا تثير مخاوف تمييزية بحق الطلبة الأجانب    محكمة صفرو تدين مغني الراب "بوز فلو" بالحبس موقوف التنفيذ وغرامة مالية        "كاف" ينفي صحة أنباء توزيع تذاكر مجانية على الجماهير    توقيفات جديدة في فضيحة مراهنات داخل كرة القدم التركية    تَمَغْرِبِيتْ" وعاء سردي يحتضن جميع المغاربة    التواصل ليس تناقل للمعلومات بل بناء للمعنى    «كتابة المحو» عند محمد بنيس ميتافيزيقيا النص وتجربة المحو: من السؤال إلى الشظيّة    الشاعر «محمد عنيبة الحمري»: ظل وقبس    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    تبوريشة مغربية أصيلة    جمعية هيئات المحامين تطالب بسحب مشروع قانون المحاماة وتتهم الحكومة بالتنصل من التوافقات    أخبار الساحة    «خاوة خاوة» تطبع أول مباراة للجزائر بالمغرب منذ القطيعة الدبلوماسية    عدد من أفرادها طلبوا التقاط صور مع العناصر الأمنية .. الأمن المغربي «يخطف» أبصار وإعجاب جماهير الكان    السلطة القضائية تنضم إلى البوابة الوطنية للحق في الحصول على المعلومات    أمريكا تستهدف "داعش" في نيجيريا    الأمطار ترفع مخزون السدود بالمغرب إلى 5.8مليار م3 والثلوج ترسم خريطة بيضاء بحجم كرواتيا    إلى ساكنة الحوز في هذا الصقيع القاسي .. إلى ذلك الربع المنسي المكلوم من مغربنا    الحق في المعلومة حق في القدسية!    على هامش كأس إفريقيا.. معرض ثقافي إفريقي وأجواء احتفالية تجذب الجماهير في تغازوت    روسيا تنمع استيراد جزء من الطماطم المغربية بعد رصد فيروسين نباتيين    كان 2025 .. المغرب يرسخ دولة الاستقرار ويفكك السرديات الجزائرية المضللة    أسعار الفضة تتجاوز 75 دولاراً للمرة الأولى    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    المنتخب يحمس مطاعم ومقاهي طنجة    لاعبو المغرب يؤكدون الجاهزية للفوز    مقاييس التساقطات الثلجية خلال ال 24 ساعة الماضية    جمعية تكافل للاطفال مرضى الصرع والإعاقة تقدم البرنامج التحسيسي الخاص بمرض الصرع    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    حين تفتح سانت بطرسبورغ أبوابها ويخرج المغرب من الضوء    الجزائر تُقرّ قانوناً يجرّم الاستعمار الفرنسي ويطالب باعتذار وتعويضات.. وباريس تندد وتصف الخطوة ب«العدائية»    14 دولة تندد بإقرار إسرائيل إنشاء مستوطنات في الضفة الغربية المحتلة    إطلاق خط سككي جديد فائق السرعة يربط مدينتين تاريخيتين في الصين    الصين تكتشف حقلا نفطيا جديدا في بحر بوهاي    كيف يمكنني تسلية طفلي في الإجازة بدون أعباء مالية إضافية؟    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    دراسة: ضوء النهار الطبيعي يساعد في ضبط مستويات الغلوكوز في الدم لدى مرضى السكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ضرورة الفلسفة والتفلسف
نشر في لكم يوم 29 - 05 - 2020

تنسب لأرسطو قولة شهيرة وردت في كتابه: " دعوة للفلسفة"؛ الذي ظل مفقودا لقرون طويلة؛ مؤداها: " إما أن التفلسف ضروري، ولابد عندئذ من التفلسف، وإما أنه غير ضروري، ولابد أيضا من التفلسف لإثبات عدم ضرورته. أي في الحالتين معا ينبغي التفلسف"… والواقع أن هذه العبارة تكتسي أهمية بالغة في سياقنا الثقافي الذي لم يتمكن فيها فعل التفلسف من اقتحام الوعي الجمعي. لذلك فإن هذه الدعوة التي أطلقها أرسطو في كتابه المذكور تستنفر واقعنا وتستفزه، لأننا نعيش في بيئة ثقافية غيبت العقل والمنطق والسؤال وكل أدوات فعل التفلسف… وهكذا تحول الإشتغال بالتفكير الفلسفي إلى صك اتهام جاهز يتضمن قائمة من الأحكام القبلية التي تضع الفلسفة مرادفا للزندقة والكفر والهرطقة…
الواقع أن اتهام الفلسفة والمشتغلين بهاظل في كل مكان وزمان سوطا للترهيب والتهديد، لأنه يرتبط بسياق ثقافي واجتماعي لا يرتاح لجرأة الفلاسفة، ولا يقبل استعدادهم لتفكيك كل الخطابات ومساءلة كل البداهات… وهكذا لا تنفصل النزعة الإتهامية للفلسفة في البيئة الإسلامية عن أدبيات الخطاب الديني القروسطوي الذي اختار أن يضع الفلسفة في خانة الكفر والإلحاد (من تفلسف تزندق)…
من الواضح أننا نواجه الفلسفة بنفور غريب وحذر شديد ينمانعن ثقافة قاصرة ومنغلقة ولا عقلانية… وليس بغريب أن يعيش التفكير الفلسفي بيننا في غربة نتيجة حالة الصد الشعوري واللاشعوري التي تمنعه من ممارسة دوره في التغيير والتنوير… ومن المعروف أنالجذور التاريخية لهذا الانطباع السلبي عن فعل التفلسف تمتد الى اللحظات الأولى التي تبلورت فيها بعض ملامح العقلنة في المجتمع الإسلامي، عندما أقبل عدد من المسلمين على دراسة الفلسفة اليونانية، وخصوصا خلال المرحلة التي يصطلح على تسميتها ب"عصر التدوين"، حيثنشطت حركة الترجمة والكتابة. غير أن بذور العقلنة تلك سرعان ما أهيل عليها التراب، ليتم إقبارها في المهد؛ عندما تعرضت الفلسفة ( عفوا:العقلانية) لانتكاسة حقيقية توجها الفيلسوف الفقيه" أبو حامد الغزالي" بإصدار كتابه الشهير " تهافت الفلاسفة " الذي كتبه تحت الطلب انتصارا للمذهب الأشعري المسنود سياسيا، وتصدى فيه للفلاسفة عموما و "لأرسطو" ومترجميه من الفلاسفة المسلمين وفي مقدمتهم "الفارابي" و"ابن سينا" على وجه الخصوص.
ورغم أن الغزالي لم يرفض الفلسفة في كليتها، بل رفض مباحث محددة فيها،( حيث يؤكد في رده على الفلاسفة بأن العقل عاجز عن فهم واستيعاب القضايا الميتافيزيقية، وعلى رأسها الإلاهيات)، وهو فيلسوف فوق العادة بأسلوبه ومنهجه الجدلي والبرهاني… رغم كل ذلك إذن، فإن الغزالي "الفقيه" انتصر على الغزالي "الفيلسوف"، ونجح عمليا في تقويض الفلسفة في الشرق الإسلامي بسببمكانته الفقهية، وحرصه على تخطيء الفلاسفة، وإبطال دعواهم في كثير من المسائل التي تحدث فيها الدين من جهة، وبسبب وجود سلطة سياسية لم تحتمل هذا "الوافد اليوناني" بأسئلته وتأملاته وجرأته، ولم تسمح بتبيئته واحتضانه…. ولقد كان غرض أبي حامد في التشويش على المشتغلين بالفلسفة واضحا، حيث نقرأ في المقدمة الثالثة من كتابه ما يلي:
" ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم. فلذلك أنا لا أدخل في الإعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا دخول مدع مثبت…". وفي متن الكتاب عارض الغزالي مواقف الفلاسفة في سبع عشرة مسألة، وكفرهم في ثلاث مسائل أخرى… وهكذا كان " تفكير التكفير"هو السلاح الذي واجه الفلسفة منذ ذلك الحين إلى زماننا هذا. لذلك لا عجب أن يتنامى هذا الرفض والصد في أوصال مجتمعاتنابالشكل الذي نعيشه اليوم وبكل ما ينتجه من تطرف وانغلاق وإرهاب، مادامت الأطر المرجعية لهذا الفكر الإقصائي تجد مشروعيتها في تاريخ موت بذور العقلنة وانتصار النقل على العقل.
لقد نجح سياط التكفير إذن في طرد الفلسفة( الوافدة ) بعيدا عن عقول المسلمين. وتمت مصادرة العقل والعقلانية بسلطة مقص رقيب " الإسلام السياسي". وبالرغم من النجاح الذي عرفه الفكر الفلسفي بعد ذلك في المغرب والأندلس، والذي بلغ مستوى كبيرا مع " ابن رشد " حين رد على اتهامات الغزالي للفلسفة بكتابه المتميز في أخلاق الحوار وأدوات الإقناع :" تهافت التهافت"- بالرغم من ذلك إذن- لم تنجح الفلسفة في الوصول إلى المكانة اللائقة بها في الثقافة الإسلامية إلى يومنا هذا...
لقد أثبتت التجارب أن الموقف من الفلسفة يعد محددا أساسيا لتقدم المجتمعات أو تخلفها. و يتعلق الأمر بموقع العقل في السياقات اليومية لحياة الإنسان، فبدون إفساح المجال أمام العقلانية والتفكير الفلسفي لن ننتظر إلا مزيدا من الانحطاط والتخلف والإنغلاق. وما أحوجنا اليوم إلى إعمال العقل حينما يتعلق الأمر بالإختيار الحر، واتخاذ القرار المناسب والمسؤول، وتكسير حواجز الصمت واللامبالاة، ومقاومة قوى الممانعة، ومحاربة التطرف والإرهاب، والإنفلات من سلطة " الجهل المقدس"... دون أن يكون ذلك مجالا للمصادرة من أي أحد. لذلك ينبغي إعادة الإعتبار لفعل التفلسف باعتباره منهجا وأسلوبا في الحياة وليس ترفا زائدا.
قد يكون السؤال الأكثر ملحاحية في هذا السياق الآن هو: بأي معنى يمكن إعادة الإعتبار للفلسفة؟ وكيف يمكن بث العقلانية في المجتمع؟…أدرك أن الكثيرين يستهجنون طرح السؤالين، لأنهم لا يؤمنون أصلا بقيمة الفلسفة، ويعتبرونها " أس الزيغ والضلال"، لذلك فمجرد الحديث عن ضرورة التفلسف، هو في حد ذاته خطر؛ بالنسبة لهؤلاء؛ ينبغي مواجهته…وقد يقول قائل بأن الفلسفة مادة دراسية أساسية في المنظومة التربوية المغربية في السلكين التأهيلي والجامعي، ومع ذلك لا يبدو لها أي تأثير في السلوك الجمعي مادامت مظاهر الروح العلمية والنقدية غائبة في تفاصيل الحياة اليومية…
وفي آذان هؤلاء أهمس بأن تحقيق الطفرات يحتاج إلى كثير من الجهد والوقت، خصوصا عندما تكون العوائق متجذرة وثاوية في ثنايا الثقافة الإجتماعية المراد تغييرها وعقلنتها. لذلك يظل الحضور المدرسي للفلسفة ضروريا لبناء جيل جديد يتشبع بقيم العقلانية وإشراطاتها، لكن هذا الحضور وحده يظل غير ذي تأثير كبير إذا لم يترافق بعملية "تثوير" حقيقية للعقل في كل مجالات الحياة بدءا بالأسرة، لأننا حينما نسمح لأطفالنا " الفلاسفة" بالسؤال، نكون قد بدأنا طريق العقلنة، وحينما نعترف بأخطائنا، ونتقبل النقد، وننتصر للحوار، نكون قد نبذنا العنف، وأسسنا للتسامح والحرية والإختلاف والتعايش… وتلك هي القيم الأساسية التي لا يمكن أن نتعلمها بدون تفلسف. لذلك فالحديث عن ضرورة الفلسفة ليس مجرد دفاع عاطفي عنها، بل هو اعتراف بدورها ومكانتها في تطور العقل الإنساني والسعي نحو استكمال بناء العقل الكوني من خلال المشترك الإنساني، لذلك سيظل العدو الرئيسي للفلسفة هو التفكير المنغلق الذي يلوذ بالخصوصية لتكبيل العقل ومنعه من التحليق عاليا والتفكير بصوت مرتفع…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.