خلصنا في مقال " الصين تعزز نفوذ عملتها الوطنية "اليوان"، استعدادا لمعركة حاسمة عنوانها هيمنة الدولار الأمريكي " إلى أن السياسة الخارجية الصينية و القيادة الصينية،تتعامل باعتدال و مرونة مع قضية هيمنة الدولار الأمريكي ، فالصين تدرك الدور الذي يلعبه الدولار في العالم، و المكاسب العالية التي تجنيها أمريكا من هذه الهيمنة، وهي تعمل منذ 2008 على زيادة قوتها المالية من خلال تشجيع استخدام اليوان لتمويل التجارة، وأخر اتفاق كان بين دولBRICS، بالإضافة لتركيا ، و مع ذلك لازال الدولار الأمريكي مهيمن على نحو 81% من التجارة العالمية مقابل 9% لليوان، ومن المؤكد أن هذه النسبة ستنمو و تتسع ، لكن من الصعب إزاحة الدولار وتقوية اليوان ما لم تتبنى الصين سياسة نقدية مغايرة لما هو متبع حاليا، ومن ذلك تحرير سعر صرف اليوان و هو الأمر الذي تحاول الصين تبنيه بالتدريج، و تبني سياسات نقدية أكثر تحررا، لكن الأهم من ذلك هو توفر إرادة سياسية لدى القيادة الصينية تحديدا ، لإحلال اليوان أو سلة عملات بدلا عن الدولار الأمريكي… و هذه الإرادة تتشكل تدريجيا ، لكن القيادة الصينية تفضل عدم المغامرة و التسرع ، فأولويات الصين على المدى المتوسط ، بعيدة كل البعد عن تحدي الولاياتالمتحدة و كسر هيمنة الدولار، و بالأحرى احتلال مكانة أمريكا في النظام المالي العالمي، فأولويات الصين محلية بدرجة أولى ثم إقليمية بدرجة ثانية، لذلك من يراهن على الصين كبديل للولايات المتحدة عليه أن يتعامل بحذر مع هذا الطموح، فالصين لن تدخل في صراع مع أمريكا، ومن يعتقد عكس ذلك، فهو لايدرك جيدا عقلية القيادة الصينية التي تفكر بمنطق برغماتي/نفعي، ولا يقدر مدى حجم التحديات التي تواجه الصين… و لفهم هذه العقلية الصينية لا بد من العودة إلى الخلف و تحديدا ديسمبر 1978، فقد أصدر المؤتمر الوطني بيانا توجيهيا ترددت أصداؤه في جميع أنحاء الاقتصاد الصيني. البيان دعا إلى حل الاختلالات الاقتصادية ووضع حد ل"الفوضى في الإنتاج ، والبناء ، والتداول ، والتوزيع.." كما أعرب عن الرغبة في الحد من صلاحيات الإدارة المركزية في الشأن الاقتصادي، وإصلاح نظام البلديات ورفع مستويات المعيشة . إن هذا البيان الصادر عن لحزب الشيوعي الحاكم، شكل بحق ثورة سياسية و اقتصادية واجتماعية في الصين، تعجز أي ثورة شعبية عن إحداثها و هو ما تأكد في مجموع الثورات العربية التي عجزت عن تحقيق التغيير المنشود، لكن بيان الحزب الشيوعي فتح البلاد على تحولات عميقة، جعلت الصين تنتقل من التخلف إلى التقدم، و من الهامش إلى المركز …و اختيارنا لهذا البيان و للتجربة الصينية جاء في سياق عام محلي و دولي يهتم بالمارد الصيني لا سيما من الناحية الاقتصادية … و الغرض من هذا المقال تنوير الرأي العام العربي، وتوجيه بوصلة اهتمام الإصلاحيين و طالبي التغيير، إلى نماذج دولية استطاعت الخروج من رحم التخلف و التهميش لتجد لبلدانها مكانا تحت شمس الحضارة والمدنية و التقدم …و لسنا في حاجة إلى التأكيد على رفضنا لمبدأ "الأصينة"، على اعتبار أن العالم العربي و معه الإسلامي يتوفر على منظومة ثقافية وفكرية يمكن أن تشكل قاطرة للتغيير و الإصلاح .. لكن التجارب المقارنة تفيد صناع التغيير في أخد الدروس، و تجنب المثالب التي سقط فيها الغير. و حينما ندرس تجربة الصين الشعبية لابد أن نضع في الاعتبار أننا أمام معجزة تنموية صنعها شعب بأكمله… فهذه التجربة التنموية الصاعدة أبطلت مفعول مجموعة من الخرافات التنموية، التي شكلت و لازالت تشكل في البلاد العربية عائقا أما تحقيق التنمية بمفهومها الشامل، و هذه الخرافات يمكن إجمالها في العناصر التالية: أولا – خرافة الانفجار الديموغرافي: عندما نسمع في البلاد العربية أن معظم هده البلاد تعاني من انفجار سكاني و أن مستوى العرض من السلع و الخدمات العمومية يظل أقل من الطلب ، وبدلا من إرجاع الفشل في إشباع الطلب على هذه السلع العمومية كالصحة والتعليم و النقل …إلى سوء الإدارة و التدبير يتم في الغالب إرجاع هذا القصور إلى النمو الديموغرافي،و هو ما تبعناه بوضوح في مصر الشقيقة، فهناك خطاب رسمي و إعلامي محموم، يحمل الفشل التنموي للزيادة الديموغرافية، بل إن بعض شيوخ السلطان خرجوا عن اللياقة و المألوف، عندما قالوا بأن من لا يستطيع توفير البيت و الباءة و يدفع الزكاة لا ينبغي أن يقدم على الزواج في مخالفة صريحة للنهج النبوي و لآيات القران الكريم.. و الصين تكذب هذا الزعم، فمجموع ساكنة العالم العربي بأسره، لا تمثل ثلث ساكنة الصين، و التي تقدر بحوالي 1.5 مليار نسمة، ومع ذلك فهذه البلاد استطاعت أن تحقق تقدما جد ملموس في مجال تقديم السلع العمومية بجودة و كفاءة عالية، بل إنها تراجعت عن سياسة الطفل الواحد التي تم تبنيها في سبعينات القرن الماضي، و الصين اليوم تشجع مواطنيها على الزواج و إنجاب أكثر من طفل … ثانيا – خرافة "التنمية بالتقسيط": عملية التنمية عملية مركبة فمن غير المعقول الاهتمام بالصحة مثلا دون التركيز على نشر التعليم، أو التركيز على التنمية الاقتصادية و إهمال التنمية البشرية، و التجربة الصينية تعطينا في هذا المضمار درسا بليغا في مجال هندسة عملية التنمية و الإصلاحات الاقتصادية والإدارية المتتالية، صحيح أن البلاد تبنت مبدأ التدرج في تنزيل العديد من الإصلاحات، لكن العملية ككل خدعة لهندسة دقيقة من حيث الجدولة و الامتداد الأفقي و العمودي للإصلاحات … ثالثا- خرافة تحقيق الإصلاح بنظام سياسي و بيروقراطي فاشل: من المسلم به أن الإصلاح يقتضي حدا أدنى من الإدارة الفعالة و الإرادة الصلبة ، وهذا ما ينطبق على النظام السياسي و الحزب الشيوعي الصيني، فقيادات الحزب بعد وفاة "ماوتسي تونغ" امتلكت الجرأة و الإرادة على القيام بعملية نقد ذاتي لمسار التجربة الماوية، و تحقيق انتقال أبيض للسلطة داخل الحزب و الدولة وصعود قيادات عرفت بتوجهها الإصلاحي طيلة الحقبة الماوية، ولعل و جود قيادي ذوي قدر من النزاهة و المشروعية لدى فئات واسعة من الحزب و الشعب الصيني سهل عملية الإصلاحات اللاحقة…لذلك، فإن النظام السياسي الفاسد و الفاقد للإرادة و الشرعية يصعب أن ينفذ إصلاحات بنجاح، و هذا الأمر هو عقدة المنشار في أغلب النظم العربية التي ينخرها الفساد من القمة إلى القاع ، و حتى البلدان التي أطاحت بالنظم الحاكمة لم تنجح في تحرير النمو الاقتصادي و إطلاق عملية التنمية ، لأن الفساد لم يقتصر على النظام بل إمتد إلى فئات واسعة من المجتمع و الدولة العميقة، فالفساد أصبح دولة موازية … و لعل هذه الخرافات الثلاث هي الداء الذي يستوطن الجسد العربي منذ زمن ليس بالقصير، فشعارات الإصلاح و التغيير، رفعت منذ نهايات القرن 19 و مطلع القرن 20 ، و توجت بإقامة أنظمة و إسقاط أخرى، لكن ظلت دار لقمان على حالها، فالمنطقة العربية لا تعاني من الاستبداد السياسي و الحكم الفردي فحسب، بل إن الأمر أعمق من ذلك فبجانب الاستبداد هناك الجهل و التجهيل و إسناد الأمر لغير أهله، فآفة العالم العربي أن الحاكم يحتكر السلطة والتجارة إنه الحاكم بأمر الله وسلطته على البلاد و العباد لا حدود لها و لا راد لقضائها، على خلاف النموذج الصيني، فالحكم هناك بيد الحزب الشيوعي الصيني، نعم هناك ديكتاتورية الحزب الواحد، لكن القيادات الحزبية والسياسية يتم انتخابها من قبل أعضاء الحزب، لذلك فان المتصدرين للمشهد العام هم من خير أبناء الصين …لكن إذا رجعنا لبلداننا وجدنا أن معظم صناع القرار لا يملكون الكفاءة والأهلية لإدارة متجر فكيف بإدارة مصير شعب. فالخلل ببلداننا ليس في قلة الفرص و الموارد و لكن في فساد الرؤوس المدبرة و عجزها عن إنتاج حلول وبدائل من خارج الصندوق، و لن أجد أفضل من قول النبي محمد عليه الصلاة والسلام واصفا حالنا اليوم بقوله " إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة"،و نحن نرى بأعيننا خراب بلداننا وسيرها بعزم نحو الهاوية … و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون… أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة