يذهب كثيرون إلى استخدام عبارات أنيقة مركّبة من مفهوميْن وبين لغتيْن مثل "الجيو- سياسي" و"الجيو- بولتيكي". لكن كُنْهَ المفاهيم والنظريات ينبغي أن ينساب إلى الإدراك بلغة بسيطة مباشرة تعكس تأصيلًا لغويًا وتبيئةً دلاليةً لها. لذلك أتمسّك بأن اللغة العربية ليست عاجزة عن مواكبة تطوّر الفكر ومستجدات البحث العلمي حتى في الشؤون الدولية. عبارة "الجغرافيا السياسية" بفضل يُسرها وحصافتها تؤدي المعنى المنشود، كما قصدها الإغريق الذين نحتوا مفهومgeopolitics بأنّه "سياسة الأرض" في بعديها المادي والبشري في كتابات أرسطو وهيرودوت. وانتبه ابن خلدون إلى أهمية امتداد جغرافيا العرب بين ثلاث قارات، فكان للصحراء والطرق التجارية متعددة الاتجاهات بالنسبة لهم مع غدا أهمية البحار لاحقا بالنسبة لبريطانيا العظمى في أوج قوتها خلال القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر. ابتكر الألماني فريدريك راتزل Friedrich Ratzel مفهوم Lebensraum أو "المجال الحيوي" أو "مساحة الوجود" التي تربط المجموعات البشرية بالوحدات الجغرافية التي تتطور فيها، وأصدر كتابه الشهير "الجغرافيا السياسية" Politische Geographie عام 1897، قبل أن تجد أهميتها في دراسة العلاقات الدولية كعلم جديد في القرن العشرين. وتطور مفهوم "جيوبوليتيك" في كتابات آخرين ومنهم كارل هاوسهوفر Hawshofer Karleالذي اعتبره "العلم القومي الجديد وهي عقيدة تقوم على حتمية المجال الحيويّ بالنّسبة لكل العمليات السياسية". شدّد بيرت شابمن Bert Chapman على أنّ هذا العلم الجديد يعكس الواقع الدولي ومجموعة القوى العالمية المنبثقة عن تفاعل الجغرافيا من جهة، والتكنولوجيا والتنمية الاقتصادية من جهة أخرى، وتتسم بالطابع الديناميكي لا الثابت. وتظل الجغرافيا هي "العامل الأكثر أهميّة في السياسة الخارجية للدول، لأنّها أكثر العوامل ديمومة، يأتي الوزراء ويذهبون، وحتّى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظلّ راسخة في مكانها"، كما خلص نيكولاس سبيكمان Nicholas Speakman في أبحاثه عقب الحرب العالمية الثانية. تؤكد تداعيات الحرب الأوكرانية أكثر من غيرها من الحروب الإقليمية الراهنة تلك الدلالة الاستراتيجية للجغرافيا السياسية في القرن الجديد. هي اليوم جغرافيا سياسية مرنة إزاء مصالح الدول العظمى إذا ركّزنا على التباعد غير الاستراتيجي الرّاهن بين الجزائر والمغرب. بيد أن كثيرا من النخب السياسية المغاربية لا تستكشف مآله وزواياه الرمادية في ظلّ التنافس المفتوح بين سبعة مشاريع نفوذ بدرجات مختلفة بين طموحات روسيا والصين وإسرائيل وتركيا وإيران والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي في المنطقة. وتراهن أغلب الاستراتيجيات التي تُبحر بها العواصم الكبرى نحو مياه جنوب غرب المتوسط على الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للدول الخمس من ليبيا إلى موريتانيا، وهي بوابة طبيعية إلى بقية القارة الأفريقية، فيما يعاني المشروع الفرنكفوني انحباسا متزايدا لدائرة تأثير الإليزيه في القارة السمراء. خلال شهر يونيو الحالي، تحركت السياسة الخارجية لكل من المغرب والجزائر في اتجاهين مختلفين: استقبلت الرباط رئيس الكنسيت الإسرائيلي أمير أوحانا ووقف في منصة البرلمان تلبية لدعوة رئيسه رشيد الطالبي العلمي العضو القيادي في حزب الأغلبية الحكومية التي يتزعمها رئيس الحكومة عزيز أخنوش. في المقابل، توصل الرئيس الرئيس الجزائري عبد العزيز تبون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين إلى إبرام "شراكة استراتيجية معمقة" بين البلدين والتوقيع على ثماني معاهدات. والأهم أن الرئيس تبون دعا نظيره بوتين لدعم بلاده "بشكل عاجل" للانضمام إلى مجموعة بريكس لأن "الوضع الدولي الراهن مضطرب جدا حتى ندخل في تنظيم آخر غير الدولار أو اليورو ولكونه سيعود بالفائدة لاقتصادنا" حسب تقديره، بعد ثمانية أشهر من تقديم المسؤولين الجزائريين طلبا رسميا للعضوية. أثار وجود رئيس الكنيست في المغرب أسئلة قديمة جديدة حول حصيلة التطبيع مع إسرائيل وبالتحديد سياسة نتنياهو ومن خلفه حزب الليكود الذي يضم عددا من المتشددين من أصل مغربي، والذين يتولون المسؤولية في الحكومة والجيش والاستخبارات. وامتنعت وزارة الخارجية الإسرائيلية عن التعليق على ما تردّد عن أن حكومة نتنياهو تبحث في إعلان محتمل بالاعتراف بسيادة المغرب على منطقة الصحراء، وذلك بعد مرور واحد وثلاثين شهرا على توقيع اتفاق التطبيع الإبراهيمي بإيعاز من حكومة ترمب في 22 ديسمبر 2020. ويشارك اثنا عشر جنديا من أحد ألوية النخبة في القوات البرية الإسرائيلية "لواء غولاني" للمرة الأولى في مناورات "الأسد الأفريقي" في سبع مناطق في المغرب: أكادير وابن جرير والقنيطرة والمحبس وتيزنيت وتيفنيت وطانطان، ضمن تدريبات يشارك فيها 8000 من الجنود من ثماني عشرة دولة. وقال جويل تايلر المسؤول في القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا Africom "إن قدرتنا الجماعية على الجمع بين الدول المتشابهة في التفكير، للمشاركة في هذا التمرين أمر مثير للإعجاب حقا". لكن، ثمة أسئلة متواترة لدى الرأي العام المغربي حول حقيقة مكاسب التطبيع مع إسرائيل باعتباره استثمارا سياسيا من أجل استمالة الموقف الرسمي الأميركي. وتعتدّ دبلوماسية الرباط بأن "العلاقات الثنائية مع إسرائيل تتحسن على جميع المستويات، والمغرب قد استقبل أكثر من 12 زيارة لمسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى، وقفزت بنسبة 160% مبادلاتهما التجارية، مع زيادة بمقدار 5 أضعاف في عدد السياح الإسرائيليين نحو المغرب خلال العامين الماضيين، كما قال وزير الخارجية ناصر بوريطة في حديثه عن بعد قبل أيام إلى منتدى اللجنة اليهودية الأمريكية. AJC هناك أكثر من مغزى في ما كتبه الصديق الصحفي يونس مسكين قائلا: "سلّمنا أمرنا لوكالة صغيرة مرتبطة بواشنطن اسمها إسرائيل؟ هذا من أسباب ضعفنا وتنكبنا وعزلتنا وتجريدنا تدريجيا من أوراق تأثيرنا وحضورنا عربيا ومغاربيا وافريقيا." واليوم، تواجه سردية الاستثمار في، أو الاتكال على، اللوبي اليهوي في الولاياتالمتحدة في تعزيز مصالح المغرب تحديات في أرض الواقع، ويكبر السؤال : هل قدم هذا اللوبي اليهودي نتائج ملموسة سواء بتأكيد حكومة بايدن موقف الرئيس السابق دونالد ترمب بشأن "مغربية الصحراء"، أو "تشييد قنصلية أمريكية" في الداخلة، أو تحقيق ما اعتبره المحتفون بأنه "اعتراف القرن"؟ في المقابل، يتجه الكرملين نحو توسيع نفوذه جزائريا في غرب المتوسط، على غرار توسيع نفوذه سوريًا في شرق المتوسط. وقد أعرب الرئيس بوتين عن تقديره للدور الذي تقوم به الجزائر في أفريقيا والعالم العربي واصفا إياها بأنها "الشريك المفتاح في العالم العربي والأفريقي." تظل سياسة التحالفات مع قوة عظمى (روسيا) أو قوة إقليمية (إسرائيل) سيفًا ذا حدّين. وكما كتبتُ في مقالة منشورة سابقة "الجزائر والمغرب داخل المربّع المسموم" (7 ديسمبر 2021)، ينبغي إعادة النظر في فرضية الاتكال على العنصر الخارجي أو "الارتباطات الدولية كما فكّكها إدوار عازر صاحب نظرية "الصراعات الاجتماعية الممتدة". فهو يقول إنّ تلك "الارتباطات الدولية عادة ما يكون لها دور رئيسي ليس في ضعف مستوى الحوكمة لدى الدولة وعدم قدرة الفئات المغلوبة على أمرها على ضمان احتياجاتها الإنسانية الأساسية فحسب، بل وأيضا في مدى تبعية السياسة الداخلية وانصياعها للروّابط والإملاءات الخارجية." تزداد تحديات المنطقة المغاربية بفعل الموجة الجديدة من إنتاج العداء والمؤامرات المتخيلة بين الجزائر والمغرب، والطموحات الإسرائيلية والروسية أكثر من غيرهما، فضلا عن التنافس التاريخي حول من يقود أي وحدة مغاربية محتملة. ولا يمكن التقليل من دلالة الحاجز النفسي والسياسي بين النخب العسكرية والأمنية في الجزائروالرباط في هذه المرحلة، مما يقلص من فرص العودة إلى انفراج أو توافقات ممكنة. تزداد الخشية لديّ من أن يتمّ ربط العلاقات الجزائرية المغربية طوعيا أو يتم إقحامها داخل مربّع تكون مصالح إسرائيل وروسيا فيه الخيط الناظم والتسليم بهذا الوضع. ويكشف مجرى هذه العلاقات حاليا معضلتين مزدوجتين في القرينة بين المتغير المستقل والمتغير التابع: يصبح المغرب متغيرا تابعا بموازاة مصالح إسرائيل التي غدت المتغير المستقل، فيما تغدو الجزائر متغيرا تابعا أيضا لاستراتيجية الكرملين في أفريقيا وضمن المواجهة مع المعسكر الغربي، وتستكين مصالح الجزائر في مكانها كمتغير تابع. وقد قال الرئيس تبون في موسكو إن صون استقلال الجزائر يأتي "بمساعدة روسيا في تسليحنا والدفاع عن حريتنا في ظل ظروف إقليمية صعبة جدا." ولا غرابة أن تمثل العلاقات الروسية الجزائرية المدخل المناسب، بعد ما كانت الأزمة الليبية ومناصرة خليفة حفتر ومحور طبرق رهانا روسيا آخر على "رَوْسَنَة" المنطقة الجنوبية من غرب المتوسط. تتعطّل مَلَكَة الحوار والإنصات بين الجزائروالرباط، ويتراجع مستوى الثقة في الآخر، وتغلب صناعة العداء المتخيّل على يقينية الجزائريين بمواقف المغاربة وثقة المغاربة بجيرانهم الجزائريين. فتخرج العلاقات الثنائية من وضعها الطبيعي لقرون، وتحيد عن ثنائية التقابل واحتواء المواقف. فتصبح مصالح نتنياهو وكوشنير وشبح الطرف الغائب في تل أبيب ومصالح بوتين ولافروف في موسكو هي ما يتحكم في تعميق فجوة التنافر بين الجارين. يتفوق المشروع الروسي والإسرائيلي على بقية مشاريع النفوذ التي تركز أنظارها على المنطقة، وعلى ناصيتها تنتحر الدبلوماسية وتلطم الجغرافيا السياسية المغاربية على خدّيها في وجه تراجع قدرة دول المنطقة على التحكم الذاتي في حاضرها وتقامر بمستقبلها الاستراتيجي بكل أسف.