ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس مأدبة غداء أقامها جلالة الملك بمناسبة الذكرى ال 69 لتأسيس القوات المسلحة الملكية    الانخفاض ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    الفلسطينيون يحيون الذكرى 77 للنكبة وسط مخاوف من تكرار التاريخ    في الجزائر الانفعال سياسة دولة    بعد 3 أشهر من وضعه.. إزالة السوار الإلكتروني عن نيكولا ساركوزي وإفراج مشروط عنه    مشجعو الكوكب المراكشي يحتفلون بعودة الفريق إلى القسم الأول من البطولة الاحترافية    160 مليون درهم لمكافحة حرائق 2025.. المغرب يعزز جهوزيته لحماية الغابات    بمناسبة سفر أول فوج منهم إلى الديار المقدسة ..أمير المؤمنين يدعو الحجاج المغاربة إلى التحلي بقيم الإسلام المثلى    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    تم توقيفه في باب مليلية.. خمسيني يحاول تهريب الشيرا في بطنه    قضية مبديع.. متهم أمام هيئة المحكمة باستئنافية الدار البيضاء: لم أتلقَ أي تعليمات بشأن الصفقات    الغلوسي بخصوص المصادقة على مشروع القانون المسطرة: "هناك من يسعى لحماية المفسدين من المساءلة"    قبل استئناف تصفيات المونديال "فيفا" يُعيد خصم "أسود الأطلس" إلى المنافسة    أخنوش يستعرض الإصلاحات التعليمية    الوكالة المغربية للدم تطلق جولتها الوطنية من طنجة لتعزيز السيادة الصحية    ترامب: قطر ستستثمر في قاعدة العديد    الملك محمد السادس يهنئ باراغواي    محكمة العرائش ترفض دعوى زوج الوزيرة المنصوري وتُمهّد لاسترجاع عقارات جماعية    محطة تقوي الماء الشروب في 4 مدن    افتتاح المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي لتعزيز الإبداع والتعليم الفني بالمغرب    تنسيقية المسرحيين البيضاويين تطالب بعقد لقاء مع والي جهة الدار البيضاء سطات    أخبار الساحة    فتوى تحرم استهلاك لحم الدجاج الصيني في موريتانيا    تزايد عدد المشردين يقلص الدخول إلى مطار مدريد    ابتلاع الطفل لأجسام غريبة .. أخطار وإسعافات أولية    ارتفاع الضغط يطال 1,2 مليون مغربي    باب برج مراكش يفتح ذراعيه لتيار تشكيلي مغربي يسعى لكتابة اسمه عالميًا    الأمن الوطني يحتفل بالذكرى ال69 لتأسيسه: وفاء للمسؤولية.. تحديث مستمر.. وخدمة مواطنة متجددة    زيان يطعن في حكم الاستئناف رغم أن القرار يترتب عنه تمديد فترة سجنه    الشرطة القضائية تستدعي من جديد عزيز غالي رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    دراسة: الاحترار المناخي يهدد أوروبا بانتشار وبائي لحمى الضنك وشيكونغونيا    قيوح: قطاع النقل واللوجستيك يضطلع بدور استراتيجي في تعزيز التنافسية الاقتصادية للمغرب    فيدرالية الدواجن تفنّد شائعة الحظر الصيني وتؤكد سلامة الإنتاج الوطني    كأس الكونفدرالية... ملعب أمان بزنجبار يحتضن النهائي بين نهضة بركان وسيمبا التنزاني    بنيعيش يفتتح مهرجان الموكار طانطان لحماية وصون تراث الصحراء    أشبال المغرب في مواجهة حاسمة أمام مصر بنصف نهائي كأس إفريقيا    توقيع مذكرة تفاهم بين المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات ومركز ديفاك إنفست أفريكا للنهوض بالتنمية بإفريقيا    الموت يغيب الرابور "مول العافية"    إدريس الروخ يكشف كواليس تصوير "BAG" قبل العرض الأول    الوزيرة السغروشني تترأس مراسيم تسليم السلط بين المدير العام السابق لوكالة التنمية الرقمية وخلفه أمين المزواغي    في خطوة لدعم العالم القروي: سند مستدام ثان لبنك المغرب من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية    إحياء النادي السينمائي بمدينة مشرع بلقصيري    بريطانيا تعتزم السماح للمستثمرين الأجانب بتملك حصة 15 في المائة من الصحف    تقرير أمريكي يصنف المغرب كأفضل وجهة إفريقية لرجال الأعمال الأجانب    الاتحاد البحر الأبيض المتوسط لرياضات الكيك بوكسينغ ينتخب السيد عبد الفتاح بوهلال عضوا ضمن مكتبه التنفيذي    بولونيا بطلا لكأس إيطاليا على حساب ميلان    أسعار النفط تتراجع بعد ارتفاع مخزونات الخام الأمريكية    ترامب: أمريكا تقترب جدا من إبرام اتفاق نووي مع إيران    ثلاث ميداليات للمغرب خلال بطولة العالم للتايكوندو للفتيان / الفجيرة 2025 منها ميدالية ذهبية ثمينة :    من طنجة إلى بكين: كتاب "هكذا عرفتُ الصين" يكشف عمق الروابط التاريخية بين المغرب والصين    مشروع صيني مغربي جديد لتحلية مياه البحر يدشّن مرحلة متقدمة من التعاون البيئي    أسعار العملات الأجنبية مقابل الدرهم ليوم الخميس    الكرملين يكشف عن تشكيلة وفده للمفاوضات مع أوكرانيا في إسطنبول    دراسة: الإفراط في الأغذية المُعالجة قد يضاعف خطر الإصابة بأعراض مبكرة لمرض باركنسون    بقلم الدكتور سفيان الشاط: أوقفوا العاهات السلبيين على وسائل التواصل الاجتماعي    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    جلالة الملك يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة بمناسبة انطلاق موسم الحج    رفع كسوة الكعبة استعدادا لموسم الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد الشرقاوي يكتب: لا أريد حربا "عراقية إيرانية" بين الجزائر والمغرب
نشر في لكم يوم 30 - 12 - 2021

ثمّة قاعدةٌ متدوالةٌ في تحليل الأزمات والصراعات تقضي بقراءة مؤشّرات الإنذار المبكّر لنشوب مواجهات مسلحة محتملة. وبين الجزائر والمغرب حاليا خمسة متحوّرات سياسية سلبية: تزايدُ وتيرة التسلح لدى الطرفين، والقطيعةُ الدبلوماسية التي أعلنتها الجزائر إزاء المغرب، ورفضُ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أي مصالحة خليجية أو إدراج الخلاف مع المغرب في اجتماع وزراء الخارجية في الجامعة العربية، ودخولُ أطراف خارجية على الخطّ لتعميق هوّة الخلاف ورفع مستوى التصعيد والاستغلال الاستراتيجي للأزمة، فضلا عن سوداوية المناخ السياسي الإقليمي وتردّي الإنطباعات السلبية في الخطاب الإعلامي لكلا الطرفين، خاصة منذ قبول الرباط التطبيع مع إسرائيل في العاشر من ديسمبر الماضي.
شهدت زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس للرباط أواخر نوفمبر الماضي توقيع "مذكرة تفاهم"، هي الأولى من نوعها مع بلد عربي، لتزويد المغرب بمعدات وإجراء تدريبات عسكرية مشتركة وتعزيز التعاون الاستخباراتي. وتندرج في سياق اتفاقات أبراهام على مرامٍ إسرائيلية على المدى المتوسط والبعيد في غرب المتوسط. ويسعى المغرب لتعزيز قدراته الجوية بطائرات مسيرة وأدوات تصويب الأهداف على الأرض من إسرائيل، فيما تعتبر الجزائر، التي تظل من دول المواجهة، هذا التقارب المغربي الإسرائيلي جلبا ل"مؤامرة صهيونية" إلى حدود أراضيها.
ثمة أكثر من استفهام حول دلالة "مذكرة التفاهم" المغربية الإسرائيلية في منطقة المغرب الكبير، وكيف تنغمس العلاقات المغربية الجزائرية تدريجيا في مجازفة المعادلة الصفرية وسباق التسلح من إسرائيل وروسيا ودول أخرى. وتبني حكومة نافتالي بينيت على ما بدأه بنيامين نتنياهو في مسار اتفاقات أبراهام بأن يكون توقيع اتفاقية التعاون العسكري مع المغرب "الحدث المهم للغاية، ما سيسمح لنا بالدخول في مشاريع مشتركة والسماح للصادرات الإسرائيلية الدفاعية بالوصول إلى المغرب بكل سهولة"، كما أوضح مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية.
كلّما تدهورت علاقات الجوار بين الجزائر والمغرب، انتعشت الاستراتيجية الإسرائيلية في تمديد أذرعها العسكرية والأمنية من الشرق الأوسط والخليج إلى أبعد نقطة ممكنة في شمال أفريقيا. ويقول دوف زاخييم وكيل وزارة الدفاع الأمريكية (2004-2001) والمستشار لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن في مقالة نشرتها صحيفة "دوهيل" The Hill الصادرة في واشنطن إن "إسرائيل بعد ما يقرب من خمسة وسبعين عامًا تجد أخيرًا قبولًا في الشرق الأوسط". وتفي عبارة الشرق الأوسط في الخطاب الأمريكي المنطقة الممتدة من المغرب إلى أفغانستان.
يعتد وزير الدفاع غانتس بأن مذكرة التفاهم مع المغرب غير مسبوقة، ولم تتوصل إسرائيل إلى مثلها مع دول عربية تربطها معها علاقات أمنية وثيقة واتفاقات سلام، مثل معاهدة السلام مع مصر عام 1979، واتفاق وادي عربا مع الأردن عام 1994. ويلاحظ جمال زحالقة رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48 كيف أن الإعلام الإسرائيلي يحتفي ب "اتفاق تفاهمٍ عسكري وأمني ومخابراتي، لم يسبق للدولة العبرية أن وقّعت مثله مع أي من دول التطبيع العربي. واستبشرت إسرائيل خيرا بأن وضعت "قدما ثابتة" في منطقة شمال افريقيا، تمكّنها، كما تدّعي من محاصرة التوسّع في الوجود الإيراني في القارة السوداء."
السباق المغاربي على طريق التسلّح
تزداد وتيرة التسلح في الجزائر في ضوء ما يبدو توجها داخل مجلس الدولة الأعلى في الجزائر نحو عسكرة الموقف إزاء الجار الغربي. وقد قال الرئيس تبون في مقابلة تلفزيونية فرنسية في يوليو الماضي، إنه "لا يؤكد ولا ينفي" عزم حكومته تشييد قاعدتين عسكريتين قرب الحدود مع المغرب. وتسعى الجزائر لاقتناء معدات متقدمة مثل طائرات سوخوي 57 و34 من روسيا بقيمة 7 مليارات دولار، وهو ما ركّز عليه قائد القوات المسلحة سعيد شنقريحة خلال حضوره مؤتمرا حول الأمن استضافته موسكو في يوليو الماضي، وسط مساومات الكرملين بشأن سماح الجزائر لروسيا بالتمركز في منطقة الساحل.
يفيد موقع "أفريكا إنتليجنس" أن الجزائر وقعت صفقة لشراء اثنتي عشرةطائرة من طراز سوخوي 32، وهي نسخة من سوخوي 34 التي تبيعها روسيا، فيما تحاول أن تكون السباقة إلى اقتناء على سوخوي 57 التي لم تبعها موسكو لأي دولة حتى الآن. وتعد الجزائر أكبر مستورد للأسلحة الروسية في أفريقيا بعد مصر والسودان وأنغولا. وتشير مؤسسة "غلوبال باور" إلى أنّ الجزائر، التي أضحت في المرتبة 28 من حيث القوة العسكرية من أصل 138 دولة في العالم عام 2020، تسعى للحفاظ على مكانتها من خلال عمليات شراء متعددة لتحديث وتوسيع أجهزتها العسكرية. وقد وسعت ترساناتها من الأسلحة بنسب مختلفة: روسيا بنسبة 69 في المائة، وألمانيا 12 في المائة، والصين 9.9 في المائة.
في المقابل، زاد هذا التسلح لدى الجزائر وقرارها القطيعة الدبلوماسية مع المغرب، وتحلل جبهة البوليساريو من اتفاق إطلاق النار الذي وقعته عام 1991، في مستوى قلق القيادة العسكرية المغربية. وتحاول الرباط اقتناء نظام الدفاع الجوي باتريوت الأمريكي الصنع، الذي يشمل نظام صواريخ أرض-جو متوسط المدى مصمم لتحييد التهديدات الجوية وطائرة الاستطلاع من طراز G550 بعد أن وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على الصفقة أوائل العام، فضلا عن اقتناء المغرب خمسا وعشرين طائرة جديدة من طراز F-16 بميزانية إجمالية قدرها 2.8 مليار دولار، وأربعا وعشرين هليكوبتر جديدة من طراز Apacheattackبقيمة 1.6 مليار دولار. وقد طلبت القوات المسلحة الملكية المغربية تخصيص 9 مليارات دولار لشراء خمس وعشرين طائرة F-16، و36 مروحية أباتشي ستساعدها على تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية. وتخطط الرباط لامتلاك ثمان وأربعين طائرة من طراز F16 في المجموع، تكون مجهزة برادارات من الجيل الخامس، وست وثلاثين مروحية أباتشي بحلول عام 2028.
يعزو المغرب هذا التسلح إلى احتراسه من كون الجيش الجزائري يملك منظومة S-300 الروسية. ويعلق أهمية خاصة على الاتفاقية العسكرية الاستراتيجية التي وقعها مع البنتاغون، يستمر سريانها حتى عام 2030. وثمة مؤشر آخر على تزايد التصعيد جاء ضمن تقرير صادر عن استخبارات الدفاع الاستراتيجي Strategic Defense Intelligence، وهي مؤسسة أبحاث في مجال التكنولوجيا العسكرية، يفيد أن "المغرب يستعد ليصبح الجيش الرائد في أفريقيا عام 2022 بفضل ما يقتنيه من معدات متقدمة، وهو استشراف يرجح احتمال أن يغدو أقوى جيش في أفريقيا بما يتجاوز مرتبة الجيش الجزائري."
وضعٌ جديدٌ قديمٌ في التنافس والتهافت على أحدث الأسلحة والمعدات المتقدمة الممكنة من الدول العظمى، وهو مشهد يعيد إلى الذاكرة حروب السبعينات بين بعض الدول المضطربة في أفريقيا وأمريكيا اللاتينية. لكن الأهم هو إلى أين ستنتهي كرة التسلح المتدحرجة بين البلدين الجارين وتحالفاتهما الإقليمية والدولية؟
يميل الرأي السائد في أدبيات سباق التسلح إلى أن الأسباب الخارجية تفسر سباقات التسلح التي تتفاعل فيها الدول مع التهديد الذي يشكله تكديس أسلحة الخصم. وعلى سبيل المثال، يقول باري بوزان وإريك هيرينغ في كتابهما"ديناميكية الأسلحة في السياسة العالمية" The Arms Dynamic in World Politics إن "الافتراض الأساسي لنموذج الفعل ورد الفعل هو أن الدول تعزز تسليحها بسبب التهديدات التي تتصورها من الدول الأخرى. وتشرح النظرية المتضمنة في النموذج ديناميكية الأسلحة على أنها مدفوعة بشكل أساسي بعوامل خارجية عن الحالة."
في الوقت ذاته، لا تزال دراسة الراحل صموئيل هنتنغتون واحدة من أكثر الأعمال تأثيرًا وقراءة على نطاق واسع في سباقات التسلح. فبعد تحليله ثلاثة عشر من سباقات التسلح، حدّد مجموعتين من العلاقات بين سباقات التسلح والحرب:"أولاً، هناك علاقة عكسية بين طول سباق التسلح واحتمال أن ينتهي بالحرب. هذا لأن نقطة الخطر، وأحيانا نقطتين، تحدثان في بداية كل سباق. بمجرد أن تبدأ الدولة تحديًا من خلال إطلاق عملية الحشد، يجب على الدولة التي تواجه التحدي أن تقرر ما إذا كان يمكنها الحصول على حلفاء و/أو نشر أسلحة كافية لاستعادة التوازن العسكري السابق. إذا وجدت الدولة المعادية أنها لا تستطيع، فقد تستنتج أن شنّ حرب وقائية هو أفضل خيار لها."
الجوار المنكسر، والمربع المسموم
تجسد القطيعة الدبلوماسية التي أعلنتها الجزائر ومنع الطائرات المغربية من التحليق في أجوائها منحدرا غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين. وتنشر صحيفة "لكسبريسيون" في باريس مقالات متعددة تشير إلى أنّ"الموساد بات قريبا من الحدود الجزائرية، ما سيخلف عواقب جيو-سياسية وخيمة على أمنها." فوصل الجوار الجزائري المغربي خريف السياسات المتنافرة وإنتاج العدائية المتبادلة بشكل متواتر، فيما يغلب منطق التشنج وتضيع البوصلة بفعل التشبع بضرورة التسلح والقطيعة والترويج لخطاب "صراع وجودي"، في جوار سرمدي أزلي بحمرة الأرض وزرقة البحر وصفاء السماء المشتركة، وإنْ انتفختْ أوداج الأنفة السياسية في الجزائر والرباط.
يساهم انغلاق قنوات الحوار بين الجزائر والرباط بشكل سلبي في تباين التأويلات وتضخيم المؤامرات المتخيلة أكثر من حقيقة المواقف المتبادلة. ويجسد الموقف الراهن بين الجارتين مدى الانغماس اللاعقلاني في منطق المحاور المتقابلة، وما يدور في خلد النخب السياسية والعسكرية بأنه "جوار ميت". ويرتفع مستوى التسلح، وتدخل مواقف التصعيد مرحلة التلويح بالعدائية المفترضة وإسقاطاتها غير الواقعية أكثر من طبيعة التهديدات القائمة، وفسح الطريق أمام استراتيجية إسرائيل، أكثر من أي قوة اقليمية أو دولية، في المنطقة. ويفاخر الموقف الرسمي الإسرائيلي بمقولة "إسرائيل والمغرب شريكان مهمّان في المحور البراغماتي الإيجابي، مقابل المحور المعاكس الذي تشارك فيها الجزائر وإيران".
على هذا المنوال، يزداد التحفيز الإسرائيلي على إنتاج نظام عداء سوداوي جديد، وبالتالي نفخه في وسائل الإعلام لدى الطرفين: "محور مغربي إسرائيلي" يعتبره الجزائريون تهديدا مباشرا لسيادتهم واستقرارهم، مقابل "محور جزائري إيراني" ترسمه الاستراتيجية الإسرائيلية ويتشبع به جل المغاربة على أنه تهديد "حقيقي" لسيادتهم واستقرارهم. هي محاور عداء بديلة ومنصات صراع محتملة إذا تغرست مشاعر الريبة المشتركة عميقا بين الجزائريين والمغاربة، وازداد تخندق النخب العسكرية والأمنية نفسيا وذهنيا في"مؤامرة" الطّرف الآخر. وكما هو الحال عند انغماس أي طرف من أطراف النزاع في التفكير العدائي، يميل ميزان الأحكام المعيارية نحو استعراض "مكارمنا ومحاسن سلوكنا" مقابل التلويح ب"خطاياهم ورذائلهم" ضمن معادلة "الذات الملائكية" ضد "الآخر الشيطاني" بإنتاج سرديات الاختلاف المتخيلة كإسقاطات تلقائية على ميزان العداء والتقابل غير المتوازن.
يلاحظ عدد من علماء النفس الاجتماعي وفض الصراعات وجود قرينة بين إنتاج العداء وتعزيز تماسك المجموعة خاصة في حقب التحديات الداخلية. فأوضح سيغموند فرويد في ورقته الشهيرة ، "لماذا الحرب"، لألبرت أينشتاين أنه من أجل تماسك المجتمع، فإن تحديد المجموعة الخارجية أمر بالغ الأهمية. ويجادل فرويد بأنه يمكن لأعضاء المجموعة إزاحة عدوانيتهم ، وبذلك، فإنهم يحرفون الدوافع المدمرة التي كانت موجهة في الأصل نحو أعضاء مجموعتهم إلى الخارج."
القطيعة العبثية في جوار استراتيجي
رغم وجود منطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين الشمالية، لم تمت الدبلوماسية يوما، ولم تتجمد الحدود في ما يعتبر أخطر منطقة في العالم. ورغم القطيعة بين بيونغ يانغ وسيول وواشنطن بسبب تداعيات الحرب الكورية منذ 1953، تتحرك الدبلوماسية من حين لآخر ضمن بعثات وساطات من قبل بعض الشخصيات مثل الرئيس الأسبق بيل كلنتون لإطلاق سراح صحفيين كانوا محتجزين في بيونغ يانغ. غير أن وضع شبه الجزيرة الكورية لا يتفوق على بدعة جديدة متنامية حاليا في منطقة المغرب الكبير. فقد ذهب الرئيس تبون أبعد مما تنزع إليه راديكالية الحروب الباردة، وتمسك بأن "الجزائر لا تقبل أي وساطة مع المغرب، ورفضنا إدراجها في المؤتمر الوزاري لجامعة الدول العربية."
هي حلقة أخرى في سلسلة التنكر لواقع الجوار الاستراتيجي والارتباط التاريخي وبقية الروابط الثقافية والمجتمعية وحتى القواسم المشتركة في تحديات التنمية في البلدين. هناك قرار قطع العلاقات مع المغرب، ومنع الطيران المدني والعسكري المغربي من التحليق في الأجواء الجزائرية في الأسابيع القليلة الماضية. ولكن تشبع الرئيس تبون، ومن خلفه أعضاء المجلس الأعلى للأمن، بهذا الرفض لأي مبادرة عربية لرأب الصدع في العلاقات الجزائرية المغربية لا يدل على حكمة سياسية وطنية أو بعد نظر دبلوماسي، ولا عن حسّاستراتيجي يحفظ ماء الوجه، بقدر ما ينمّ عن تشنج وانفعال غير عقلاني بسبب ما يبدو صدمة كبرى متخيلة منذ عقود.
يبرّر الرئيس تبون قراره وأد أي وساطة عربية بأنه "لا يمكن المساواة بين الجلاّد والضحية، ونحن قمنا برد فعل على عدوان متواصل منذ استقلالنا عام 1962، ولسنا السبب في ذلك". ويبدو أن القيادة الجزائرية لم تعد تتعامل بموضوعية الوقائع، وإن كانت هناك تظلمات جزائرية من المغرب، وأخرى مغربية من الجزائر، سواء بسبب حرب الرمال عام 1963، أو طرد 45 ألف مغربي من الجزائر صباح عيد الأضحى عام 1975، أو بقية المنحدرات والمرتفعات في علاقات الجوار خلال العقود الستة الماضية. وهذه أمور متوقعة في علاقات أي دول متجاورة في الزمان والمكان. ولكن حسابات الرئيس تبون اليوم تستثمر في سردية "العدائية الكبرى" في منحاها التخيلي وشيطنة المغرب بكافة التهم الجاهزة، وتجمح في هذا الاتجاه دون تريث أو تقدير نحو عصبية التطرف السياسي.
لا يتنكر رجال السياسة عادة لأهمية الدبلوماسية حتى في أحلك الفترات المتأزمة. وثمة دوما قرينة عضوية بين تدبير العلاقات الدولية والمنحى الدبلوماسي كخيار طبيعي واستراتيجي في المحصلة النهائية إذا أخذنا بعين الاعتبار تداعيات المواجهة المسلحة على كل الأطراف. لكن الانجراف نحو القطيعة الدبلوماسية وإغلاق الباب على أي وساطة عربية محتملة لا يجسدان الحكمة أو التفكير المتنور ببرغماتية السياسة وعقلانية الدبلوماسية.
انتحار الدبلوماسية
لا يزال قرار القطيعة الدبلوماسية التي اتخذته الجزائز إزاء المغرب في الرابع عشر من أغسطس الماضي يثير استفهامات عدة في فهم ما فيه من أسباب منطقية أو غير منطقية. وقد عزا وزير خارجية الجزائر رمطان لعمامرة القرار إلى تسعة تبريرات تتراكم فوق بعضها بفعل وتيرة الانطباعات السلبية المتوالدَة في شيطنة الجار المغرب، وتتعقب ثمانية وخمسين عاما من علاقات جوار متقلب الأطوار بداية بتداعيات حرب الرمال عام 1963، ولوم مندوب المغرب في الأمم المتحدة عمر هلال على "انحراف خطير جدا وغير مسؤول" بسبب حديثه عن "حق تقرير المصير لشعب القبائل الشجاع". وثمة مآخذ أخرى من أهمها انزعاج الجزائر مما تعتبره "تعاونا بارزا وموثقا" بين المغرب ومنظمتي "ماك" و"رشاد"، وقناعتها بحدوث "عمليات تجسّس كثيفة تعرض لها مواطنون ومسؤولون جزائريون من قبل الأجهزة الاستخباراتية المغربية" من خلال استخدام تكنولوجيا بيغاسوس الإسرائيلية"، ونهاية بإسقاط شبح "مؤامرة إسرائيلية مغربية" بما أسماه السيد لعمامرة "قيام السلطات المغربية بمنح موطئ قدم لقوة عسكرية أجنبية في المنطقة المغاربية وتحريض ممثلها على الإدلاء بتصريحات كاذبة وكيدية ضد دولة جارة"، كناية عن تلويح وزير خارجية إسرائيل يائير لابيد بوجود "تعاون جزائري إيراني" خلال تصريح أدلى به في المغرب.
تسعةُ محاورَ تبريريةٍ اجتمعت في تصريح لعمامرة وفق مقولة "ما أفاض الكأس" على ما يبدو، بمنطق انتقائي متدرج في تركيب السببية الكبرىmeta-causality لإعلان القطيعة. وتبدو بمثابة "كاتالوج" جديد لأصناف قديمة وأخرى مستحدثة لهذه السببية المركّبة بالجملة من أجل عزلة دبلوماسية قد تتجاوز في حدّتها، حسب تقديرات بعض النخب العسكرية والأمنية في الجزائر العاصمة، ما انطوت عليه القطيعة التاريخية بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، أو ديناميات حرب باردة إقليمية مسكوت عنها، أو ما يستدعي إقامة منطقة منزوعة السلاح في المستقبل.
يتجاهل قرار الجزائر القطيعة مع المغرب اليوم بشكل جارف حقب الانفراج والتعاون بين الجارين، كما كان الحال في فبراير 1989 عندما كان الراحل الحسن الثاني الداعي والراعي إلى محادثات اتفاقية مراكش بحضور الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، إلى جانب معمر القذافي وزين العابدين بن علي وأحمد الطايع، للتوقيع على اتفاقية قيام الاتحاد المغاربي، وإن خيم الصراع على الصحراء وقتها بظلاله على العلاقات بين الرباط والجزائر العاصمة.
لكنه حاليا ميزانٌ مكسورٌ بوجود كفتين لا تتقابلان، وفشلٌ غير معلن في التواصل المنشود والتفاعل وجها لوجه الذي ينبغي أن يكون خلال حقبة التصعيد بين أطراف الأزمة. فهذه جزائر تلوّح بأن "آخر هذه الأعمال العدائية تمثل في الاتهامات الباطلة والتهديدات الضمنية التي أطلقها وزير الخارجية الإسرائيلي خلال زيارته الرسمية للمغرب، بحضور نظيره المغربي، الذي من الواضح أنه كان المحرض الرئيسي لمثل هذه التصريحات غير المبررة." وهذا مغرب يتعهد لأشقائه في الجزائر "بأن الشر والمشاكل لن تأتيكم أبدا من المغرب، كما لن يأتيکم منه أي خطر أو تهديد لأن ما يمسكم يمسنا، وما يصيبكم يضرنا."
تزداد تحديات المنطقة بفعل الموجة الجديدة في إنتاج العداء والمؤامرات المتخيلة، والطموحات الإسرائيلية، فضلا عن التنافس التاريخي حول من يقود أي وحدة مغاربية محتملة. ولا يمكن التقليل من دلالة الحاجز النفسي والسياسي بين النخب العسكرية والأمنية في الجزائر والرباط في هذه المرحلة، مما يقلص من فرص العودة إلى الانفراج والتوافقات الممكنة. ومما يعزز هذه الخشية لديّ أن تدخل العلاقات الجزائرية المغربية طوعيا أو يتم إقحامها داخل مثلث تكون إسرائيل أحد أضلاعه والتسليم بهذا الوضع. وقد كشفت هذه الأزمة أن مجرى هذه العلاقات أصبح مجرد متغير تابع بموازاة مصالح إسرائيل التي غدت المتغير المستقل.
تتعطّل مَلَكَة الحوار والإنصات بين الجزائر والرباط، ويتراجع مستوى الثقة في الآخر، وتغلب صناعة العداء المتخيّل على يقينية الجزائريين بمواقف المغاربة وثقة المغاربة بجيرانهم الجزائريين. فتخرج العلاقات الثنائية من وضعها الطبيعي لقرون، وتحيد عن ثنائية التقابل واحتواء المواقف. فتصبح لعنة نتنياهو وكوشنير وشبح الطرف الغائب في تل أبيب هما اللذان يتحكمان في تعميق فجوة التنافر بين الجارين. هكذا تنتحر الدبلوماسية وتلطم الجيوستراتيجيا المغاربية على خديها بعد أن فقدت قدرة التحكم الذاتي في حاضرها ومستقبلها بكل أسف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.