النصيون القطعيون ليسوا تيارا ظهر في قرون خلت، بل هم أحياء يرزقون يعيشون معنا اليوم في العشرية الثالثة للقرن الواحد والعشرين. وكما لو أنه يكفي أن يقولوا لنا أن النص القطعي خط أحمر ليقنعونا بجدارة ما يقولون، ونوقف كل كلام، بل ونمحي بجرة قلم تاريخنا. فإذا كان السياسي لا يمكنه أن يكون جديرا بهذه المهمة النبيلة إلا إذا كانت كل تصوراته وأعماله مستحضرة للأبعاد الاجتماعية في ذلك، فإن السياسة تصبح في هذه الحالة فاقدة لكل قيمها ودلالاتها في الجواب عن حاجيات ومتطلبات واقعها. إن أطروحة النصيين القطعيين ترتكز على دعامتين أساسيتين تعمل على إخفائهما وراء عبارة الهروب إلى الأمام، "لا اجتهاد مع نص قطعي"، من جهة التبجيل المُغالى فيه للرجال وأدوارهم في الإنفاق على النساء والتكفل بهن، ومن جهة أخرى التبخيس المغالى فيه أيضا للنساء لكونهن "عالة" على الرجال. هذه الأطروحة هي التي ستبنى عليها القوامة وما يترتب عن ذلك من حقوق للرجال على حساب النساء. إن الأبوية البشرية قد وضعت الرجال على عرش يكاد يحاكي ما جاءت به الأديان عن الإلاه، وهذا أمر غير طبيعي بالخصوص عندما نحاول إزالة غشاوة الأبوية عن عقولنا، فعيوننا تصبح ترى أشياء لا نتخيلها، ابتداء من الأسرة، فالشارع، في المحطة الطرقية والمطار و.و.و…، إن النساء يقدن حقيقةً حياةَ الإنسانِ، ولهن جرأة غير موجودة غالبا عند من وضعناهم على رؤوسنا ليدفنونا تحت الأرض. فمعظم الرجال لا يعرفون كيف يحافظوا على صحتهم إلا من رحم ربك. إن العزاب منهم بجميع أصنافهم، الذين لم يسبق لهم أن تزوجوا، أو الذين سبق وأصبحوا مشردين على عروشهم يعمهون في حياتهم. لم يعد من الممكن دعم أطروحة تنبني على قوة صنعها العقل الأبوي البشري، والسماء منهم بريئة لأنها لم تخلق لا عبيدا ولا سادة. فكفى تبجيلا لهذا المخلوق الضعيف رفقا به، ودعوه ينعم بالجزء "الأنثوي" فيه. إن الاعتقاد بأن الرجال يتفوقون على النساء بإنفاقهم عليهن أصبح من باب الأوهام وقصر النظر التي لا يزال يبتلي بها العقل الذكوري. في الوقت الذي نرى فيه أن المجتمعات قد أصبحت متبصرة أكثر فأكثر لقيمة العمل الأسري للنساء، وعلى الخصوص منهن اللواتي اخترن هذا الشكل من الحياة الأسرية سبيلا، حد المطالبة بالاعتراف به من لدن الاقتصاديات النسائيات عبر العالم، ضمن المكونات المادية واللامادية للناتج الداخلي الخام. وهو ما تعترف به بعض تجارب البلدان الإسلامية الشيعية منها على الخصوص. هذا علاوة على أن نسبة الأسر التي تُزاوج النساء فيها بين العمل الخارجي والعائلي، والأسر التي تعيلها نساء وحدهن لا تتوقف عن الصعود. فأين نحن من إنفاق الرجال على النساء الذي يعطيهم الحق في أن يكونوا مبجلين؟ وهذا الكلام ينسحب على كل الطبقات الاجتماعية، فالنساء الفقيرات والقرويات هن أكثر من ينفق على الرجال اليوم ببلادنا، ولذلك فاستحضارهن عند وضع القوانين وسياسات الشغل والتغطية الاجتماعية مسألة إحقاق العدالة وشرط لنجاح هذه السياسات. وبشكل عام، فما تقوم به النساء اليوم، ليس بالمدينة فحسب، ولكن وعلى الخصوص في البادية، في الإنتاج وإعادة إنتاج قوة عمل الرجال، إذا ما اتبعنا المنطق الأبوي في تقدير قوتهن، فسوف تصبح لهن حقوق أكبر من تلك التي للرجال. ولكن النسائية ليست ذكورية معكوسة، أو على الأقل لا يجب أن تكون كذلك، لأنها مقاربة نقيضة للنظام الأبوي تسعى إلى مساواة أكثر إنسانية وأكثر رحمة بالطبيعة وبما تحمله من كائنات حية وغير حية، فهي لا تطمح إلا للمساواة بين الرجال والنساء على أساس العدالة في الفرص والإمكانيات والاختيارات. إن النسائية في مساعيها لا ترمي إلى تعويض تبجيل الرجال بتبجيل النساء، بل أنسنة العلاقة بينهما بتقدير ما تقوم به النساء حق قدره، أي الاعتراف لهن بما يقمن به لفائدة الأسر والمجتمع. ولنا في تاريخ بلادنا ما يدعم أن قوة الواقع الاجتماعي وضرورة حضوره عند وضع القانون، أكبر مما يُدَّعى في قطْعية النص. فقد عُمل بالمغرب باجتهادين أصبحا معروفين اليوم بل ومعمول بهما في بعض الاجتهادات القضائية، وهما حق النساء بناء على الكد والسعاية بالنسبة لأهل سوس، وحق الشقا بالنسبة لأهل اغمارة بشمال المغرب. هي عبارات لمفهوم واحد لنظام مالي خاص بالحقوق المالية للأسرة. ويتعلق الأمر في ذلك بتناسب قيمة الحق المالي مع حجم المجهود المبذول، في حالة الطلاق أو الممات لا فرق في قسمة الممتلكات المتراكمة أثناء الزواج على أساس الجنس إلا ما قدم كل واحد منهما إما جهدا أو مالا أو بهما معا. وحق الشقا كما أفتى به ابن عرضون لم يكن عرفا ولكنه استند على عرف عُمل به ويتعلق بقسمة المحاصيل حسب جهد العمل بغض النظر عن العلاقة الأسرية وعن جنس من عمَلَ. " يدقق المهدي الوزاني ( 1850-1923) في هذه القسمة: الذين يعملون في القمح ( والزيتون والعنب)، لكل واحد الحق في قسم منه، كل حسب عمله، وما تبقى فهو ميراث الهالك يقسم على الورثة وفق التعاليم القرآنية الظاهرة. وهكذا فللزوجة الحق في قسط مضاعف: على اعتبارها عاملة ساهمت في الخدمة في الحقول، وكوارثة شرعية". ويعتبر السوسيولوجي عبد الصمد الديالمي فتوى أحمد ابن عرضون ( 1538-1585 ) لا تستند على أي عرف ولا تبرره، ولذلك فهي أكثر جذرية من فتوى أخيه محمد ابن عرضون الذي قصرها على تناسب الخدمة فحسب بناء على العرف السائد آنذاك، بينما أحمد ابن عرضون فلقد خص بها المرأة عند الطلاق أو الوفاة. حق الشْقَا أو حق الكد والسعاية عُرِف وعُمِل به في القرن السادس عشر ميلادي في مناطق من المغرب للنساء فيها خاصية العمل داخل وخارج البيت. بل إن قبيلة اغمارة في منطقة اجْبالة بشمال المغرب التي ولد فيها الفقيه والقاضي أحمد بن الحسن ابن عرضون صاحب فتوى حق الشقا، تتميز بكد النساء أكثر من الرجال بشكل لا يزال مستمرا حتى الآن، وباختلاط بين الجنسين عريق في هذه البلاد. فالجبلية منخرطة بشكل قوي في الإنتاج الاقتصادي المعتمد على الفلاحة المعاشية والرعي والصناعة التقليدية الخزفية والنسيجية. كما أن ظاهرة تعدد الزوجات منعدمة تقريبا في هذه المنطقة. هذا الواقع الاجتماعي أدى إلى اجتهادات فقهية للفقيه ابن عرضون بمنطقة الحوز بقبيلة بني سالم التابعة حاليا لإقليم شفشاون، علاقة بالإرث والتوزيع المتساوي للمكتسبات المادية للأسرة عند الطلاق. واستنادا على ما جاء به الميلود عكواس في حكم حق الكد والسعاية، يمكننا القول إن نَظْمَ الفقيه عبد الرحمن الفاسي في هذا الباب يبين الفرق بشكل جلي بين أهل اجبالة وسوس وأهل فاس: وخدمة النساء في البوادي للزرع بالدِّراس والحصاد قال ابن عرضون لهن قسمة على التساوي بحساب الخدمة لكن أهل فاس فيها خالفوا قالوا لهم: في ذلك عُرْف يُعرَف وابن عرضون باجتهاده هذا لم يكن خارجا عن السنة ولا عن المذهب المالكي كما أكد على ذلك العديد من الدارسين له من الزاوية الفقهية. يقول رشيد قباظ في مقالة مقتضبة حول مؤلف ابن عرضون "مقنع المحتاج في آداب الزواج" (1565) منشورة في صفحة الرابطة المحمدية للعلماء للمملكة المغربية، وهي مؤسسة دينية، "يعد كتاب «مقنع المحتاج في آداب الأزواج»، لأبي العباس أحمد بن الحسن ابن عرضون(ت992ه)، من أجَلِّ كتب المالكية المؤلفة في فقه الزواج، وتكمن أهميته بالنظر إلى كون صاحبه من أشهر علماء المغرب في القرن الهجري العاشر، ..."، بل كان مجتهدا عدلا لم يتحجج بقطعية النص، بل كانت حجته الأساسية رفع الظلم عن النساء الذي يشكل الأساس الأعظم عنده. ومن الزاوية السوسيولوجية، يقول عنه عبد الصمد الديالمي أن ابن عرضون نسائي ومصلح رغما عنه بجعله العمل كسياق اجتماعي في صلب مهام الفقيه المجتهد. إن هذا لتاريخ يجب الافتخار به لما يحبل به من نفحات التنوير العقلاني في تراثنا. لكن سيادة الفكر الذكوري في الفقه وقانون الأسرة بالمغرب تلف العقل المغربي بغشاوة قطعية النص، لِتلتفَّ على هذا الاجتهاد المستنير الثوري في زمن عرف المجتمع تحولات جذرية في باب عمل النساء، بتقزيم هذا الحق في مدونة الأسرة باتفاق اختياري بين الزوجين خارج عقد الزواج، وزاد الطين بلة عندما وضع سلطة البث في ذلك للقضاة المعروف معظمهم بالمحافظة وهو ما ترك المادة 49 رسالة ميتة. إن النصيين القطعيين اليوم تجليٌ كبيرٌ لأزمة العقل المغربي العميقة العاجزة عن النفوذ إلى الجوهر القيمي والمنطق الاجتماعي الذي تبنى عليه الأحكام. فهل سوف يحضر العقل المتبصر ليرفع الظلم عن النساء في مدونة الأسرة المقبلة، بجرأة تتناسب وتطور المجتمع المغربي ودور النساء فيه بما يليق بمغرب العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين؟