في بلد تحكمه طغمة عسكرية طاغية وغني بالغاز والبترول، كثيراً ما تختلط فيه السياسة بالكوميديا والاقتصاد بالمآسي. ترى شعبا كأنه جمهور يتفرج، ويصفق حيناً ويبكي حيناً آخر، بينما السياسيون على الخشبة يؤدّون أدواراً لا يعرفون نهايتها. ولعل الجزائر، بما فيها من موارد باهظة وثروات طائلة، تصلح أن تكون نموذجاً تراجيديا يُدرَّس في فلسفة السخرية السياسية والفكاهة الدبلوماسية، إنه بلدٌ قادر أن يكون منارة، لكنه يصرّ أن يبقى في ظلمة المسرح. هنا سنقف عند محورين ساخرين فلسفيين، يُجسدان كيف يمكن للسياسة أن تُحوِّل الذهب إلى مال ذهب، والأمل إلى مستقبل غامض، والعقل إلى سلعة مقبوعة في سلة المهملات على أرصفة الشعارات. فمرحبا بكم في جمهورية العبث. ثروة بلا عقل الجزائر بلد تجلس على بحيرة نفط وغاز، لكنها عطشى لمصنع واحد يصنع مستقبلاً حقيقياً. وحين يعلو شعار "نحن قوة ضاربة"، تضحك الأسواق العالمية، لأنها تعرف أن القوة لا تُقاس بتصدير الخام، بل بتكريره وتطويره. هي صورة فلسفية ساخرة .. كمن يملك مزرعة تفاح هائلة، لكنه يبيع التفاح بأبخس الأثمان، ثم يشتري عصير التفاح من الخارج بأضعاف مضاعفة. إنها مفارقة ليست اقتصادية فقط، بل هي أخلاقية سياسية أيضاً، إذ يكشفها التاريخ كأوضح درس في سوء التدبير. فيطلُّ علينا سؤال فلسفي ساخر .. كيف يُعقل أن يتحول الغنى إلى فقر؟ والجواب بسيط .. حين يُدار العقل السياسي في "دكان الشعارات" بدلاً من "مختبر التفكير" فانتظر مثل هذا المآل .. ! .. وحين تربط الثروة بتقرير مصير الوهم فالإفلاس حتما هو المصير. فبترول الجزائر الذي كان يمكن أن يكون جسر النهضة، صار لعنة سوداء تُثقل كاهل الشعب بالبطالة والفساد. بل الأدهى أن المواطن صار يرى ثروته كأنها ملك للغير، بينما نصيبه منها مجرد فتات يظفر به بعد عناء الطوابير. هذا الوضع يعكس مقولة ساخرة: "في الجزائر، البترول ملك الشعب .. لكن الشعب لم يره قط!" من هنا، يتضح أن الثروة بلا عقل أشبه بكتاب بلا قارئ، قابع في مكتبة لكنه عديم الفائدة. فلسفياً، يمكن القول إن الوعي هو المورد الحقيقي، لا النفط ولا الغاز. وحين يغيب الوعي، تتحول الثروة إلى مسرحية هزلية، أبطالها دمى الكراكيز ونغماتها شعارات جوفاء. أليست هذه قمة التراجيديا المضحكة؟ بلد غني وفقير في الوقت نفسه .. فيا لها من مفارقة ! يضحك التاريخ ملء شدقيه ويقول: "بلد يملك الذهب وشعبٌ مالُه ذهب" وهكذا تُرسّخ السياسة قاعدة فلسفية ساخرة: ليس المهم ما تملك، بل كيف تفكر. والجزائر، في هذا المثال، فكرت قليلاً فضيّعت كثيراً. وهنا يسدل الستار على الفصل الأول من الكوميديا السوداء، غير أن المسرحية لم تنته بعد، فما زال الجمهور ينتظر المزيد من "الإضحاك المبكي". كركوز الرئاسة بين أصابع الكابرانات إذا كانت الثروة قد صارت لعنة، فإن السياسة تحولت إلى مسرح عرائس. فالعسكر الذين خلّفتهم فرنسا، ما زالوا يمسكون بخيوط اللعبة. لا يهم من يكون الرئيس، لأنه ليس أكثر من دمية يتلاعبون بها بين أصابعهم. فالمشهد الجزائري قاتم وهو أقرب إلى مسرح ظلّ تركي .. حيث ترى الدمى تتحرك على الشاشة، لكن العيون الفطنة تعلم أن هناك أصابع خفية خلف الستار. الرئيس لا يقرر، بل يُقرَّر عنه. هو صورة في التلفاز، لكن القرار عند العسكر. الأدهى أن هذه المسرحية كلها لم تُكتب جزافاً، بل خططت لها فرنسا نفسها يوم صنعت كياناً تابعا لها، واعتُبِر "الدوزيام فرانسيس" لحصر الإمبراطورية المغربية آنذاك. لم يكن الهدف دولة طبيعية، وإنما بلد عشوائي سياسي تنهب خيراته. حراس مخلصون لفرنسا يعملون على صنع القلاقل وقطع الطريق عن المغرب ومحاولة عزله عن عمقه الافريقي. إنها كوميديا عبثية .. عسكر يُتقنون فن القمع أكثر من فن الحكم، ورئيس مسلوب الإرادة، في مسرح عبثي لا تنتهي فصوله. في الختم .. المضحك المبكي ليست الجزائر اليوم مأساة اقتصادية فقط، بل تراجيدية سياسية أيضاً. بلد غني فقير، وكبير صغير، مستقل الظاهر أسير في العمق. فحين يسألنا التاريخ عن هذه المسرحية، لن نجد إلا أن نضحك بمرارة ونقول: "إذا كنت في الجزائر، فاعلم أنك في عالم آخر .. بلد يحكمه رعاع لم يُطعَم من جوع ولم يُؤمَن من خوف.