تعتبر قضية الصراع على أرض فلسطين بمثابة آخر حلقة في الصراع ضد المشروع الاستعماري الأوروبي الذي ينضوي تحت لوائه مشروع الحركة الصهيونية الرامي إلى إنشاء وطن قومي ليهود أوروبا يوفر لهم حماية من تهديد موجة معاداة السامية المنتشرة في أوروبا. ونشأت الصهيونية كحركة قومية ليهود أوروبا الوسطى والشرقية في سياق ظهور مشاريع قيام دول قومية لشعوب هذه المنطقة مثل الصرب واليونان والبلغار والمجريين والبولنديين. ومَثَّل تنامي موجة معاداة السامية وتخوُّف السكان اليهود في هذه المنطقة من الانصهار داخل القوميات الأخرى دافعا لظهور الصهيونية كقومية يهودية. وهكذا اصطبغت الصهيونية، باعتبارها قومية يهودية، بالصبغة الخاصة التي تميز قوميات شعوب أوروبا الوسطى والشرقية، واستنسخت الصهيونية نمط قومية شعوب هذه المنطقة، والذي يستند إلى مرجعيات ثلاث: الأولى يمثلها وجود لغة وثقافة، والثانية يمثلها وجود دولة خلال حقبة سابقة من التاريخ، والثالثة يمثلها ارتباط الأمة ارتباطا وثيقا بالدين (المسيحية الأرتودوكسية بالنسبة للصرب واليونان والبلغار، والمسيحية الكاتوليكية بالنسبة للبولنديين.) ولإيجاد لغة قومية خاصة بهم استحدث الصهاينة لغة جديدة، وهي المعروفة حاليا بالعبرية الحديثة. ولإيجاد دولة خلال حقبة سابقة من التاريخ استدعوا فكرة العودة إلى أرض الأجداد في فلسطين. ولربط مشروعهم بالدين، وأمام معارضة رجال الدين اليهود، أنشأوا حركة صهيونية دينية تدعو إلى العودة إلى فلسطين أرض الميعاد. ومن المفارقات التي لاحظها أحد المؤرخين اليهود أن مؤسسي الصهيونية لم يكونوا يؤمنون في غالبيتهم بالله، ولكن يؤمنون أن الله وعدهم بفلسطين كأرض مقدسة. إن أكبر خطر خلقته الصهيونية يتمثل في توظيف الصهاينة للدين اليهودي ونصوص الكتاب المقدس (The Bible) لخدمة أغراض سياسية، وذلك بربط حركتهم القومية بفكرة العودة إلى فلسطين باعتبارها الأرض المقدسة التي وعدها الله لليهود في كتابهم المقدس. وما زاد من هذا الخطر وجود تيار في المسيحية البروتستانتية ظهر في إنجلترا خلال القرن السابع عشر، ويعرف بإسم «تحقيق النبؤات»، ويؤمن أتباعه بنبؤة مبنية على تأويل نصوص في الكتاب المقدس (The Bible) مرتبطة بعودة المسيح ومفادها أنه في نهاية الزمان سيجتمع اليهود في فلسطين (الأرض المقدسة)، فيتحولون إلى المسيحية، ثم تبدأ حقبة تدوم ألف سنة يعم فيها السلام. وتُوصف التيارات التي يؤمن أتباعها بهذه النبؤات بوصف «المسيحانية» (messianism). وفي هذا السياق ظهرت حركة الصهيونية المسيحية في أوساط الحركات المسيحية البروتستانتية الأصولية، والتي يؤمن أتباعها أن إنشاء دولة يهودية في فلسطين (الأرض المقدسة) يعتبر بمثابة خطوة في مسيرة تحقيق المخطط الإلهي لنهاية تاريخ البشرية. وبناء على الإيمان بهذه النبؤات تبذل الحركة الصهيونية المسيحية في الولاياتالمتحدةالأمريكية قصارى جهدها لتأمين الدعم غير المشروط للكيان الصهيوني في فلسطين. كما يتجلى مدى هذا الخطر الذي خلقته الصهيونية حين نستحضر تاريخ الحروب التي اندلعت للسيطرة على الأماكن المقدسة في فلسطين، حتى بين المسيحيين أنفسهم، كما كان الحال في حرب القرم خلال القرن الثامن عشر ، تلك الحرب التي كان من ضمن أسبابها الصراع للسيطرة على الأماكن المقدسة في مدينة بيت لحم بفلسطين، والتي دارت بين الإمبراطورية الروسية ممثلة للمسيحية الشرقية من جهة، ومن جهة أخرى تحالف الإمبراطورية الفرنسية وبريطانيا ممثلتين للمسيحية الغربية. تعتبر العملية العسكرية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، وأطلقت عليها إسم «طوفان الأقصى»، بمثابة منعطف تاريخي في الصراع على أرض فلسطين ضد المشروع الاستعماري الأوروبي. و«تحوُّل البارادايم» (paradigm shift) الذي أحدثته معركة طوفان الأقصى جعل الصهاينة وأمريكا وحلفائها من أقطاب المشروع الاستعماري الأوروبي يعتبرون هذا التحول في الصراع على أرض فلسطين بمثابة تهديد وجودي يؤذن بزوال الكيان الصهيوني. إن قضية الصراع على أرض فلسطين مشبعة ومثقلة بالتاريخ، وتستعيد الهويات العميقة والنصوص المقدسة وتحقيق النبؤات «المسيحانية»، ويبدو أن عنوانها سيبقى هو «السلام المستحيل».