في مشهد دولي يعج بالتناقضات، تتوالى الإدانات السريعة والمنسقة من عدد من الدول، بينها المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي، ضد ما وصفته ب"العدوان الصاروخي" الذي استهدف سيادة دولة قطر الشقيقة ومجالها الجوي. هذه الإدانات، التي استندت إلى مبادئ احترام سيادة الدول، وعدم تعريض أمن المدنيين للخطر، تجد في ميثاق الأممالمتحدة والقانون الدولي مرجعيتها الأخلاقية والقانونية. لكن المدهش أن هذه المرجعية تغيب فجأة حين يكون المعتدي طرفاً قوياً أو حليفاً استراتيجياً، كما في حالة الهجمات الأمريكية والإسرائيلية على إيران، أو جرائم الحرب المتواصلة في قطاع غزة. وهنا لا يتعلق الأمر بالدفاع عن إيران، أو الترويج لأي مظلومية سياسية أو أخلاقية تخصها، بل بضرورة كشف التناقض الفج في مواقف عدد من الدول العربية والإسلامية والمغاربية التي تتعامل بانتقائية مفرطة مع مقتضيات القانون الدولي. فحين تُنتهك سيادة بعض الدول القريبة سياسياً من هذه الدول، ترتفع الأصوات المنددة، وتُستحضر مبادئ الشرعية الدولية، لكن عندما يتعلق الأمر باعتداءات سافرة على أراضي دولة عضو في الأممالمتحدة، مثل إيران، فإن الصمت أو التواطؤ يصبح هو القاعدة. أليس استخدام القواعد العسكرية الأمريكية في قطر والخليج لشن هجمات ضد أهداف داخل إيران أو غيرها من دول المنطقة يشكل انتهاكاً صارخاً لسيادة تلك الدول؟ ألا يستدعي ذلك الإدانة الصريحة والواضحة، إذا كنا فعلاً نحتكم إلى ميثاق الأممالمتحدة الذي يحرّم استخدام القوة خارج إطار مجلس الأمن أو في غياب حالة دفاع شرعي مؤكدة ومحددة زمنياً وموضوعياً؟ أما الهجوم الإسرائيلي الذي طال مواقع حساسة داخل الأراضي الإيرانية، فقد مرّ من دون أي إدانة تُذكر من الأطراف ذاتها التي سارعت إلى التنديد بالهجوم على قطر. وكأن سيادة إيران مباحة، فقط لأنها خصم استراتيجي لواشنطن وتل أبيب وغيرهما من الدول! هذا الصمت لا يمكن تفسيره إلا كصورة من صور النفاق الدولي، ويكشف عن جوهر العلاقات الدولية اليوم: القانون الدولي لم يعد مرجعاً ثابتاً بل أصبح أداة طيعة في يد الأقوياء لتبرير تدخلاتهم، بينما يُهمَّش ويُنسى حين لا يخدم مصالحهم. في قطاع غزة، المأساة كانت أعمق وأوضح. فعلى مدى شهور، تتوالى مشاهد القصف الوحشي: تُستهدف المستشفيات، وتُدمَّر البيوت على رؤوس ساكنيها، وتُقصف المدارس، ودور العبادة، والمخيمات المكتظة بالنازحين. ومع ذلك، فإن كثيراً من الدول العربية والإسلامية تكتفي إما ببيانات باردة لا ترقى إلى مستوى الجرائم المرتكبة، أو بصمت مطبق، في تجاهل سافر لاتفاقيات جنيف ولمبادئ القانون الدولي الإنساني، وعلى رأسها مبدأ حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. ازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي، والانتقائية الفاضحة في تفعيل ميثاق الأممالمتحدة، تفرغان هذا النظام القانوني من مضمونه الأخلاقي، وتحولانه إلى أداة سياسية منحازة، تخدم مصالح القوى الكبرى، وتكرّس الهيمنة بدل أن تضمن العدالة. نحن إذ ننتقد هذا الواقع المريض، لا ننطلق من اصطفاف أيديولوجي أو تحالف استراتيجي مع هذه الدولة أو تلك، بل من موقف مبدئي يدعو إلى احترام قواعد القانون الدولي على الجميع، دون انتقائية أو استثناءات. فإما أن يكون القانون الدولي مرجعاً يحكم سلوك الدول على قدم المساواة، أو أن نعترف بأننا أمام نظام دولي لا يحكمه القانون، بل تفرضه القوة والمصالح. ما نشهده اليوم ليس فقط صراعاً عسكرياً أو سياسياً، بل هو صراع على شرعية المنظومة القانونية الدولية ذاتها. وإذا لم تتحرك الشعوب الحرة والدول المستقلة لمواجهة هذا النفاق الدولي، فإن ميثاق الأممالمتحدة سيظل حبراً على ورق، وستبقى الشرعية الدولية رهينة ميزان القوة، لا ميزان العدالة.