كل البلدان التي تركز جهودها على تكريس الديمقراطية، احترام حقوق الإنسان وتحقيق الرفاهية والازدهار لشعوبها، تحرص على تنظيم انتخابات حرة ونزيهة كلما حان موعدها سواء كانت انتخابات محلية أو انتخابات تشريعية. وتعمل عبر مختلف القنوات الإعلامية على حث غير المسجلين في اللوائح الانتخابية على القيام بذلك وتشجيع كافة الناخبين على المشاركة الكثيفة، من أجل التعبير عن إرادتهم في اختيار ممثليهم، وخاصة في المؤسسة التشريعية، من القادرين على الترافع عن أهم قضاياهم وانشغالاتهم وحماية حقوقهم ومكتسباتهم، فضلا عن مكافحة الفساد بمختلف أشكاله… ويصبح عضوا بمجلس النواب كل شخص تم انتدابه عن طريق الاقتراع المباشر لمدة خمس سنوات طبقا للقانون المنظم رقم 97/31 والمعدل في 4 شتنبر 1997 الذي يحدد شروط انتخاب أعضاء مجلس النواب، فيما يصبح عضوا بمجلس المستشارين لمدة ست سنوات كل شخص تم انتخابه من بين الأفراد المنتخبين عن كل عمالة وإقليم من لدن أعضاء مجالس العمالات والمجالس الحضرية والقروية، على أن يتم انتخاب ثلث أعضاء مجلس المستشارين من الغرف الفلاحية والغرف التجارية والصناعية وغرف الصناعة التقليدية وممثلي المنظمات النقابية، ولا يمكن انتخاب عدا الذين تقدموا بترشيح أنفسهم لدى الجماعة الناخبة التي ينتمون إليها كأعضاء، ويجدد نصف المجلس كل ثلاث سنوات… فالبرلماني يلعب دورا هاما في الحياة العامة من خلال الإسهام في تعزيز الديمقراطية وتحقيق التوازن بين السلطات، باعتباره ممثلا للأمة أو الشعب سواء في مجلس النواب أو مجلس المستشارين. ويمارس عدة مهام أساسية، ومنها: المشاركة في مناقشة وتعديل مشاريع القوانين المقدمة من طرف الحكومة وغيرها داخل اللجان وفي الجلسات العامة، اقتراح قوانين أخرى جديدة والتصويت عليها. مراقبة الأداء الحكومي وتقييم السياسات العمومية عبر طرح الأسئلة الكتابية أو الشفوية على أعضائها، والدفاع عن مصالح المواطنين ونقل صوتهم للحكومة في كل وقت وحين، مناقشة مشاريع القوانين المالية والتصويت عليها بالإيجاب أو الرفض، تتبع طرق صرف المال العام والسهر على حسن ترشيده وعدم تبديده… ترى إلى أي حد يحرص البرلماني على القيام بواجباته ويحافظ على احترام أوقات الحضور في اجتماع اللجن والجلسات العامة؟ إن البرلماني ملزم بالحضور ولا يحق له التغيب إلا بعذر مقبول: الإدلاء برخصة مرض أو تحت ظرف طارئ خارج عن إرادته، لكن الملاحظ أن هناك استهتارا واضحا بالمسؤولية لدى عدد من الفاعلين السياسيين، الذين يجعلون من العمل السياسي جسرا للعبور نحو تحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية الضيقة، والتهافت على المناصب والمكاسب، بعيدا عن المصلحة العليا للوطن والمواطنين. وإلا ما معنى التغيب عن الجلسات العامة في البرلمان أو عدم المشاركة في مناقشات اللجن البرلمانية أو عدم التصويت على مشاريع القوانين وغيرها من انتهاك قواعد السرية والنزاهة؟ فطالما كشف النقل التلفزي المباشر للمواطنين عن حجم ظاهرة الغياب في مجلس النواب، إلى جانب ما تتضمنه عديد التقارير الحديثة من معطيات صادمة عن نسبة هذه الآفة في صفوف البرلمانيين من الأغلبية والمعارضة، التي تصل أحيانا إلى أزيد من 60 في المائة، رغم كل "الإجراءات الزجرية" المتخذة في هذا الاتجاه مثل الاقتطاع من التعويضات الشهرية الممنوحة لهم حسب مدة أيام التغيب بلا مبرر معقول، استعمال كاميرات المراقبة والإعلان العلني عن أسماء الأشخاص المتغيبين، لاسيما أن اللجوء إلى هكذا استخفاف يؤثر سلبا على صورة البرلمان بغرفتيه، ويفقد المواطنين الثقة في المؤسسات المنتخبة… والأفظع من ذلك الاستهتار والإخلال بالواجبات، هو ما بتنا نشهده في السنوات الأخيرة من فضائح مدوية، تتعلق في مجملها بالفساد المرتبط بالمسؤوليات وانشغال محاكم المملكة بالبت في التهم الموجهة إلى عدة برلمانيين، والمتعلقة باختلاس أموال عامة، الابتزاز، تزوير مستندات رسمية والتلاعب بالصفقات العمومية، بعد تدخل مصالح وزارة الداخلية وإحالة الملفات ذات الطابع الجنائي على أنظار رئاسة النيابة العامة أو المجالس الجهوية للحسابات. وطالما صدرت قرارات تقضي بتجريد البعض من عضويتهم بمجلس النواب أو مجلس المستشارين، بناء على أحكام قضائية نهائية ضدهم إما لتورطهم في قضايا جنائية أو بسبب عزلهم من المسؤولية الانتدابية بالمجالس الترابية، فضلا عن فتح أبحاث وتحقيقات بخصوص الملفات التي تحال مباشرة على النيابة العامة المختصة في جرائم الأموال…. هذا، دون الحديث عن عدد آخر من رؤساء مجالس محلية حاليين وسابقين، يتابعون في قضايا فساد أمام المحاكم، منهم من حجزت أموالهم الشخصية، ومنهم من سدت الحدود في وجوههم، بعد إلغاء مسطرة رفع الحصانة البرلمانية بمقتضى دستور 2011، وذلك بناء على ما تضمنته تقارير أنجزتها المفتشية العامة للإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية، أو المفتشية العامة لوزارة الاقتصاد والمالية، أو قضاة المجالس الجهوية للحسابات، أو جمعيات حماية المال العام قبل أن يطالها المنع من التبليغ عن الفساد والمفسدين في عهد وزير العدل عبد اللطيف وهبي. إن المتابعة القضائية لأكثر من أربعين برلمانيا بتهم ثقيلة تتعلق باختلاس وتبديد أموال عمومية وتزوير وثائق وغيرها خلال السنتين الأخيرتين، يؤكد أن المسؤولية مشتركة بين المواطنين الذين لا يترددون في منح أصواتهم للمفسدين في الانتخابات، وبين الأحزاب السياسية التي لا تبحث لنفسها سوى عن الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد في مجلس النواب، لاسيما في ظل انعدام إرادة سياسية حقيقية للقطع مع الفساد والمفسدين، وعدم تفعيل المبدأ الدستوري "ربط المسؤولية بالمحاسبة"…