لم يقل الكاتب المغربي باللغة الفرنسية، الطاهر بنجلون، شيئاً محظوراً، لأنه ليس معارضاً سياسياً بالمعنى المألوف فيخونه تعبير الموالاة والطاعة، عن قصد أو عن غير قصد، لجميع السّلطات "الشرعية" المكتسبة، أو تلك التي تتأسّس على الإجماع الوطني، أو لها علاقة بالظرفيات السياسية في الصراع السياسي الداخلي أو الخارجي في مواجهة الخصوم المحتملين أو الفعليين. فهو منذ لجوئه إلى فرنسا، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، لم يعد يحمل المغرب في عقله إلا عندما يزوره فيستذكره، أو يكتب عن عوالمه الفولكلورية الموروثة والسحرية الخادعة فيغتني من كتابته. ولم يُعْرَف عن الطاهر بنجلون أنه، بدافع إيديولوجي أو غيره، اتصل، أو اقترب، أو هاجم، ولو من قبيل الإثارة، سلطة دينية ما، رسميةً أو دعوية، ولا كتب في الموضوع الذي هو دستورياً من طبيعة الدولة وإمارة المؤمنين والمذهب المالكي وغير ذلك. وكان من الممكن، لو فعل في أيٍّ من مراحل حياته، أن يُوَاجِهَ ما يُوَاجَهُ به عامة المنتقدين وخاصّتهم من اتهام ومصادرة واعتقال، خصوصاً حين تُؤَوَّل الكتابة أنها قذفٌ في الذات الإلهية، أو تعتبر تطاولاً على الإمارة إذا لم يكن الاعتراف بها صريحاً وتاماً، فَيُحَرِّضُ ضد الكاتب إسلامَوَيٌّ متقاعد انشقَّ عن العدل وعن التنمية كِلَيْهِما معاً.
ويمكن أن نُعَدِّدَ أكثر من هذين المجالين، السياسي والديني، اللذين يغريان معظم الكتاب باللغات التي يُحسنون الكتابة بها، ولكننا لن نجد للطاهر بنجلون شيئاً مذكوراً في أي مجال يقع تحت طائل السُّلطات الفعلية المتحكّمة في كثير من التصرّفات الإنسانية المُمَارَسَةِ في الفضاء العام بالكتابة أو بغيرها. غير أنه، على غير ما كان من المنتظر منه، بناءً على تأويلات قرّائه ومتابعي مقالاته الصحافية بالفرنسية، ارتكب خطأً يعتبر مَعْصِيَّة في نظر الموالين الطائعين، وجريرةً تُعَدُّ إثماً مبيناً في نظر آخرين، وما ذلك إلا لأنه ردّد، دون تدبّر ولا حصافة، في ما يبدو، ما أخذ يردّده القادمون، وعددُهم يتجاوز المليونين، إلى المغرب من الديار الأوروبية منذ وطئت أقدامهم أرضَ (أجمل بلد في العالم)، من استنكار ودهشة مصحوبة بالنقمة، بناءً على المقارنة الواعية التي يُسَخِّرُونَها لكل هدف، شخصي أو عمومي، بين بلدهم الأصلي وبلدان الإقامة على جميع المستويات (أسعار، معاملة جمركية واستقبال، إدارة، سلوك، بيع وشراء إلخ). الموضوع، على هذا الأساس، يتعلق بالسياحة، أو بالعودة إلى الوطن بعد هجرة دائمة أو مؤقتة. وهو أيضاً في القدرة، دون خوف أو مجاملة، ولو كانت متحفّظة، على الجهر بالنقمة التي يشعر بها القاطنون في الخارج من جرّاء الفوارق، ومظاهر التخلف العام، والإحباط والندم اللذين يكشفان عن الخديعة والغفلة والشماتة: أولاً، تجاه فئاتٍ من المغاربة من حيث الغش والسلوك المخادع، وهم سماسرة الوقت وَمُرَابِوه. وغالباً ما يذكِّرُهم هذا بالتناقضات الخاصة التي يعيشونها في ديار الهجرة مغتربين في إيمانهم ومعاشهم وذهنياتهم السحرية بما فيها من طقوس بدائية. وثانياً، تجاه السلطات العمومية (وليس النظام الحاكم) التي لم تعمل بما تمليه عليها المواطنة والمراقبة والتحكّم والضبط والتنظيم… وغيرها من المفاهيم السلطوية القادرة على ضمان الحماية والسلم النسبي في المجتمع، درءاً لكل حربٍ أهلية محتملة. وذِكْرَاهُم عن "تقاعس" السلطات ترتبط بما في وعيهم عن فقرهم وجهلهم وتخلفهم في المغرب الذي فارقوه من قبل… كما يمكن الاستنتاج. هذا كِتَابُ الطاهر بنجلون بكل غصب: "المغرب أصبح أكثر إزعاجًا من ذي قبل". هذا صحيح، ولا يمكن أن يحار في فهمه إلا مُوَالٍ للسلطة لئيم. و"عمليات الاحتيال اليومية، وأسعار الوجبات الجاهزة الخاصة التي تُعرض علينا" في فصل الصيف، و"أسعار عبور المضيق"، وما "يُسمّى بالفنادق (الخمس نجوم) التي هي في الواقع فنادق خمس نجوم فقط، ومستوى خدماتها عديم، إلخ". وهذا هو الشعور الحقيقي الذي يشعر به، على الأرجح، كل فرد من أفراد "الطبقة المتوسّطة" المغربية التي تهنأ عادة بالعيش في المقامات والمستويات المذكورة. ولا أستطيع في الواقع إلا أن أقول للكاتب شيئاً مختلفاً تماماً، أقصد: الاختيارات الرأسمالية التبعية، في علاقة بنظام السوق، حولت البلد إلى مرتع خصب لمختلف المضاربات المرهقة لعقل المواطن وجيبه بكل تأكيد. يضيف الطاهر بنجلون شيئاً مرعباً يمكن أن يثير العاملين في القطاع السياحي بكل تأكيد، ويمكن أن يُرضي الخصوم الحدوديين الذين يُفَكِّرُ فيهم المغربي في علاقة بما يعتبره قضيته الوطنية، وذلك حين يقرّر دون تردّد: "سَرِقَة وفساد على جميع مستويات الاقتصاد والإدارة". وبجرأة تثير العجب يكتب الطاهر بنجلون منبهاً، صارخاً محرّضاً في العائدين المغتربين: "قَاطِعُوا المغرب عام 2026، وتوقفوا عن تحويل الأموال حتى نُصبح كما يجب أن نكون عليه". كتابة استفزازية مثيرة، ودعوة مسبقة إلى العصيان السياحي، وقدرة على الإدانة والتحريض، وخسارة سيتكبّدها المستغلون من كل لون تقدّر ب17 مليار درهم، مجموع ما تدفق على المغرب في سنة 2024 من أموال المهاجرين، أي 7.7% من الناتج الداخلي الخام. ألم يغامر الطاهر بنجلون من الناحية السياسية بما لم يكن له في حُسْبَان؟ المعضلة في ما كتبه الطاهر بنجلون أنه يقارن بين عالمين نظامهما الاقتصادي متشابه، إلى حدٍّ ما، إلا في قضية جوهرية هي التبعية التي يقوم عليها المغربي. ومن منظورين في علاقة بالتصور والاختيارات، فضلاً عن الأساليب والحساسيات ومنطق المعاملات ودرجة التخلّف أو التقدم. أوروبي متقدّم على جميع المستويات، ومغربي طابعه البداوة في كل شيءٍ تقريباً. بداوة عندما ارتَدَت لبوس المعاصرة والحداثة تحوَّلت، على المستوى الذهني، إلى سُعَار يَعُظّ كل شيء بدافع الجشع الاغتناء المبني على السرقة والاستغفال والربح السريع، بالإضافة إلى نوع من "براغماتية" ذات طابع انتهازي تُحَوِّل كل شيءٍ إلى سلعةٍ لا تساوي مطلقاً، بالمنطق التجاري، قيمة إنتاجها الحقيقية، ولا الربح المعقول الذي يمكن أن يُجنى منها. من المفهوم أن الموقف الذي عبّر عنه الطاهر بنجلون ليس تحليلاً اقتصادياً للأوضاع القائمة، ولكنني أعتبره نوعاً من التحليل الاجتماعي الذي يلامس مستوى الدخل الفردي للمواطن العامل، وهو بطبيعة الحال دون مستوى الدخل الفردي الفرنسي بكثير، ويفضح واقع السياحة "الوطنية" المبنية على النفعية واستغلال الفرص واصطياد الزبناء المحتملين بخطابات إشهارية مزيّفة، وطرق احتيالية عادة ما تنطلي على السُذّج من الحالمين بمغربٍ مختلف. ومن المفهوم أيضاً أن الهجوم الذي تعرض له كاتبنا لم يكن لما في كتاباته الأدبية (روايات وأشعار…) من كليشيهات أو صور قد تُحِيل، من غير أن تكون، على وقائع، أو سلوكات، أو على أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية معيّنة. فذلك مما لا تأبه به سلطة، ولا يصل إليه، كإبداع أو خطاب أدبي، أي مُوَالٍ، أو تابع، أو وطني "تتنابذ" في مخيلته أحلام مغربٍ قوي تناقضاته مُفَارِقَة لا يقدر على فكّ ألغازها. لقد أراد الطاهر بنجلون أن يصرخ في وجه التحوّل الذي يشهده المغرب في ظل الاختيارات الرأسمالية التبعية، على جميع المستويات، بلغة فيها نصح أخلاقي وأدب سياسي مقتصد ومُدَاهِن عَبَّرَ عنه ب"قلة احترام المواطنين، والبذاءة في كل مكان". ثم وأن يقول، حسب تأويلي للأمور، مِن منْبَرٍ رسمي: إنَّ المغرب يحتاج إلى تغيير مسار ومسير، وإلا واجه مستقبلاً حابلاً بمتطلبات التغيير، وحقائق التخلف العام، والأزمة المجتمعية الطاحنة المتجددة التي يمكن أن تقوض جميع الأسس التي يسعى بها الآن إلى بناء دولة متقدمة ذات نظام يتطلع إلى إرساء ديمقراطية مُتَصَوَّرة. ما كان لما كتبه الطاهر بنجلون أن يحصد درجة مثيرة من الكراهية، وإن كانت معروفة. ولما انفجرت في وجهه، فقد جاءته من جميع منتقديه: قديماً كانت من اليسار السياسي والثقافي، لأنه أخلف وعوده معه منذ انفصل عن مجلة "أنفاس" وأصدقائه الشعراء فيها، فاستقرّ في باريس المشتهاة منذ أوائل 1974. وحديثاً، من جميع الأطراف التي تعتبره كاتباً فرانكفونيا فولكلورياً، لم يلامس في كل ما كتبه، كما يدّعون، أي مجال من المجالات التي يمكن أن تغضب السلطة الحاكمة في البلاد. ومع أنه تَعَنّى بتوفيق الحكيم (الذي خرج ذات يوم شاهراً مكنسة لتنظيف الشوارع والأزقّة من الأزبال)، إلا أن ما أصابه من الحملة المُرَكَّبَة لم يُصَب به، من قبل، أيّ من المنتقدين للوضع الاقتصادي القائم، أو للاختيارات الأساسية التي حوّلت السوق إلى مرتع لكل المضاربات الممكنة التي يَتَنَعَّم بها المستغلون. حملة أخرجته من الوطنية ومن الإسلام ومن المدنية الحديثة ومن الجنسية المغربية ومن الكتابة ومن حرية التفكير ومن التصور الديمقراطي الذي لا أثر له، مع التعميم المقصود، في مغرب الشبكات الاجتماعية، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالحوار والقبول بالاختلاف والتعدّد، وبأساسيات الحياة الديمقراطية المكفولة في النظم غير الاستبدادية. المصدر: عن "العربي الجديد"