تعيش فرنسا مع بداية الدخول السياسي الجديد حالة من الترقب الممزوج بالخوف والقلق، في ظل أوضاع اقتصادية محرجة وأزمة سياسية خانقة واحتقان اجتماعي غير مسبوق. خطة الحكومة للتقشف وخفض المديونية، التي تشمل تجميد المعاشات وإلغاء يومين من العطل الرسمية، وُصفت بأنها "مساس مباشر بالمكتسبات التاريخية"، وأثارت موجة غضب واسعة ترجمتها النقاشات في وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الإجتماعي، بل وحتى داخل الأغلبية نفسها. تصريحات رئيس الوزراء فرانسوا بايرو التي دعا فيها الفرنسيين في 14 يوليو إلى "المزيد من العمل" وإلغاء عطلتين رسميتين، حتى وإن عاد وخفف من حدتها مساء الأحد الماضي، زادت الوضع اشتعالًا وأعطت الانطباع بأن السلطة السياسية بعيدة عن هموم المواطنين.
على المستوى السياسي، تبدو حكومة بايرو مهددة أكثر من أي وقت مضى. البرلمان منقسم، والثقة غائبة، فيما تتعالى التكهنات بقرب إقالة رئيس الوزراء مطلع سبتمبر لإفشال ملتمس سحب الثقة الذي تستعد المعارضة لطرحه يوم 8 سبتمبر. الرئيس إيمانويل ماكرون يدرك أن بقاء الحكومة بشكلها الحالي يضاعف الغضب الشعبي، لكنه يواجه مأزقًا آخر: أي حكومة جديدة ستجد صعوبة في تأمين أغلبية مستقرة داخل برلمان مشتت، ما يفتح الباب أمام احتمال الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وهو سيناريو يعتبره كثيرون "الأكثر مأساوية". في ظل هذه الأجواء المتوترة، برزت حركة غامضة تدعو إلى "إيقاف كل شيء" يوم 10 سبتمبر. الدعوة التي ظهرت أولًا عبر موقع Les Essentiels المحسوب على تيار كاثوليكي قومي يرفع شعار "فرانكسيت"، تبنتها لاحقًا قناة على تيليغرام مرتبطة بيسار راديكالي من أنصار "فرنسا الأبية". ورغم أن الحركة بلا قيادة واضحة ولا برنامج سياسي محدد، فإن شعارها المباشر تعطيل الاقتصاد والحياة العامة في فرنسا انتشر كالنار في الهشيم عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ما يجعل الدعوة أكثر إثارة هو أنها لم ترفع مطالب محددة، بل شعارا مطلقا: "أوقفوا كل شيء". هذا الغموض جعلها محط تفسيرات متباينة. بالنسبة للبعض، هي نسخة جديدة من "السترات الصفراء" مرشحة للفشل أمام آلة الدولة، بينما يراها آخرون فرصة للخلاص من حالة الانتظار القاتلة. استطلاع للرأي أجرته مؤسسة Toluna–Harris Interactive لصالح RTL كشف أن 63% من الفرنسيين يتعاطفون مع هذه الدعوة، و58% يؤيدون تعطيل البلد في 10 سبتمبر، فيما عبّر 68% عن تأييدهم لملتمس رقابة ضد الحكومة. التفاعلات على المنصات الرقمية تضاعف من زخم الحركة. على تيك توك وإكس وفيسبوك وتيليغرام، تتداول دعوات إلى النزول إلى الشوارع وشلّ المرافق، وسط هاشتاغات حصدت ملايين المشاهدات. في المقابل، عمدت وسائل الإعلام الرسمية إلى محاولة إضعاف مصداقية الحركة، إذ وُصفت تارة بأنها قريبة من اليمين المتطرف، وتارة بأنها أداة بيد اليسار الراديكالي. أما على مستوى الطبقة السياسية، فقد أعلن زعيم "فرنسا الأبية" جان-لوك ميلونشون دعمه الكامل، واصفًا اليوم الموعود بأنه "لحظة الحقيقة". بعض النقابات القريبة من اليسار دعت إلى الانخراط، في حين تمسكت أخرى مثل CFDT بالتحفظ، مؤكدة أن "أسلوب العصيان ليس طريقتها". الأسئلة المفتوحة كثيرة: هل ينزل الفرنسيون بأعداد كبيرة إلى الشارع استجابة لهذه الدعوة؟ هل يبقى التحرك سلميًا أم ينزلق إلى أعمال عنف؟ وكيف سيكون رد فعل الدولة إذا تحولت التعبئة الرقمية إلى شلل فعلي في البلاد؟ الحكومة تراهن على إقالة بايرو وتشكيل توازن سياسي جديد قبل 10 سبتمبر لتفكيك زخم الحركة، لكن لا شيء يضمن نجاح هذه الحسابات. السياق العام يزيد الوضع تعقيدًا: داخليًا، حكومة ضعيفة ورئيس معزول وصعود اليمين المتطرف وتنامي العنصرية؛ اقتصاديًا، مديونية متفاقمة وتراجع حاد في القدرة الشرائية؛ خارجيًا، تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا واحتجاجات في أقاليم ما وراء البحار، فضلًا عن كلفة دعم أوكرانيا وتراجع مكانة باريس كقوة دبلوماسية مستقلة بعد انحيازها لإسرائيل. كل هذه العناصر تجعل من 10 سبتمبر لحظة محورية، قد تتحول إلى بداية تغيير عميق أو إلى انفجار يزيد هشاشة فرنسا. هكذا تقف البلاد على صفيح ساخن. البعض يرى في هذا الموعد فرصة لفتح ثغرة في جدار الأزمة، والبعض الآخر يتوجس من انهيار قد يسقط الجدار على الجميع. وبين الخوف والأمل، ينتظر الفرنسيون يوم 10 سبتمبر كموعد قد يحدد ملامح المستقبل القريب، ليس فقط لفرنسا وإنما لأوروبا كلها.