في حوار مطوّل مع مجموعة من شباب حركة "جيل زد" على منصة "ديسكورد"، اعتبر الصحفي والأكاديمي أبو بكر الجامعي أن ما يجري في الشارع وعلى المنصات الرقمية "ليس حركة عابرة، بل علامة خلل في بنية النظام"، مؤكدا أن "البلاد تتجه نحو بلوتوقراطية يحكمها الأثرياء وأصحاب النفوذ"، وأن "حراك الشباب الحالي هو المرآة التي تعكس ما حاول النظام إخفاءه وراء واجهة الاستثمار والازدهار". ولم يخف مدير صحيفة لوجورنال سابقًا إعجابه بقدرة هذا الجيل على التفكير الاستراتيجي، مع احتفاظه بانتقاداته العميقة لبنية الحكم والاقتصاد والسياسات العامة، قائلاً إن "جيل زد ظاهرة كان من الطبيعي أن تنفجر في لحظةٍ ما، لأن الشروط البنيوية للاحتقان كانت قائمة منذ سنوات". وأضاف: "أنتم ظاهرة مهمة جدا في المغرب، ظاهرة كنت أتوقعها منذ زمن، لكنني لم أكن أظن أنها ستظهر بهذه السرعة".
منذ البداية، رأى الجامعي أن حراك جيل زد لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات اقتصادية واجتماعية وسياسية ظل يحذر منها منذ أكثر من عقد. وقال: "كنت أرى في الأرقام والمعطيات أن البلد يسير نحو انفجار اجتماعي، ولم يكن من الممكن ألا يقع شيء. حين أطلقتم الدعوة الأولى للتظاهر، لم أتوقع ذلك التجاوب الواسع من الشباب المغربي، لكنه كان إشارة رمزية قوية إلى أن شيئا كان يغلي تحت السطح". وأضاف أن هناك تشابها واضحا بين هذا الحراك وحراك 20 فبراير سنة 2011، بل وحتى مع حراك الريف لاحقًا، موضحًا أن ما يميز الظاهرة الحالية هو سياقها الزمني الذي تزامن مع حملة ترويج دولية للمغرب باعتباره قصة نجاح اقتصادي واستثماري. وأشار الجامعي إلى أنه، قبل أيام قليلة من انطلاق دعوات الحراك، كانت مجلة ذي إيكونوميست البريطانية قد نشرت مقالا يحتفي بتحول المغرب إلى أول مصدر للسيارات نحو أوروبا، معتبرة أنه أصبح بلدا نموذجيا في إفريقيا، كما أن وكالات التصنيف الائتماني أعادت منحه مرتبة "الاستثمار الآمن". وقال الجامعي: "في تلك اللحظة بالضبط، كان هناك احتفال دولي بصورة المغرب الناجح، وأنه بلد يسير في طريق النمو والاستقرار، ثم ظهر حراككم ليقول العكس تماما: أن وراء الصورة اللامعة واقعا هشا ومؤلما". وفي تحليله للأسباب البنيوية للأزمة، أوضح الجامعي أن المشكلة الاقتصادية في المغرب لا تتعلق فقط بنسب النمو أو حجم الاستثمارات، بل بطبيعة توزيع الثروة وهيكلة الاقتصاد. وقال: "من سنة 2000 إلى اليوم، ظل معدل النمو في المغرب يدور حول ثلاثة إلى أربعة في المائة، وهو أقل من مصر التي واجهت أزمات متتالية، وأقرب إلى الجزائر التي لا تختلف كثيرا عنا في بنية اقتصادها. هذا يعني أن كل ما يُقال عن الطفرة الاقتصادية مبالغ فيه". وأضاف أن مؤشر التنمية البشرية يضع المغرب في مرتبة متأخرة جدا، لا يسبقه سوى دول تعيش حروبا أهلية مثل اليمن أو جيبوتي، مشيرا إلى أن "البلد فشل في تقديم تعليم وصحة يليقان بالمواطن المغربي". وانتقد الجامعي بشدة السياسة التعليمية، قائلا إن المنظومة التربوية المغربية من الأسوأ عالميا حسب تصنيفات "بيزا" و"تيمس"، مضيفا: "المجتمع لم يخدمكم كما يجب، أنتم لم تتلقوا التعليم الذي تستحقونه. التعليم العمومي منهار، والصحة في وضع متردٍ، والفرص غير متكافئة". واستطرد: "حين يخرج الشاب المغربي إلى الشارع ويرى القطار فائق السرعة وملاعب كرة القدم والبنية التحتية الحديثة، ثم يعود إلى واقعه المعيشي المزري، يسأل نفسه: ما علاقتي أنا بهذا المشهد الباذخ؟". وفي معرض جوابه عن سؤال حول التناقض بين الصورة اللامعة للمغرب في الخارج والواقع الداخلي الصعب، قال الجامعي: "تلك الصورة نسبية جدا. حين تعطيك مؤسسة تصنيف استثماري جيدا، فذلك لا يعني أنك أصبحت جنة اقتصادية، بل فقط أنك بلد آمن نسبيا لرؤوس الأموال. أما في الداخل، فالوضع مختلف تماما. لدينا قطاع خاص ضعيف بنيويا، واحتكار مريع لعدد من القطاعات الحيوية". وتابع أن «القطاع العمومي تُرك يضمحل عمدا لصالح القطاع الخاص"، موضحا أن "الذي يملك المدارس الكبرى والمستشفيات والشركات الكبرى في المغرب هم أشخاص معدودون، وحين تبحث أكثر تجد نفس الأسماء". وفي رده على سؤال حول طبيعة حراك جيل زد، رفض الجامعي فكرة أن هذا الجيل يتحدث بلغة سياسية جديدة، لكنه أكد أنه جيل فريد لأنه "الجيل الأول الذي وُلد داخل العالم الرقمي". وقال: "أنتم السكان الأصليون للعالم الرقمي، أنتم وُلدتم فيه، وتتنفسون من خلاله، تفكرون وتتعلمون وتتناقشون داخله. لا يمكن لأي سلطة أن تفهمكم تماما لأنها لم تُولد في هذا الفضاء". وأضاف متأملا: "أعرف أنني حين أحلل تصرفاتكم ينقصني شيء، لأنني أنتمي لجيل لم يترب رقميا. أما أنتم فتعلمتم في فضاء مفتوح، في يوتيوب، في المنتديات، في محتوى عالمي لا يخضع لرقابة الدولة ولا لحدود اللغة". وروى الجامعي قصة رمزية تعبر عن الفارق بين الأجيال، قائلا: "حدثني شاب درس الهندسة في مدرسة عمومية مغربية، وقال لي إن أغلب الأساتذة لا يدرسون فعلا، بل يعطون ملفات جاهزة نُسخت من الإنترنت، فكان الطلبة يبحثون بأنفسهم ويشاهدون الدروس في يوتيوب ويتعلمون ذاتيا. هذا بالنسبة لي كان صدمة، لأنني أدركت أن التعليم الموازي صار يحدث خارج المدرسة، وأن هذا الجيل لم يعد ينتظر شيئا من الدولة، بل يصنع أدوات معرفته بنفسه". وفي تحليله للسياسات العامة، أكد الجامعي أن "الدولة فتحت الباب أمام الخوصصة دون ضوابط"، محذرا من أن ذلك أدى إلى إقصاء فئات واسعة من المغاربة. وأضاف أن "الخلل بنيوي، وليس في نيات الأشخاص. المشكلة ليست أن الحاكم فاسد أو الوزير لص، بل أن النظام نفسه ينتج هذا الخلل". وأوضح أن المطلوب هو تشخيص هيكلي وليس شخصنة للفساد، مشيرا إلى أن "السلطة في المغرب ليست في الحكومة، بل في الملكية، ولهذا لا يمكن محاسبة الفاعلين الحقيقيين لأن النظام يحتكر القرار". وفي تحليله لطريقة تعامل الدولة مع الحركات الاحتجاجية، قال الجامعي إن "رد فعل النظام المغربي يتكرر منذ 2011، ففي البداية عنف مفرط، ثم محاولة امتصاص الغضب بخطاب إصلاحي متأخر". وأضاف: "حدث ذلك في 20 فبراير، وفي الريف، وها هو يتكرر معكم. النظام دائما يعتقد أنه وصل إلى نهاية التاريخ، وأن المغاربة راضون، ثم يُفاجأ بحركة شبابية تفضح العطب". وأكد أن "النظام لا يفهم التحولات داخل المجتمع، لأنه محاط بنخبة معزولة عن الواقع". وفي مقارنة بين جيل الحراك الحالي وحركة 20 فبراير، قال: "جيلكم أكثر نضجا في تقديري، لأنه واقعي أكثر. أنتم لا ترفعون شعارات قصوى، بل تتحدثون عن الصحة والتعليم والكرامة. هذه مطالب ملموسة ومفهومة من الجميع". لكنه نبه إلى أن "السلطة ستلجأ إلى نفس التكتيكات القديمة؛ أي ستبحث عن رموز الحركة لتستقطبها، أو لتخيفها، أو لتشوهها، كما فعلت سابقا". وأضاف أن "النظام تعلم من تجربة 20 فبراير، ولذلك فهو يتحرك الآن بسرعة أكبر لإجهاض أي ديناميكية شعبية". وتحدث الجامعي مطولا عن العلاقة بين السياسة والمال قائلا: "في المغرب، تداخل المال بالسلطة بشكل غير مسبوق. الذين يملكون الثروة هم أنفسهم الذين يملكون القرار. حين نلوم عزيز أخنوش على خلط السياسة بالأعمال، يجب ألا ننسى أن المؤسسة الملكية نفسها فاعل اقتصادي ضخم. من الصعب الحديث عن اقتصاد تنافسي في ظل هذه التركيبة". وأضاف أن "الإشكال ليس في وجود الأغنياء، بل في غياب مؤسسات مستقلة تضمن أن لا تتحول الثروة إلى وسيلة للهيمنة السياسية". أما عن وضع حقوق الإنسان، فقد عبر الجامعي عن قلق شديد قائلا: "نحن أمام عودة لأسوأ الممارسات الأمنية منذ عقود. تقارير الأممالمتحدة نفسها تحدثت عن حالات اعتقال تعسفي وتعذيب. القضية ليست مزاعم، بل وثائق رسمية من لجان أممية مستقلة". وأضاف أن "التصوير المهين للزفزافي في السجن، ونشر فيديوهات خاصة لمعارضين، وتسريب لقطات تمس الحياة الشخصية لمثقفين، كلها أفعال تُظهر أن جهاز الأمن أصبح أداة ترهيب سياسي". وتابع: "حين يُسأل الناس من يتحكم في الأمن والقضاء؟ الجواب واضح: ليس رئيس الحكومة. ولهذا لا يمكن أن نحاسب أحدا غير الملكية نفسها". وفي تحليله لخيارات المستقبل، أشار الجامعي إلى أن العمل السياسي الحزبي رغم ضعفه لا يزال ضرورة، قائلاً: "مهما كانت الأحزاب رديئة، فهي الإطار النظري الذي يمثل صوت الناس في المؤسسات. إن قلنا إننا لا نثق في الأحزاب ولا في الانتخابات، فمعناه أننا تخلينا عن فكرة التمثيل نفسها". لكنه أقر بأن "المشهد الحزبي المغربي استُنزف بالكامل، بعد أن استعمل النظام كل الأوراق التي كانت تمنحه مصداقية، من الاتحاد الاشتراكي إلى العدالة والتنمية". وأضاف: "حين فقدت هذه الأحزاب رصيدها الشعبي، أصبحت الدولة عارية أمام الناس، بلا وسطاء ولا واجهات". وفي مقارنة بين الماضي والحاضر، قال: "في 1998 جلبوا عبد الرحمن اليوسفي، وكان رمزا نزيها من المعارضة، فأعطى مصداقية للنظام. ثم في 2011 جاء دور حزب العدالة والتنمية وبنكيران، فأعطوه شرعية جديدة. لكن بعد 2016، حين ارتفعت شعبيته، خافوا منه وأقصوه. ومنذ ذلك الوقت، لم يعد هناك من يملك المصداقية الشعبية". وتابع: "الملكية كانت تفهم أنها تحتاج إلى حزب قوي يلعب دور العازل بين القصر والشعب، أما اليوم فقد انتهى هذا العازل، ولذلك الوضع أخطر مما كان". وخاطب الجامعي شباب جيل زد قائلاً: "لا تنتظروا أن ينضم إليكم الجميع، ولا أن تفوزوا الآن. أنتم انتصرتم بالفعل لأنكم غيرتم طبيعة النقاش في البلد. اليوم هناك مغرب ما قبل جيل زد ومغرب ما بعد جيل زد. مجرد أنكم جعلتم الناس تتحدث عن الصحة والتعليم بجدية، فقد أنجزتم الكثير". وختم الجامعي: "عليكم أن تشتغلوا على المدى الطويل، بالبحث والتوثيق وبناء المعرفة، لأن هذا ما سيمنحكم المصداقية. لا تكتفوا بالاحتجاج، بل عمقوا الفهم والاقتراح".