تعيش الأزمة الروسية الأوكرانية لحظة دقيقة تتقاطع فيها المبادرات الدبلوماسية والمصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى، ذلك أن موسكو، بعد شهور من الجمود العسكري، تسعى اليوم إلى اتفاق شامل يكرس واقع السيطرة الروسية على الأراضي التي احتلتها منذ عام 2014 وما بعدها، فيما تعمل أوروبا وأوكرانيا على إعداد مقترح مكون من اثنتي عشرة نقطة يهدف إلى وقف إطلاق النار دون الاعتراف بأي تغيير في الحدود. وفي هذا السياق ألغيت قمة بودابست التي كانت مرتقبة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نتيجة خلافات حول شروط التسوية، ما يعكس هشاشة مسار التفاوض الراهن. المشكلة الأساسية في هذا الصراع، كما يظهر خلال التطورات الأخيرة، لا تكمن في القتال ذاته أو في طبيعة النظام السياسي في كييف، بل في مسألة الأرض والسيادة. فروسيا ترى أن ضم القرم وأقاليم دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون هو تصحيح لتاريخ اعتبرته مجحفا في حقها، وأن هذه المناطق جزء من "العالم الروسي". أما أوكرانيا، فترى أن الاعتراف بهذه الوقائع الميدانية يعني نهاية سيادتها وانهيار منظومة القانون الدولي التي ترفض تغيير الحدود بالقوة. لذلك يظل التناقض قائما بين منطق القوة ومنطق الشرعية، بين "روسيا المنتصرة ميدانياً" و"أوكرانيا التي تستند إلى الحق القانوني والسياسي". في هذا السياق، يمثل المقترح الأوروبي الأوكراني المكون من 12 نقطة في محاولة لتقديم صيغة وسطية بين الواقع الميداني والمبدأ القانوني. مقترح يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار على خطوط القتال الحالية، وإلى تبادل الأسرى، وضمان أمن أوكرانيا من أي اعتداء مستقبلي، مع بدء مفاوضات حول إدارة الأراضي المحتلة دون الاعتراف بسيادة روسية عليها. كما يتضمن المقترح بنودا تتعلق بإعادة الإعمار، وتخفيف العقوبات على روسيا تدريجيا، وإشراف دولي على تنفيذ الاتفاق بقيادة مجلس سلام يترأسه ترمب. لكن هذا المقترح يواجه عقبات جوهرية: موسكو لا تزال تشترط اعترافا صريحا بسيادتها على الأراضي التي تحتلها قبل أي وقف لإطلاق النار، بينما ترفض كييف وأوروبا هذا المبدأ رفضا قاطعا. ومن هنا يبرز التناقض بين السلام الذي تريده موسكو، أي سلام يقوم على تثبيت المكاسب الجغرافية، والسلام الذي تسعى إليه أوروبا، وهو وقف إطلاق نار لا يمنح شرعية للاحتلال. هذا التباين في المفاهيم يجعل أي اتفاق محتمل هشا لأن جذور النزاع ستبقى قائمة حتى لو سكتت المدافع مؤقتا. بالإضافة إلى هذه المعضلة هناك إشكالية أخرى تتعلق بالموقف الأوروبي ذاته. فالقارة العجوز تعيش حالة ازدواجية بين دعمها السياسي والعسكري لأوكرانيا من جهة، وحاجتها الاقتصادية إلى موارد الطاقة الروسية من جهة أخرى. فالدول الاوروبية، رغم العقوبات، ما زالت تعتمد جزئيا على الغاز والنفط الروسيين، خوفا من اضطرابات اجتماعية وارتفاع أسعار الطاقة. هذه الازدواجية تجعل الموقف الأوروبي حذرا ومتناقضا، إذ يسعى القادة الأوروبيون إلى معاقبة موسكو دون أن يجروا شعوبهم إلى أزمة معيشية تهدد الاستقرار الداخلي. أما الولاياتالمتحدة، وبخاصة إدارة ترامب، فتنظر إلى الأزمة من زاوية مختلفة. فواشنطن ترى أن استمرار الحرب يضعف روسيا ويستنزفها اقتصاديا، وفي الوقت نفسه يعزز اعتماد أوروبا على المظلة الأمنية الأمريكية، ما يضمن استمرار التفوق الأمريكي داخل التحالف الغربي. وفي الجانب الاقتصادي تستفيد الولاياتالمتحدة من بيع الأسلحة لأوروبا ومن زيادة صادراتها من الغاز المسال، ما يجعل الأزمة فرصة مزدوجة للربح الجيوسياسي والاقتصادي. لكن في المقابل، إلغاء قمة بودابست بين ترامب وبوتين يعكس أن واشنطن لا تزال مترددة في لعب دور الوسيط النزيه، إذ تخشى أن يؤدي أي اتفاق سريع إلى تعزيز موقع موسكو على حساب حلفائها الأوروبيين. في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن المشكلة الجوهرية ليست في كيفية إنهاء الحرب بل في تحديد ما يعنيه "السلام" لكل طرف. فالسلام بالنسبة لروسيا هو اعتراف دولي بواقع الأراضي التي تحتلها. وبالنسبة لأوكرانيا، يتمثل السلام في استعادة هذه الأراضي، أما بالنسبة لأوروبا فالسلام هو التوازن بين قيمها الليبرالية ومصالحها الاقتصادية. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهو إدارة الأزمة بطريقة تبقي الجميع محتاجين لقيادتها. من هنا فإن أي اتفاق لا يعالج قضية الأرض والسيادة سيبقى حبرا على ورق، لأن لتاريخ يظهر أن النزاعات التي تجمّد دون تسوية جذرية سرعان ما تعود في شكل أكثر عنفا. ولذلك، فإن الطريق إلى سلام مستدام يمر عبر حل متدرج يبدأ بوقف إطلاق النار، مرورا بإدارة مؤقتة للمناطق المتنازع عليها، وصولا إلى مفاوضات حول الوضع النهائي بضمانات دولية حقيقية. في النهاية، تكشف الأزمة الأوكرانية أن النظام الدولي يعيش مرحلة انتقالية مضطربة، حيث تتداخل المصالح القومية مع مبادئ القانون الدولي، وتختلط الجغرافيا بالقيم. ستظل الأرض، بما تمثله من سيادة وهوية، جوهر هذا الصراع، ولن يتحقق السلام إلا حين يجد العالم صيغة توازن بين منطق القوة ومنطق العدالة.