مع بدء التوجيد بتفيذ القانون الجديد المتعلق بجبايات الجماعات الترابية ظهر توتراً اجتماعياً وسط موظفي المالية، بعدما وجّه وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، دورية إلى الولاة والعمال تدعوهم إلى الشروع في تطبيق مقتضيات القانون 14.25، دون الرجوع إلى الموظفين المعنيين بتدبير التحصيل الجبائي، ومعظمهم منتمون إدارياً إلى وزارة الاقتصاد والمالية، بحسب مصادر نقابية. ويخشى موظفون في الخزائن الجهوية والقباضات أن يؤدي تفعيل هذا النص، الذي يدخل حيزالتنفيد مطلع العام المقبل، إلى وضعهم عملياً تحت سلطة الولاة والعمال ووصاية وزارة الداخلية، بما قد يفضي لاحقاً إلى تغيير إطارهم الوظيفي وتحويلهم إلى موظفين تابعين لهذه الوزارة، رغم أنهم اختاروا في مسارهم المهني الانتماء إلى وزارة المالية، وقضى عدد منهم كامل مسارهم المهني داخل أسلاكها.
وبحسب المصادر نفسها، فقد خلفت بداية تنزيل هذا المشروع "احتقاناً ملحوظاً" داخل صفوف موظفي الخزائن والقباضات، الذين يقولون إن وزارتهم "لم تستشرهم ولم تُشرك ممثليهم النقابيين" قبل المضي في تنفيذ مقتضيات القانون الجديد. ونبّهت النقابات الأكثر تمثيلية في قطاع المالية، خاصة النقابة التابعة للاتحاد المغربي للشغل وتلك التابعة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، إلى ما تعتبره "مسّاً بوضعية الموظفين القانونية" دون ضمانات واضحة. نقابات المالية تحذر من "مسّ خطير بالوضعية الإدارية" وتلوّح بإضرابات عامة وتعتزم النقابتان، وفق ما أكده مسؤولون نقابيون، التوجه الاثنين إلى وزارة الاقتصاد والمالية لعقد لقاء مع الوزيرة نادية فتاح العلوي واستفسارها حول خلفيات هذا التحول، مع التلويح بخوض إضرابات عامة في جميع الخزائن الجهوية والقباضات من أجل الضغط لوقف تنفيذ دورية وزير الداخلية إلى حين فتح حوار قطاعي وتوضيح وضعية الموارد البشرية المعنية. ولم يصدر في الأثناء أي تعليق رسمي عن وزارتي الداخلية أو المالية بشأن هذه التحفظات. ويأتي هذا التوتر الاجتماعي في سياق شروع وزارة الداخلية في تفعيل القانون رقم 14.25 بتغيير وتتميم القانون 47.06 المتعلق بجبايات الجماعات الترابية، بعد نشره في الجريدة الرسمية في 12 يونيو 2025. ويهدف هذا الإطار التشريعي إلى ملاءمة النظام الجبائي المحلي مع توجهات الإصلاح الجبائي المنصوص عليها في القانون الإطار 69.19، خاصة في ما يتعلق بعقلنة الوعاء الضريبي، وتبسيط المساطر، وتوسيع صلاحيات الإدارة الجبائية للدولة. خلفية وتفاصيل القانون الجديد ووفق الدورية الموجهة إلى الولاة والعمال ورؤساء الجماعات الترابية، أسند القانون 14.25 إلى المديرية العامة للضرائب مهمة إصدار وتحصيل ثلاثة رسوم محلية أساسية هي الرسم المهني، ورسم السكن، ورسم الخدمات الجماعية، بناء على مبدأ "من يقوم بالإصدار يتولى التحصيل". ويُفترض أن يتيح هذا الإجراء توحيد الجهة المدبّرة والاستفادة من الخبرة التي راكمتها مصالح الضرائب في مجال جبايات الدولة، مع مراجعة القواعد المنظمة لجبايات الجماعات وملاءمتها مع النظام الجبائي الوطني في الوعاء والتحصيل والمراقبة والمنازعات والمساطر الإلكترونية. وبموجب التعديلات الجديدة، سيحل المدير العام للضرائب محل الخازن العام للمملكة في القضايا الجارية أمام المحاكم المتعلقة برسم السكن ورسم الخدمات الجماعية، بينما يتولى القابض الجماعي تحصيل باقي الرسوم المحلية الأخرى، باستثناء الرسم المهني ورسم السكن ورسم الخدمات الجماعية، وهو ما يعتبره بعض الفاعلين النقابيين "إعادة رسم غير معلنة لحدود الاختصاص بين الداخلية والمالية". كما أدخل القانون تعديلاً جوهرياً على طريقة احتساب الرسم على الأراضي الحضرية غير المبنية، من خلال ربط سعر هذا الرسم بمستوى التجهيز في المناطق التي توجد بها العقارات. وبات الرسم يتراوح بين 15 و30 درهماً للمتر المربع في المناطق المجهزة التي تتوفر على أغلب المرافق الأساسية من طرق وماء وكهرباء وتطهير وإنارة عمومية ونقل حضري وجمع النفايات، وما بين 5 و15 درهماً للمتر في المناطق متوسطة التجهيز، وبين نصف درهم ودرهمين في المناطق ضعيفة التجهيز التي تفتقر إلى معظم هذه الخدمات. ويشترط أن يُحدَّد هذا التصنيف بقرار يصدره رئيس الجماعة بعد تأشير العامل، استناداً إلى خريطة محدثة ترصد النفوذ الترابي للجماعة والمدارات الحضرية والمراكز والدوائر المعنية بالرسم، مع إعداد بطائق توصيفية لكل حي أو قطاع أو دوار تحدد حدوده الجغرافية ورمزه ومستوى توفر المرافق العمومية وشبكات الماء والكهرباء والتطهير والإنارة وخدمات جمع النفايات. وتدخل الأسعار الجديدة حيز التنفيذ ابتداء من فاتح يناير من السنة الموالية لتأشير القرار الجبائي المحلي. الدورية دعت أيضاً الجماعات إلى إخبار المواطنين بأسعار الرسوم الجديدة بعد تحيين القرارات الجبائية، عبر الملصقات في المقرات الرسمية والنشر في البوابات الإلكترونية، مع التأكيد على أن طلبات الإعفاء المقدمة قبل وبعد دخول القانون حيز التنفيذ ستُعالج وفق نفس المساطر المعمول بها، مع السهر على تسريع البت فيها استناداً إلى تعليمة سابقة تعود إلى 5 ماي 2021. توسيع صلاحيات الداخلية في التحصيل الجبائي ولضمان فعالية أكبر في التحصيل، نصّت الدورية على تعيين قباض جماعيين لدى الجماعات الترابية، بقرار مشترك بين وزارتي الداخلية والمالية، ليتولوا مباشرة إجراءات التحصيل، بما في ذلك المسطرة الجبرية. كما أوصت بتمكين هؤلاء الأطر من الموارد البشرية والوسائل التقنية اللازمة، وإطلاق حملات توعوية دورية لحث المواطنين على الأداء الطوعي وتقليص حجم المداخيل غير المستخلصة. وفي أفق رقمنة أوسع للخدمات الجبائية المحلية، كشفت وزارة الداخلية عن إعداد إطار قانوني وتقني لإطلاق منصة إلكترونية خاصة بالتصريح الجبائي والأداء عن بعد، مع إمكانية طلب الشهادات الجبائية إلكترونياً، مع الإبقاء مؤقتاً على المنصة الحالية لتبادل المعلومات حول العقارات إلى حين دخول هذه الخدمة الرقمية حيز العمل. ودعا وزير الداخلية في ختام دوريته الولاة والعمال إلى تعميم مضمونها وتوضيح مقتضياتها ومواكبة الجماعات الترابية في تنفيذها، بتنسيق مع المصالح اللاممركزة والشركات الجهوية متعددة الخدمات والمؤسسات العمومية المعنية، في وقت ترى فيه النقابات أن نجاح الإصلاح الجبائي المحلي يمرّ أيضاً عبر "تسوية هادئة ومنصفة" لوضعية الموارد البشرية التي ستجد نفسها في صلب هذا التحول المؤسسي، وسط تهديدات بالتصعيد النقابي قد تعرقل، في حال تنفيذها، النسق الزمني لتنزيل القانون الجديد على أرض الواقع. الصراع الخفي على الصلاحيات... وعودة الداخلية إلى "أم الوزارات" ورغم أن الخلفية المعلنة للقانون 14.25 تبدو تقنية ومرتبطة بتوسيع صلاحيات وزارة الداخلية في مجال التحصيل الجبائي وتنزيل الإصلاحات الجديدة، فإن عدداً من النقابيين يرى أن الأمر يحمل أبعاداً أعمق، إذ يوسّع عملياً من نطاق تدخل الداخلية في مجالات كانت تقليدياً ضمن اختصاص الخزائن الجهوية والقباضات التابعة لوزارة المالية. ويعتبر هؤلاء أن نقل موظفين قضوا سنوات طويلة داخل هياكل الوزارة نحو وصاية جديدة تحت إشراف الولاة والعمال "ليس مجرد تعديل إداري"، بل تحوّل جوهري في موازين السلطة داخل الإدارة الترابية والمالية معاً. وفي هذا السياق، لمح محمد دعيديعة، الكاتب العام للنقابة الوطنية الديمقراطية للمالية التابعة للاتحاد المغربي للشغل، في أحد اللقاءات النقابية، إلى أن ما يجري قد يكون امتداداً ل "صراع في الفوق" بين كبار مسؤولي المالية ومسؤولي الداخلية حول الصلاحيات والاختصاصات. واستعمل دعيديعة تشبيهاً لافتاً حين شبّه الوضع ب "صراع الجمال الذي تتضرر منه السلاحف"، في إشارة إلى أن الموظفين الموجودين في "الصفوف السفلى" قد يدفعون ثمن هذا التجاذب بين مستويات عليا تضم وزيرة المالية والخازن العام للمملكة نور الدين بنسودة من جهة، ووزير الداخلية عبد الوافي لفتيت من جهة أخرى. ويأتي كل ذلك في سياق تعرف فيه وزارة الداخلية عودة قوية إلى مركز القرار الحكومي، بعدما تولت الإشراف على الجيل الثاني من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وعلى الإعداد للانتخابات، وعلى عملية إعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الأطلس، إضافة إلى قيادتها عملية الإحصاء الوطني للقطيع. هذا الاتساع المطرد في نطاق تدخلها جعل بعض المتابعين يعيدون إلى الأذهان حقبة سيطرتها الشاملة على الحياة السياسية في المغرب خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حكم الملك الراحل الحسن الثاني، حين كانت تُوصف ب"أم الوزارات" أو "الحزب السري"، في إشارة إلى امتداد أذرعها داخل المدن والقرى والمداشر. وبالنظر إلى حجم الملفات التي تجمع اليوم بين صلاحيات المالية والداخلية، يرى هؤلاء أن مآلات هذا التجاذب قد تحدد ليس فقط مسار الإصلاح الجبائي، بل أيضاً شكل العلاقة بين الإدارتين الأكثر نفوذاً داخل الدولة المغربية.