أعاد تصريح أدلى به حمدي ولد الرشيد، رئيس جهة العيون الساقية الحمراء، لإذاعة محلية، إشعال جدل سياسي واجتماعي واسع في الصحراء، بعدما اعتبر فيه أن الحكم الذاتي، كما يقترحه المغرب لحل نزاع الصحراء واعتمده مجلس الأمن في قراره الأخير كأرضية للمفاوضات المقبلة، ينحصر في الأقاليم التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني، وأن جهة كلميم واد نون غير معنية به لأنها "خارج السياق"، على حد تعبيره. وقد بدا أن هذه العبارة القصيرة، التي قالها بنبرة واثقة، مسّت أعصاباً حساسة لدى جزء واسع من نخب جهة كلميم وادنون التي رأت في كلامه محاولة لإعادة ترسيم حدود الانتماء داخل المشروع الوطني وفق منطق فوقي يقرر من يدخل في الحكم الذاتي ومن يُستبعد منه، في لحظة دقيقة تعيش فيها قضية الصحراء منعطفاً دولياً غير مسبوق.
منطق القانون: هل ولد الرشيد مخطئ؟ قانونياً، المنطقة المعنية بالحكم الذاتي، وفق المقترح المغربي المودع لدى الأممالمتحدة، هي ما كان يعرف بالصحراء الإسبانية أو "الصحراء الغربية". وبهذا المعنى، فإن جهة كلميم واد نون ليست جزءاً من الإقليم المتنازع عليه دولياً. هذا المعطى يجعل كلام ولد الرشيد منطقياً من حيث التحديد القانوني البحت، لكن طريقة كلامه، كما يرى منتقدوه ، جاءت بصيغة بدت متعالية، وكأن رئيس جهة العيون هو "صاحب المفاتيح" الذي يقرر من يدخل في الحكم الذاتي ومن يُقصى منه، وهو ما استفز نخباً تعتبر نفسها جزءاً من النسيج التاريخي للصحراء، لا مجرد هامش حدودي لها، وترى في جهتها "بابا تاريخيا" للصحراء لا هامشا معزولا عنها. أبودرار : لا للإقصاء وكان محمد أبودرار، عضو مجلس جهة كلميم وادنون عن المعارضة، أول من رد بقوة على تصريح ولد الرشيد، معتبراً إياه كلاماً ينطوي على نزعة إقصائية تتناقض مع جوهر المشروع الوطني، ومذكراً بأن جهة وادنونة هي أصل الصحراء قبل أن تكون ضيفتها. وأوضح أبودرار أن الحكم الذاتي لم يُبنَ على خرائط الأمس ولا على منطق التعويض عن استعمار سابق أو نزاع حدودي، بل صيغ كتوجه سيادي يرمي إلى تدبير مجال متعدد الانتماءات والخصوصيات ضمن رؤية مستقبلية قد تشمل جهات أخرى مع تطور اللامركزية. واستحضر أبودرار البرنامج التنموي للأقاليم الجنوبية الذي شمل الجهات الثلاث دون استثناء، والخطاب الملكي الذي اعتبر جهة كلميم واد نون جزءاً من المشروع الاستراتيجي الذي يربط الأمن بالتنمية، مؤكداً أن هذه المعطيات كافية لنسف أي محاولة لتقسيم الجهة إلى "أصلية" و"ملحقة". وذكّر أبودرار بأن "مفرقعات" "البوليساريو"، وإلى أشهر قليلة مضت، كانت تتساقط على رؤوس أبناء وادنون في المحبس، وليس وسط العيون. وأن خروج إسبانيا من الإقليم لم يكن منحة سياسية، بل نتيجة مسار طويل بدأ بتحرير سيدي إفني سنة 1969 على يد قبائل وادنون، وعلى رأسها آيت باعمران، مشيرا إلى أن آلاف الأسر من وادنون أٌسكنت في "مخيمات الوحدة" للمشاركة في الاستفتاء باعتبارها من نسيج القبائل الصحراوية. الصيباري: لا شيء حٌسِم وفي مقابل الحدة التي اتسم بها خطاب بعض المنتقدين، اختار النائب البرلماني محمد الصباري، من كلميم، لهجة أكثر اتزاناً، مؤكداً بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال أن ملف الحكم الذاتي "ورش سيادي تُديره الدولة برؤية ملكية واضحة"، وأن التعبيرات الغاضبة الصادرة عن أبناء الجهة مشروعة ومفهومة، لكنها لا ينبغي أن تتحول إلى قراءات متسرعة أو مواقف قد تُستغل خارج سياقها الوطني والدبلوماسي. واعتبر الصباري أن القضايا السيادية لا تُحسم بتصريحات فردية، وأن المؤسسات الدستورية هي وحدها المخولة لرسم الإيقاع واتخاذ القرارات، داعياً إلى الرزانة واحترام مؤسسات الدولة وعدم الانجرار وراء نزاعات جهوية أو قبلية يمكن أن تربك المشهد العام. ولم تتأخر صفحات محلية على فيسبوك، في جهة كلميم واد نون، في التقاط لحظة الجدل، معتبرة أن تصريحات ولد الرشيد ليست جديدة وإنما تكرار لخطاب ظل مستمراً منذ سنوات، وأن المشكلة ليست في ما يقوله الرجل بل في "ضعف النخب الودنونية التي لم تستطع عبر عقود فهم قواعد اللعبة السياسية ولا امتلاك الجرأة والقوة لفرض موقعها داخل المعادلة الوطنية"، محذّرة من أن من لا يستطيع تموقع نفسه سياسياً سيظل خارج دائرة القرار مهما قيل. هذا الرأي لخّص هاجسا شائعا في المنطقة يختزل ما يشعر به جزء من أبنائها من أن ظلت تُعامل كمنطقة وسطى، ليست مستفيدة بالكامل من امتيازات وريع الصحراء، وليست أيضاً جزءاً من العمق الاقتصادي والاجتماعي للمغرب الأطلسي الصحراوي، ما يجعلها في وضع هشّ، بين عالمين، يتكرر عبر الزمن. تاريخ مشترك ونسيج ثقافي واحد ما فجّر غضب نخب كلميم واد نون ليس فقط مضمون تصريح ولد الرشيد، بل الخوف القديم الجديد من أن تتحول جهتهم إلى منطقة مهمشة كما ظلت كذلك طيلة الخمسين سنة من زمن نزاع الصحراء، رغم أنها تحملت أكبر كفلة لهذا النزاع. وخلال نصف قرن ظلت الجهة تعيش مفارقة قاسية، فمدينة كلميم، ومعها طانطان، لم تكونا مجرد بوابة للصحراء، بل كانتا القاعدة الخلفية الأساسية لجيش التحرير في خمسينات القرن الماضي، قبل أن تٌقدم الدولة المغربية على تفكيكه، وهي المنطقة نفسها التي خرجت منها القيادة التاريخية لجبهة البوليساريو في سبعينات القرن الماضي لتؤسس تنظيمها السياسي والعسكري. وخلال حرب الصحراء منذ 1975 حتى وقف إطلاق النار عام 1991 شكلت نفس الجهة عمقاً استراتيجياً للصحراء ورافداً أساسياً للجيش المغربي، خاصة في صفوف "فرق الوحدات" التي صنعت الفارق في المعارك خلال تلك الحرب الدامية المنسية. وفي فترة وقف إطلاق النار شكلت منطقة واد نون خزّاناً بشرياً أساسياً للقبائل الصحراوية في مراحل التسجيل للاستفتاء، عندما قامت الدولة في تسعينات القرن الماضي بترحيل آلاف الأسر من جهة كلميم وادنون، قسرا، إلى العيونوالداخلة وبوجدور وسمارة باعتبارها تنتمي إلى نفس النسيج القبلي للمنطقة، وقد أصبح جزءاً مهماً من تلك الأسر التي استقرت في "مخيمات الوحدة" جزءاً من البنية الاجتماعية والسياسية للأقاليم المتنازع عليها، بل وربما يشكلون إحدى أكبر الكتل الديموغرافية داخلها. وفي العقد الثلاثة الأخيرة عندما ظهرت تنظيمات ما عرف إعلاميا ب "بوليساريو الداخل"، كان أبرز رموزه وقادته في بداية التسعينات يتحدرون من جهة كلميم واد نون، بحكم الانتماء والعصبية القبلي، والتداخل الثقافي والاجتماعي مع ساكنة الأقاليم المتنازع عليها، والمصير والمستقبل المشترك بينهما. تهميش تاريخي يتكرر لكن، رغم كل هذا التاريخ المشترك، بقيت جهة كلميم واد نون في منطقة الانتظارات المؤجلة، وخارج دائرة الامتيازات التي خصت بها الدولة المركزية الأقاليم الصحراوية، حُرمت من جميع التفضيلات التي استفادت منها الأقاليم الصحراوية في الساقية الحمراء ووادي الذهب، لم تستفد من الإعفاءات الضريبية التي تحصل عليها الأقاليم الصحراوية منذ السبعينات، ولم تستفد من التعويضات الجزافية الممنوحة لموظفي الدولة في الصحراء حتى اليوم، ولا تتلقى ساكنتها دعماً مباشراً للأسر أو للمحروقات كما هو الحال في الداخلةوالعيون والسمارة. وهذه كلها تمييزات اقتصادية وسياسية واجتماعية ظلت سارية طيلة نصف القرن الماضي، جعلت النخب الودنونية تشعر بأن جهتهم ستبقى كما كانت "لا في العير ولا في النفير"، متداخلة عضوياً مع مصير قبائل الساقية الحمراء ووادي الذهب عبر التاريخ والجغرافيا والدم والثقافة وتجربة مقاومة الاستعمار الإسباني والفرنسي معاً وفي حرب تحرير الصحراء، ومحسوبة "سياسيا" على أقاليم الصحراء دون أن تستفيد من امتيازاتها، ومصنفه إدارياً جهة مستقلة من جهات جنوب المغرب دون أن تُعامل بالمساواة مع الجهات الأخرى، ما خلق شعوراً تراكمياً بالغبن وعدم الإنصاف والمساواة. معركة مواقع بين نخب مخزنية يأتي هذا الجدل في توقيت يظل فيه تطبيق الحكم الذاتي بعيد المنال، لأن المفاوضات بين المغرب والبوليساريو لم تبدأ بعد، ولأن القرار الأممي الأخير جاء بدوره محملاً بتناقضات وصيغ حمالة للأوجه، فهو من جهة يتبنى الحكم الذاتي كحل واقعي وجدي وذي مصداقية، ومن جهة أخرى يشدد على حق تقرير المصير، ويدعو إلى مفاوضات بدون شروط مسبقة رغم أنه يجعل من الحكم الذاتي أساساً للنقاش، ويتحدث تارة عن "الأطراف" وتارة عن "طرفي النزاع". هذا الغموض يجعل أي نقاش حول من يُدرج داخل الحكم الذاتي ومن يُستبعد منه سابقاً لأوانه، بل ويجعل الخوض فيه اليوم نوعاً من النقاشات الجانبية التي قد توظَّف خارج سياقها. في المحصلة، يبدو السجال حول موقع كلميم واد نون داخل مشروع الحكم الذاتي نقاشاً مفتعلاً في توقيت غير مناسب، لكنه كشف عن جروح اجتماعية وسياسية أعمق ظلت مؤجلة لعقود، تتعلق بالتمييز بين الجهات، بتوزيع الريع، وبقوة شبكات النفوذ داخل الصحراء وبالطريقة التي صُممت بها علاقة الدولة مع نخب بعينها. سؤال الإنصاف وليس سؤال الإنتماء المؤكد أن الساكنة، في العيون كما في كلميم، لا تعيش صراع هوية، وسكان جهة كلميم واد نون لا يعانون أزمة انتماء، بل أزمة أنصاف، وما تحتاج إليه منطقتهم اليوم ليس سجالاً حول خرائط الحكم الذاتي، بل نقاشاً وطنياً صريحاً حول العدالة المجالية وإعادة الاعتبار للجهات التي لعبت أدواراً محورية في التاريخ ثم وُضعت على الهامش، وإعادة النظر في السياسات التي صنعت نخَباً ريعية لا تمثل إلا نفسها. وإذا لم يُفتح نقاش وطني صريح حول العدالة المجالية، فقد يجد المغرب نفسه في المستقبل أمام "إقليم داخل الإقليم"، يشعر بأنه ينتمي إلى الصحراء لكن خارج امتيازاتها، وينتمي إلى المغرب لكنه خارج مركز اهتمامه. وهذا ما يجعل سؤال وادنون اليوم أعمق من تصريح وأكبر من سجال: إنه سؤال موقع جهة كلميم واد نون داخل المشروع الوطني للصحراء، وسؤال عدالةٍ تاريخية لا يمكن أن تتحقق إلا باعتبار هذه الجهة جزءاً أصيلاً من المعادلة، لا مجرد هامش يمكن تجاوزه أو تركه خلف الركب. وفي الأخير، إنه سؤال الإنصاف قبل أن يكون سؤال الانتماء.