قراءة تحليلية واستشرافية في ضوء ملتقى إطلاقها بقلم: محمد براو تمهيد حضوري صباح اليوم في ملتقى إطلاق استراتيجية الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها 2025–2030 استجابة لدعوة مشكورة من رئيسها بصفتي باحثا وخبيرا متخصصا في الحكامة ومكافحة الفساد، منحني فرصة مباشرة لفهم التحول البنيوي الذي تقوده الهيئة، في سياق التحديات المعروفة والتي كشف عنها أحدث مؤشر دولي للنزاهة. فقد تم تصنيف المغرب وفق مؤشر النزاهة العمومية (IPI) 2025 في الرتبة 66 من أصل 119 دولة، في دلالة على تراجع ملموس في أبعاد النزاهة العامة الأكثر حساسية (استقلال القضاء وحرية الصحافة) رغم التطورات القانونية والمؤسساتية المسجلة بنجاح. تزامن هذا الحدث المؤسسي الاستراتيجي مع صدور نتائج المؤشر الدولي يجعل من الملتقى فرصة تحليلية واستشرافية لفهم قدرة الاستراتيجية الجديدة على معالجة الثغرات البنيوية، وتعزيز الوقاية ومكافحة الرشوة والفساد بفعالية، عبر شراكة بين الهيئة، المؤسسات الدستورية، المجتمع المدني، الإعلام، القطاع الخاص، والباحثون والخبراء. ويعكس هذا المسعى إدراك الهيئة في وجهها الجديد، لمفهوم مكافحة الفساد كفعل جماعي، أي أن نجاح أي استراتيجية لا يتحقق عبر جهة واحدة، بل من خلال شبكة من الفاعلين الذين يتعاونون ويضبطون سلوك بعضهم البعض وفق ما تصوره نظرية الفعل الجماعي Collective Action في مكافحة الفساد. ملامح استراتيجية الهيئة الوطنية 2025–2030 1. قيادة استراتيجية قائمة على النتائج أبرز عرض الرئيس أن الهيئة ستعتمد مقاربة التدبير بالنتائج (Results-Based Management) على جميع مستويات تكوينها، بما في ذلك: 6 محاور رئيسية، 99 مشروعًا محددًا، مؤشرات دقيقة وقابلة للقياس لتقييم الأثر والمخرجات. وهذا يعكس التزام الهيئة بالتطبيق المباشر لتوجيهات الخطاب الملكي ليوم 10 أكتوبر، الذي دعا إلى تحول مؤسساتي وتدبيري نحو النتائج الملموسة وليس مجرد الشعارات التسويقية أو الأرقام التشغيلية. 2. مقاربة شاملة لمكافحة الفساد كفعل جماعي الاستراتيجية تؤكد أن مكافحة الفساد ليست مسؤولية الهيئة وحدها، بل تحتاج إلى: التحالف مع المؤسسات الدستورية والرقابية، التعاون مع القضاء والإدارات العمومية، شراك المجتمع المدني والإعلام، إشراك القطاع الخاص والخبراء في التقييم المستمر. وهذا يعكس التطبيق العملي لنظريات مكافحة الفساد كفعل جماعي، حيث أن التغير السلوكي للفاعلين (الحكومات، الشركات، الإعلام، المواطن) يستند إلى شبكة من الحوافز والمراقبة المتبادلة لضمان الالتزام بالنزاهة. 3. التركيز على الوقاية الهيئة لا تركز فقط على الرصد والمساءلة، بل على البعد الوقائي والعمل الاستباقي الجماعي، عبر: تعزيز الرقابة الداخلية، تحسين الشفافية في الصفقات والاستثمارات العمومية، توظيف الرقمنة لتعزيز التتبع والشفافية، تكوين الموظفين في مبادئ النزاهة والحكامة، تثقيف المجتمع وتربيته وتحسيسه. هنا يظهر بعد الفعل الجماعي، إذ أن الوقاية تتطلب مشاركة منهجية ومستمرة من جميع الفاعلين لضمان تكامل الجهود وتفادي الفراغ المؤسسي الذي يفسح المجال للرشوة. دور القطاع الخاص في مكافحة الفساد 1. شريك أساسي في منظومة النزاهة: الشركات طرف رئيسي في الصفقات والاستثمارات العمومية. ضعف الرقابة أو الانخراط السلبي يفتح المجال للرشوة. تبني مدونات سلوك، الالتزام الموثوق بالشهادات الدولية (ISO 37001)، والمراقبة الداخلية يعزز هذا الدور. 2. التعاون مع الهيئة في الوقاية والتوعية: مشاركة الشركات في برامج التوعية ودعم مؤشرات الأداء، وكونها مراقب غير رسمي للجهات الحكومية، يعكس تطبيقًا عمليًا لنظرية الفعل الجماعي، حيث يلتزم القطاع الخاص بدوره ضمن شبكة من الالتزامات المتبادلة. الدروس المستفادة من التجارب الدولية 1. نماذج ناجحة: جورجيا، إستونيا، تشيلي. القضاء المستقل، الرقمنة الشاملة، والتحالف بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص أدى إلى نجاح ملموس. هذه التجارب تؤكد أن الفعل الجماعي المنظم هو عنصر أساسي للنجاح. 2. نماذج فاشلة أو متعثرة: ضعف استقلالية القضاء، غياب حماية المبلغين، التركيز على التشريعات دون تنفيذ، التباعد مع القطاع الخاص وتهميش المجتمع المدني. هذه التجارب تبرز أن غياب التفاعل بين الفاعلين يؤدي إلى فشل أي استراتيجية. الاستفادة من درس الماضي القريب: الهيئة يجب أن توازن بين الجرأة والشفافية في قيادة الإصلاحات والحذر من الاصطدام بالجهات النافذة، حفاظًا على شبكة الفعل الجماعي وعدم تفكك الجبهة الداخلية للنزاهة. التحديات البنيوية في المغرب وفق أحدث مؤشر دولي وهو مؤشر النزاهة العمومية 2025: 1. استقلالية القضاء: لا تزال تحت تأثيرات ومحاولات التأثير التي تعطي الانطباع بضعف القضاء وتخدش في هيبته الرمزية. 2. حرية الصحافة: تراجع قدرة الإعلام المستقل على كشف الفساد. 3. المساءلة المالية والإدارية: ثغرات تدبيرية ورقابية في الصفقات والاستثمارات العمومية وتمويل الأحزاب. 4. ثقة المواطن: دون الثقة العامة، أو في ظل هشاشتها أي استراتيجية تبقى عرضة للفشل. توقعات مسار الاستراتيجية السيناريو المتفائل تنفيذ جميع المشاريع، تفعيل التحالف الوطني ضد الفساد مؤسساتياً، إشراك المجتمع المدني والإعلام والقطاع الخاص بفعالية. النتيجة: تحسن ملموس في مؤشر النزاهة وارتفاع ثقة المواطنين. السيناريو الوسطي تنفيذ جزئي، استمرار مقاومات المصالح النافذة. النتيجة: تحسن محدود، المغرب دون المعدل الدولي. السيناريو السلبي فشل التنفيذ واستمرار تأثير المصالح الراسخة. النتيجة: تراجع النزاهة وفقدان ثقة المواطنين. توصيات استراتيجية للنجاح 1. حماية استقلال الهيئة من أي تأثير سياسي أو إداري. 2. تفعيل مؤشرات النتائج والتقييم المستقل لكل مشروع. 3. توظيف الرقمنة لتعزيز الشفافية والتتبع في الصفقات والمرافق العمومية. 4. إشراك الإعلام والمجتمع المدني والقطاع الخاص والباحثين والخبراء كأدوات رقابية فعلية ضمن شبكة الفعل الجماعي. 5. التعلم من النماذج الدولية الناجحة، وموازنة الجرأة مع الحذر من الاصطدام بالجهات النافذة. ختاما استراتيجية الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها 2025–2030 تمثل فرصة تاريخية لإعادة توازن النزاهة العمومية بالمغرب عبر: قيادة جريئة وذكية، مؤشرات قياس دقيقة، تحالف مؤسسي فعال بين الدولة، المجتمع المدني، الإعلام، القطاع الخاص، والخبراء، حكامة مستقلة ومسؤولة، اعتماد مكافحة الفساد كفعل جماعي يضمن التزام جميع الفاعلين. فقط بهذه الشروط يمكن النهوض بمنظومتنا الوطنية للنزاهة وتحويل مكافحة الفساد من شعار سياسي أو عنوان لحسن النوايا إلى أجندة وطنية واقعية تعزز الثقة بين المواطن والدولة أو "تعيد تثبيتها" بتعبير رئيس الهيئة، وتتقدم بالمغرب صعودا في سلم التصنيفات الدولية للنزاهة. خبير دولي في الحكامة ومكافحة الفساد