العرائش أنفو في زمن تتسارع فيه نبضات القلوب المغربية شوقا لاستضافة مونديال 2030، وتتطاير الأرقام والوعود كأوراق الخريف، يقف المواطن المغربي أمام سؤال عميق يخترق ضجيج الفرحة والحماس: هل نحن نبني قصورا للأحلام على أنقاض حاجاتنا الأساسية؟ سؤال قاس، لكنه ضروري في زمن أصبحت فيه الأرقام تتحدث بلغة أوضح من الشعارات. فعندما تشير الدراسات إلى أن تنظيم مونديال 2030 سيكلف المغرب ما بين 50 إلى 60 مليار درهم (حوالي 5 إلى 6 مليارات دولار)، والعائد المتوقع لا يتجاوز 2 مليار دولار، فإن المعادلة الحسابية تصبح واضحة بصراحة مؤلمة. الأرقام لا تكذب، والواقع أمر دعونا نتحدث بلغة الأرقام، فهي اللغة الوحيدة التي لا تقبل التأويل. ميزانية قطاع الصحة في المغرب تبلغ 32.6 مليار درهم، وهو رقم ضئيل مقارنة بالاستثمارات المخصصة لحدث رياضي يدوم شهرا واحدا. هذا يعني أن تكلفة المونديال تعادل ميزانية القطاع الصحي لسنتين تقريبا. المفارقة تزداد إيلاما عندما نعلم أن الصندوق الوطني لتنمية الرياضة رصد مبلغ 200 مليار سنتيم (2 مليار درهم) فقط لتحديث البنيات التحتية الرياضية، وهو مبلغ يكاد يكون قطرة في بحر مقارنة بحجم الاستثمار الإجمالي المطلوب. حين تصطدم الأحلام بالواقع لا أحد ينكر أن استضافة كأس العالم حلم مشروع لأي بلد، والمغرب ليس استثناء. لكن الحلم المشروع يصبح كابوسا عندما يتحقق على حساب الحاجات الأساسية للشعب. فماذا تنفع الملاعب الحديثة إذا كانت المستشفيات تفتقر للمعدات الأساسية؟ وماذا تجدي الطرق السريعة نحو الملاعب إذا كانت طرق التعليم والصحة مليئة بالحفر؟ التجارب الدولية تصرخ بالحقيقة. البرازيل أنفقت 15 مليار دولار على مونديال 2014، ولكن بعد انتهاء الحفل، عادت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية أقوى من ذي قبل. وجنوب أفريقيا، رغم تنظيمها لمونديال 2010، لا تزال تعاني من نفس المشاكل التي كانت تأمل في حلها عبر البطولة. الوعود الذهبية والحقائق الصعبة الوعود تتطاير كالفراشات الملونة. عائدات السياحة العام 2030 سوف تقارب 120 مليار درهم، كما تشير التقديرات المتفائلة. لكن هذه الأرقام تبقى مجرد توقعات، والتاريخ مليء بالتوقعات التي لم تتحقق. الحقيقة أن المغرب يحتاج إلى تنمية مستدامة، وليس إلى حدث استعراضي يخطف الأنظار لشهر واحد ثم يتركنا نعد الديون لسنوات طويلة. المغرب يحتاج إلى استثمارات في التعليم والصحة والبحث العلمي، وهي استثمارات تحقق عائدا حقيقيا على المدى الطويل. عندما تصبح الأولويات مقلوبة المأساة الحقيقية ليست في استضافة المونديال، بل في الطريقة التي نتعامل بها مع الأولويات. كيف نبرر إنفاق مليارات الدولارات على ملاعب ستستخدم لأسابيع قليلة، بينما مستشفياتنا تعاني من نقص في الأدوية والمعدات؟ كيف نفسر بناء فنادق فاخرة لاستقبال السياح الأجانب، بينما أطفالنا يتعلمون في فصول مكتظة ومباني متهالكة؟ هذا ليس تشاؤما، بل واقعية. المغرب لديه إمكانيات هائلة، لكن الطريقة التي نستثمر بها هذه الإمكانيات تحدد مستقبلنا. وإذا كان اختيارنا هو الاستثمار في الأحلام قصيرة المدى على حساب التنمية طويلة المدى، فإننا نضع مستقبل أجيالنا القادمة على كف عفريت. الحل ليس في إلغاء الحلم، بل في ترشيده لا أدعو إلى إلغاء مونديال 2030، فهو حق مشروع ومكسب سياسي ودبلوماسي مهم. لكنني أدعو إلى التفكير العقلاني في كيفية تحقيق هذا الحلم دون تدمير الحاضر. المونديال حلم جميل، ولكن الأحلام الجميلة قد تتحول إلى كوابيس إذا لم نتعامل معها بحكمة. المغرب اليوم أمام اختبار حقيقي: هل سيختار الاستثمار في المستقبل أم في الماضي؟ هل ستكون قصور الأحلام التي نبنيها على أنقاض حاجاتنا الأساسية، أم ستكون استثمارا ذكيا يحقق أحلامنا دون تدمير واقعنا؟ الجواب يكمن في قدرتنا على التوازن بين الحلم والواقع، بين الطموح والحكمة، بين البريق الرياضي والتنمية الحقيقية. والوقت الآن لنتخذ القرار الصحيح، قبل أن نجد أنفسنا نحتفل في ملاعب فاخرة بينما مستشفياتنا ومدارسنا تنهار من حولنا. المغرب يستحق الأفضل، والمغاربة يستحقون تنمية حقيقية وليس مجرد أحلام جميلة تتبخر مع انتهاء المباراة الأخيرة.