العرائش أنفو بقلم سعيد ودغيري حسني كانت الدارالبيضاء فى الخمسينيات تشبه شابة خرجت من الحمّام البلدي تتلمّس أنفاسها بعد الغسل مدينة ناعمة الملامح تتزيّن بالبياض كما يدل اسمها تشمّ رائحة الصابون البلدي فى الأزقة وصوت الماء يتهامس من نافذة إلى أخرى كأن كل بيت يغني للأناقة والنظافة فى آن كانت القمامة تُعامل كعيب والغبار كفضيحة ومن ألقى شيئًا أمام بيته دون غطاء عليه أن يدفع ضريبة صغيرة اسمها ماية ريال وريال مية وواحد ضريبة حقيقية تُؤدى نقدًا يكتبها المراقب فى دفتره الصغير ويضعها فى سجل البلدية كانت تلك الماية ريال وريال تساوي وقتها قوت يوم لكنها كانت تساوي أكثر من ذلك فى معناها كانت قانون جمال وعقد مواطنة وعهد غير مكتوب بين الناس والمدينة فى درب السلطان حيث ساحة السراغنة التى كانت تُعرف قديماً بعوينة الصابون وحيث كانت العيون تفور بماء نقي يغسل الذاكرة قبل الثياب كان المراقبون يجوبون الشوارع بزيّ يشبه المخازنية لكن في قلوبهم حنان البستانيين يحرسون الحدائق ويقيسون النظام بنظراتهم وكان الناس يهابون المخالفة ليس خوفاً من الغرامة بل احتراماً للمدينة التى كانت تعتبر النظافة شرفاً فى الحدائق لوحات مكتوبة بالدارجة لا تقربوا النباتات كأنها وصية من الأرض تحذر أبناءها من الجفاء وكان الأطفال يقرؤونها ويضحكون ثم يبتعدون احترامًا وكانت الطيور أكثر التزامًا من الناس اليوم لا تهبط إلا حيث المسموح أما الحافلات فكانت فصولاً من الأدب العام الركاب يصعدون بانتظام لا تدافع لا ضجيج والمقاعد الأمامية مكتوب عليها مخصص للمرضى والحوامل تجلس المرأة بكرامة ويقوم الشاب تلقائيًا إن رأى كهلاً أو مريضًا والسائق رجل مهاب لا يُكلم أثناء القيادة ففى الحافلة كانت القوانين تُحترم كأنها صلاة المدينة فى تلك السنوات كانت تُربّي أبناءها لا بعصا السلطة بل بوعي الجمال وكانت الضريبة ماية ريال وريال رمزًا لتلك التربية تقول للناس إن الجمال مسؤولية وإن النظافة ليست ترفًا بل واجبًا وطنياً مثل أداء الصلاة أو رفع العلم ثم جاءت السنوات تغيّر الناس وتبدلت الملامح جفّت عوينة الصابون وبقيت الساحة تتذكر الماء كشيء حلميّ وتتذكر النسوة وهنّ يغنين للصابون البلدي وصارت المدينة أكبر لكنها فقدت بعضًا من طفولتها فقدت انضباطها واختفى المراقبون وغاب دفتر المخالفات وصار الشارع مرآة للفوضى والنافذة تُعلن الغسيل لا الجمال والقمامة تتحدث بصوتٍ عالٍ فى الصباح أين ذهبت تلك الماية ريال وريال التى كانت تردع وتربّي وتجمّل ضريبة صغيرة لكنها صنعت جيلًا كاملاً من المواطنين المحترمين جيلًا يعرف أن الجمال العام هو وجه الأمة وأن النظافة ليست عملاً منزلياً بل انتماء وفى الهامش تنام الحكاية القديمة حكاية ساحة السراغنة قبل أن تُغيّر اسمها كانت تُعرف بعوينة الصابون وكانت هناك عين ماء صافية تخرج من جوف الأرض يغسل فيها الناس ملابسهم بالصابون ديال الحجرة او تغشت وهي مادة تعوض الصابون قديمه قدم التاريخ ويرجعون منها بملابس تفوح برائحة النظافة والطهر كانت العين ملتقى النساء تتعالى حولها الضحكات والحديث عن الأزواج والأطفال والمواسم وكان الماء شاهدًا على تفاصيل حياة بسيطة تختلط فيها رغوة الصابون بعبق العفة ومع مرور الزمن جفّت العين وغاب الصابون لكن الاسم بقي في الذاكرة يحمل حنين مدينة كانت تعرف كيف تجمع بين الطهر والجمال بين النظام والعفوية بين الماية ريال وريال وعوينة الصابون الذاكرة البصرية للمدينة كانت الدارالبيضاء تُشرق كلوحة زيتية الشوارع مرصوفة بالحجارة الكبيرة والأرصفة مكتظة بأقدام المارة المتعجلة والمتأنية فى آن المقاهي كانت زوايا اجتماعية صغيرة يتجمع فيها الرجال لتبادل الأخبار والنساء يحملن الصابون والعطور على الطرقات والأطفال يركضون حول العربات الخشبية تتبعها رائحة الخبز الطازج من الأفران وكانت السينما أبوابها مفتوحة للضحك والبكاء والموسيقى الأجنبية لوحات الأفلام تزين جدران الشوارع والألوان تتوهج تحت أشعة الشمس الإنارة كانت بسيطة مصابيح الغاز أو الكهرباء الخافتة تلمع على الأرصفة تعطي للشوارع شعوراً بالدفء والسلام وكانت الأزقة ضيقة ولكنها نظيفة يكاد المرء يسمع صوت الماء وهو يسيل من الساحات الصغيرة ويشمّ رائحة الطين المبلل بعد المطر الملابس كانت تعكس انضباط الحياة نفسها الرجال يرتدون القميص المكوي والبنطال نظيفًا والنساء يرتدين الجلابيب التقليدية أو فساتين الصيف بعناية الألوان متناسقة مع نظافة البيوت والشوارع والأطفال يحملون حقيبة المدرسة مرتبة يذهبون مع شروق الشمس ويعودون عند الغروب كل شيء في المدينة يتحرك بتناغم حتى الحافلات كانت جزءًا من المشهد الفني تنتظر الناس بدقة ولا تتأخر عن مواقيتها وكانت الدراجات الهوائية والعربات الصغيرة تكمل الحياة اليومية كل زاوية تحكي قصة وكل نافذة تُزيّن يوم المدينة الموسيقى كانت حاضرة في الهواء من إذاعات صغيرة أو من صياح الباعة في الأسواق من الأصوات المرحة للحدائق ومن صفارات القطارات المدينة كانت حية بكل الحواس والنظام كان جزءًا من جمالها حتى الماية ريال وريال كانت تحرس هذا التناغم تمنع الفوضى قبل أن تولد وتزرع في الناس احترام المكان والزمن اليوم تتغير المدينة وتظل صور تلك الحقبة حية في الذاكرة كأنها فوتوغرافية بالأبيض والأسود تخبرنا أن النظافة والانضباط ليسا مجرد عادات بل جمال يُرى ويُحس ويُقدّر وأن الضريبة الصغيرة التي اسمها ماية ريال وريال كانت ثمنًا حقيقيًا للحفاظ على وجه المدينة وكرامة أهلها وعطر أيامها الخمسينية التي لا تزال تتنفس بين الحجارة والشوارع بين الساحات والعيون القديمة وتعلّمنا أن الحب الحقيقي للمدينة هو أن نعتني بها كما اعتنت هي بنا بالماء وبالريال وبالحياء