أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    "بوكينغ" أمام دعوى من آلاف الفنادق بأوروبا        أستراليا تتهم مواطنة صينية بالتجسس        عاكف تتوج ببطولة "فريستايل إفريقيا"        الدرونات تساعد على سرقة السياح في تايلاند    ترتيب شباك التذاكر في سينما أميركا الشمالية    جماهري يكتب: من أجل قواعد نهائية في تدبير الانتخابات    الأداء الإيجابي يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين بالمغرب    كيوسك الإثنين | مراكش والدار البيضاء ضمن الوجهات الأكثر جاذبية للسياح الأمريكيين    تقرير: ارتفاع في عدد المهاجرين غير النظاميين إلى سبتة ومليلية المحتلتين منذ بداية 2025        حين يغيب تكافؤ الفرص… تضيع شفافية الانتخابات    سوق الشغل في المغرب خلال الفصل الثاني من 2025.. مؤشرات متباينة وسط تداعيات الجفاف وتراجع الفلاحة    فرنسا ترحل طالبة فلسطينية إلى قطر بعد اتهامها بكتابة منشورات "معادية للسامية"    بطولة انجلترا: تشلسي يتعاقد مع الظهير الأيسر الهولندي هاتو    حماس تقول إنها لن تسمح للصليب الأحمر بالوصول إلى الرهائن إلا إذا تم فتح ممرات إنسانية    وفاة الممثلة الأميركية لوني أندرسون عن عمر ناهز 79 عاما    دراسة كندية: لا علاقة مباشرة بين الغلوتين وأعراض القولون العصبي    حادثة مأساوية بطنجة.. مصرع سيدة وسقوط سيارة في مجرى واد بعد اصطدام عنيف    مسيرة تناصر قطاع غزة من ساحة الأمم إلى أبواب ميناء "طنجة المدينة"    ‬إسبانيا ‬تزيل ‬علمها ‬من ‬جزيرتين ‬قبالة ‬الحسيمة ‬دون ‬إعلان ‬رسمي.. ‬    رواج الموانئ المغربية يسجل ارتفاعا ب11,6% خلال النصف الأول من 2025    المغرب.. أقدم أصدقاء أمريكا وركيزة في مسار العلاقات التاريخية    السكتيوي: الفوز على أنغولا نتيجة نضج تكتيكي واضح    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    مصرع طيار وابنه في تحطم طائرة خفيفة في إسبانيا    حريمات أفضل لاعب في لقاء أنغولا    الشركات الرياضية تختبر حدود التمويل والحكامة في كرة القدم المغربية    إعفاء رئيس المجلس العلمي المحلي لفجيج..بن حمزة يوضح    الجزائر تروج لوثيقة وهمية للطعن في اعتراف أمريكا بمغربية الصحراء    شخصيات مقدسية تشيد بمبادرة الملك محمد السادس إرسال مساعدة إنسانية وطبية عاجلة لسكان قطاع غزة    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية النيجر بمناسبة العيد الوطني لبلاده    لفتيت يقدم خطة الدولة من 7 أهداف لتعزير المسار الديمقراطي والأحزاب ملزمة بتقديم ردها قبل نهاية غشت    مبابي يشهد.. حكيمي يحترم النساء حتى وهو في حالة سُكر    "3 لاءات" نقابية تواجه خطط الإصلاح الحكومية لأنظمة التقاعد المغربية    موجة حر وزخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وبهبات رياح من الأحد إلى الجمعة بعدد من مناطق المغرب    نازهي يسائل وزير الثقافة حول اختلالات مسرح محمد عفيفي بمدينة الجديدة    جمعية أنزا الهجرة والتنمية تنظم الدورة الرابعة لمهرجان المهاجر    دراسة تحذر: هل يكون عام 2027 بداية نهاية البشرية بسبب الذكاء الاصطناعي؟    "عرش المحبة حين يغني المغرب في قلب تونس"    النجمة أصالة تغني شارة "القيصر" دراما جريئة من قلب المعتقلات    المركز السوسيوثقافي أبي القناديل يحتظن حفلا مميزا تخايدا لذكرى 26 لعيد العرش المجيد    السياسة وصناعتُها البئيسة !    اختتام معرض الصناعة التقليدية بالعرائش        دراسة: الانضباط المالي اليومي مفتاح لتعزيز الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية    بنكيران يدعو شبيبة حزبه إلى الإكثار من "الذكر والدعاء" خلال عامين استعدادا للاستحقاقات المقبلة    حبس وغرامات ثقيلة تنتظر من يطعم الحيوانات الضالة أو يقتلها.. حكومة أخنوش تُحيل قانونًا مثيرًا على البرلمان    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    دراسة: مشروب غازي "دايت" واحد يوميا يرفع خطر الإصابة بالسكري بنسبة 38%    دراسة تُظهِر أن البطاطا متحدرة من الطماطم    التوفيق: كلفة الحج مرتبطة بالخدمات    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    تطوان تحتفي بحافظات للقرآن الكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رائحة أوروبا لم تكن تطاق!
نشر في المساء يوم 14 - 05 - 2008

أوروبا الحالية لا علاقة لها إطلاقا بأوروبا العصور الوسطى، أو حتى أوروبا القرن التاسع عشر. والأوروبي الحالي الأنيق والنظيف و«المفركس» لا علاقة له أيضا بذلك الأوروبي الذي عاش قبل بضعة قرون، والذي كان يعتقد أن الاغتسال يسبب أضرارا بدنية وصحية، وأن الأطفال الذين يستعملون الماء كثيرا تتعرض أبدانهم للهشاشة. في تلك الأيام البعيدة، كان أغلب الأوروبيين يغتسلون في مناسبتين، الاستعداد للزواج، أو في حالة المرض.
هذه ليست نكتة، بل حقائق صدرت منذ سنوات طويلة في مذكرات الكاتب ساندور ماراي، الذي ولد في بداية القرن العشرين في عائلة بورجوازية ذات أصول نمساوية هنغارية، وأصدر كتابا يؤرخ لتاريخ الوساخة في أوروبا، بل أيضا لتاريخ الوساخة في عصره، حين يعترف بأن الاعتقاد الذي كان شائعا في عائلته الغنية هو أن الاغتسال الكثير يضر بالصحة.
ويقول ماراي في كتابه «اعترافات بورجوازي»، إن الحمامات وأماكن الاغتسال في قصور وإقامات الأغنياء كانت مجرد ديكور، وأن الكثير من هؤلاء الأغنياء كانوا يتذكرون الماء خلال الأعياد فقط، وأحيانا يغتسلون مرة واحدة كل عام. أكيد أن رائحة أوروبا كانت لا تطاق.
اعترافات هذا البورجوازي لم تقتصر فقط على ما عاشه وسط عائلته الغنية ومع عائلات بورجوازية أخرى، بل أيضا امتدت لتشمل تاريخا طويلا من العفن الأوروبي، والذي كان يبدأ بالتبرز في الشارع أمام الملأ، وينتهي بإلقاء الجثث المتحللة من النوافذ في انتظار أن تمر عربات نقل الجثث وتدفنها في مقابر جماعية ضواحي المدن.
الاغتسال في المرض..
يقول ماراي: «كان البورجوازيون الأوروبيون في نهاية القرن التاسع عشر يغتسلون فقط حين يمرضون، أو حين يكونون على وشك الزواج»، ورغم أن هذا الأمر يصعب تصديقه اليوم، إلا أنه كان حقيقة مرة خلال تلك الفترة، أي في القرن التاسع عشر وما قبله.
ويضيف ماراي في «اعترافات بورجوازي» أن الفكرة الشائعة في القرن الثامن عشر كانت هي أن الإنسان يستحم مرة واحدة في حياته. أما الأحصنة التي يركبها الناس فكانت ترش بمساحيق ولا تغسل بالماء والصابون، وأن المارة في شوارع المدن الأوروبية كانوا يضطرون للقفز فوق الفضلات البشرية حتى لا يدوسوها بأقدامهم».
ويستغرب ماراي كيف أن الكثيرين، مع بداية القرن العشرين، وعندما بدأت العادات الأوروبية في النظافة تتغير نحو علاقات أكثر ودا مع الماء، لم يكونوا يصدقون أن الأوروبي كان وسخا إلى درجة مقززة، باستثناء حقب معينة من التاريخ الروماني، وباستثناء طبعا العادات الشرقية في الاستحمام، حيث انتشرت الحمامات والعطور بشكل كبير في الشرق والبلدان الإسلامية، بينما ظل الإنسان الأوروبي يعاني من خوف مرضي من الماء.
ويشير ماراي إلى أنه في الفترة التي كانت نساء أوروبا يتزينّ ويتحلين بأبهى الملابس، فإن الشوارع كانت عبارة عن مزابل حقيقية، حيث كان السكان يضعون فضلاتهم في أكياس، ثم يرمون الأكياس عبر أقرب نافذة، والويل لمن كان له الحظ السيئ في أن تقع تلك الأكياس على رأسه.
«في العصور الوسطى، يقول ماراي، كانت شوارع أوروبا عبارة عن مرتع للفضلات ومعابر للواد الحار، وكانت تعبرها الحمير والبغال والأبقار والماعز والخنازير، فتضيف إليها ما استطاعت، وبعد ذلك يأتي الجزارون فيذبحون المواشي في الشارع العام فتختلط الدماء ومصارين الحيوانات بفضلات البشر، فيصبح كل ذلك منبعا لكل الأمراض الممكنة، وهذا ما جعل أوروبا في أحيان كثيرة مرتعا لأمراض فتاكة وأوبئة خطيرة فتكت بالملايين على مر العصور». كانت المشكلة الأساسية هي العداوة مع الماء.
الخنازير والمطر..
ويتحدث ماراي عن استثناءات أوروبية قليلة في روما وفي الأندلس. «كانت روما أو قرطبة وإشبيلية في أيامها العربية أنظف بكثير من باريس ولندن».
ويصف ماراي المنازل الأوروبية في العصور الوسطى بأن أغلبها كانت بلا غرف استحمام ولا مراحيض، وأن سكانها كانوا ينزوون في ركن قصي من الشارع ويقضون حاجاتهم من دون أي حرج.
ويروي ماراي قصة حدثت للفيلسوف والشاعر الألماني غوته، عندما كان في زيارة إلى إيطاليا، فذهب عند عامل الفندق يسأل أين يمكن أن يقضي حاجته، فأرشده إلى ردهة مفتوحة وسط الفندق.
غير أنه من أغرب ما يرويه كتاب «اعترافات بورجوازي» هو كيف كانت الفضلات البشرية تستعمل من أجل غسل الجلود وتلميع الزجاج، وأن «شركات» كانت تجمع تلك الفضلات في آبار عميقة لتعيد استعمالها في هذا المجال. ويضيف الكتاب: «كانت النظافة مقتصرة على الشوارع الكبرى أو الأماكن التي تمر منها المواكب الرسمية، وأفضل وسائل التنظيف في تلك الفترة هي ترك الخنازير تقتحم الأسواق والشوارع من أجل التهام الفضلات البشرية وبقايا الأكل والخضار، لكنها تلتهم الفضلات وتترك فضلاتها في الشارع، لذلك ينتظر الناس الأمطار لكي تتكفل بجر ما تبقى نحو الوديان والخنادق.
وفي إسبانيا، وبعد سقوط الأندلس وطرد المسلمين أو قتلهم، تحولت مدن البلاد التي كانت مثالا في النظافة والجمال إلى كرنفالات للأزبال. ويورد كتاب «اعترافات بورجوازي» وثائق رسمية من إسبانيا بين 1561 و1761 كيف أن مدينة مدريد مثلا كانت تمتلئ بالأزبال ويرمي فيها الناس المياه المستعملة من النوافذ، وأن ارتفاع عدد السكان في المدينة جعل من شبه المستحيل التخلص من الأزبال، وهو ما دفع المسؤولين إلى محاولة تنظيف الشوارع الرئيسية فقط.
الاغتسال يضعف البدن
ويتساءل ماراي كيف أنه مع عصر النهضة الأوروبية، لم يستطع الكثير من العلماء تفسير أسباب أمراض مثل السفلس أو الطاعون أو الكوليرا، بل إن علماء ظلوا يعتقدون أن الاغتسال بالماء الساخن يضعف الجسم ويعرضه للأمراض. وانتشرت «نصيحة علمية» تقول إن التنظيف يستحسن أن يكون بالوسائل الجافة ومن دون ماء، وأن الأطفال يجب أن ينظفوا وجوههم بخرق من الثوب الجاف، لأن استعمال الماء يفقد الوجه ألوانه الطبيعية ويجعله عرضة لأشعة الشمس وللرياح الباردة.
وحسب دراسة أعدها الكاتب الفرنسي جورج فيغاريل، فإن تقاليد الوساخة وكراهية الماء وصلت إلى الطبقات الأوروبية الراقية، وأنه في حقبة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، وهو ملك سارت بذكره الركبان، كانت النساء الأكثر محافظة على أجسادهن وطهارتهن تغتسلن مرتين في السنة، وأن الملك نفسه كان يغتسل فقط بناء على وصفة طبية، وحين يقوم بذلك فإنه يأخذ في الاعتبار عددا من الاحتياطات الضرورية. ويصف أحد الأطباء الخصوصيين للملك لويس الرابع عشر عملية اغتسال الملك قائلا: «كنت أقوم بإعداد مكان الاغتسال من أجل الملك، وعندما يدخله فإنه يحس بجسده ثقيلا وبصداع في الرأس، وهو شيء لم يكن يحدث له، وهو ما جعلني لا ألح عليه في الاغتسال».
الاستحمام بواسطة الملابس
ويقول ماراي في «اعترافات بورجوازي» إن أفراد الطبقة الراقية كانوا «يغتسلون» بواسطة الملابس، أي أنهم كانوا يغيرون ملابسهم الداخلية باستمرار، أي مرة في الشهر، لأنها كانت تمتص العرق والوسخ، وكانوا يحبذون الظهور بملابس بيضاء.
ويحكي الكاتب الفرنسي بول سكارون، الذي عاش في القرن السابع عشر، في مسرحية «رومان كوميك»، كيف أن الخادم كان يأتي لسيده بمياه نقية ومعطرة، وأنه كان يكتفي بغرغرة بعض الماء المعطر في فمه ثم يبصقه، وينتهي الأمر.
ماراي يقول إن التقدم العلمي والتكنولوجي ساعد إلى حد كبير في تقريب الهوة بين الماء والأوروبيين، أو جزء كبير من الأوروبيين على الأقل، خصوصا وأن الحضارة الأوروبية صارت مهددة بشكل فعلي من القذارة. وفي القرن الثامن عشر، ظهرت بعض نزعات الطهرانية في بعض البلدان الأوروبية، وامتدت تقاليد القرب من الماء لتشمل إصدار قوانين يمنع بموجبها رمي الأزبال والفضلات البشرية من النوافذ، وأصبحت الكثير من المنازل تتوفر على مراحيض، حتى وإن كانت بدائية ولا تستعمل كثيرا، وأصبحت المجالس البلدية التي تسير المدن تنصح السكان بأن يرموا أزبالهم في أمكنة مخصصة لذلك. وفي سنة 1774 اخترع العالم السويسري كارل فيلهيم شيل مادة الكلور، والتي كان يتم خلطها مع الماء والصوديوم من أجل غسل وتنظيف الأماكن النتنة، وكان هذا الاختراع مكسبا كبيرا للإنسان الأوروبي من أجل السير قدما نحو الماء.
العلم أنقذ أوروبا
وفي القرن التاسع عشر، بدأت عدد من مدن أوروبا تستعمل وسائل خاصة من أجل عزل المياه المستعملة عن مياه الشرب. وفي إنجلترا بدأت المراحيض تنتشر بشكل كبير وعليها عبارة «في سي»، وبدأ الأوروبيون ينظمون معارض ومؤتمرات حول آخر وسائل النظافة، وتم اكتشاف أدوية مضادة لعدد من الأمراض الوبائية مثل الطاعون والكوليرا والتيفوس والحمى الصفراء. لقد بدأ الأوروبيون يكتشفون أن الماء لم يكن سيئا إلى تلك الدرجة، وأنه من الممكن الوقاية ضد عدد كبير من الأمراض بوسائل بسيطة مثل غسل الأيدي قبل الأكل أو بعد الخروج من المرحاض. وبعد ذلك أصبح الصابون صديقا للأوروبيين بعد أن كان واحدا من أعداء الجسد.
وفي سنة 1847، اكتشف العالم الهنغاري، إينياك سيملويز، أسباب الإصابة بالحمى القاتلة، والدواء كان بطبيعة الحال هو اعتماد وسائل النظافة.
وفي سنة 1869، اكتشف العالم الاسكتلندي جوزيف لستر وسائل التعقيم ودورها في الحد من الموت بعد العمليات الجراحية، وهو ما دفع الأطباء طبعا إلى الاقتناع في النهاية بأن الماء لا يضر أبدا بالصحة.
لكن رغم كل ذلك فإن بعض الخوف من الماء ظل سائدا في أوروبا حتى بداية القرن العشرين، خصوصا بين أفراد الطبقات الشعبية وفي القرى والمناطق المعزولة، لكن مع مرور الأيام والسنوات تحولت أوروبا من قرية وسخة يرمي فيها الناس جثث موتاهم وفضلاتهم من النوافذ، إلى قارة مشتعلة نظافة وتوجد فيها سلات مهملات في كل زاوية وكل زقاق وعليها عبارة «أنا سلة مهملات» مكتوبة بخمس لغات، وكأن النظافة من أوروبا نحو العالم تفرقت.
أعمار الأوروبيين كانت قصيرة
لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف تسللت تقاليد الوساخة إلى أوروبا، وكيف كانت هذه القارة منعزلة عن تقاليد النظافة التي كانت منتشرة في كل بقاع العالم تقريبا، حتى في أوساط الشعوب البدائية.
ويحكي المؤرخون كيف أن مدن الإمبراطورية الرومانية قديما كانت تتوفر على مراحيض عمومية، وكانت الحمامات التركية تنتشر في مناطق واسعة من شرق أوروبا وآسيا، بل إن هذه الحمامات كانت متعة حقيقية للناس العاديين الذين يعتبرون الاستحمام طقسا محببا يمارسونه بكثير من الحبور.
كانت تقاليد الوساخة تدفع بشكل طبيعي بعض ملوك فرنسا إلى قضاء حاجتهم أمام البشر. وكانت القناعة السائدة وقتها هي أن الوسخ حصانة طبيعية ضد المرض. أي أنه كلما استحم الإنسان أكثر إلا ووجدت الأمراض طريقا سهلا ومفتوحا نحو الجسد.
وعندما كانت الأمراض والأوبئة الفتاكة تعصف بأوروبا بسبب القذارة، كان الناس يمعنون في الوساخة ويحتفظون بالجثث في منازلهم إلى أن تمر عربات تجرها البغال من أجل حمل الجثث. وفي كثير من الأحيان، كان الموجودون في طابق علوي من المنزل لا يكلفون أنفسهم عناء إنزال الجثة عبر الأدراج، فيكتفون بإلقائها من النافذة، فيحملها عمال الجثث فوق العربة. وإذا كانت الجثة متحللة فإن أجزاء منها تبقى في الشارع لتنشر مزيدا من الموت.
أزقة المدن الأوروبية، التي لم تكن معبدة وكانت خليطا من الحصى والرمال، كانت مجمعا لكل أنواع القاذورات، وكان من الصعب تنظيفها، حيث يتم ترك تلك المهمة للمطر الذي كان المنقذ الأكبر للأوروبيين من الفناء.
كانت أعمار الأوروبيين في الماضي قصيرة جدا، وفي كثير من الأحيان لم يكن عمر الرجل أو المرأة يزيد عن خمسين سنة، وفي أحيان أخرى أقل. كانت الوساخة تتحالف مع الحروب والمجاعات والأوبئة لكي تحصد ملايين الأرواح، وكانت هذه معضلة إنسانية استمرت قرونا طويلة.
ورغم أن أوروبا أحدثت قطيعة نهائية مع الوساخة في بداية القرن العشرين، إلا أن المصادر التاريخية والوثائق التي تتحدث عن القذارة الأوروبية ظلت نادرة، ويبقى كتاب «اعترافات بورجوازي» واحدا من المصادر القليلة في هذا المجال. بل إنه حتى تاريخ الفقر في أوروبا، وهو فقر له جذور، لم يحظ بالأهمية المطلوبة، وكان عدد قليل من الدارسين يحاولون رسم المعالم الأولى لتاريخ الفقر في أوروبا، وابتدأت هذه المحاولات بداية سنوات الستينيات والسبعينيات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.