الحلقة الثالثة: العدالة الانتقالية بالمغرب بين المآزق الواقعية وآفاق بناء سلم اجتماعي مستدام العرائش أنفو العلمي الحروني إن مسار العدالة الانتقالية في المغرب كما في أغلب بلدان الجنوب، يواجه جملة من التحديات البنيوية التي تجعل تقدمه محفوفا بمخاطر مزدوجة. فهذه المجتمعات، وهي تحاول معالجة تركات ثقيلة من العنف والانتهاكات، تجد نفسها غالبا أمام مأزقين كبيرين: المأزق الأول يتمثل في الإفلات من العقاب وتهميش الذاكرة الجماعية، حيث يُترك الماضي خلف الظهور دون معالجة أو محاسبة. في هذا الوضع، يحتفظ الفاعلون الذين ارتكبوا الانتهاكات بنفوذهم داخل مؤسسات الدولة، بل وقد يواصلون ممارساتهم دون رادع، مما يعيد إنتاج آليات الظلم نفسها ويُضعف الثقة في مسار الانتقال السياسي. أما المأزق الثاني فهو السقوط في منطق الانتقام وردود الفعل العاطفية، حيث يتحول مطلب العدالة إلى تصفية حسابات، بدل أن يكون بناء عقلانيا لمصالحة وطنية. هذا المسار قد يؤدي إلى مزيد من الانقسامات ويقوّض أسس الاستقرار والسلم. بين هذين الحدين، يصبح إيجاد طريق ثالث قائم على العدالة الرصينة والمصالحة المستندة إلى الحقيقة ضرورة ملحّة. غير أن استمرار هشاشة المؤسسات، وضعف استقلال القضاء، وضغط السياقات الإقليمية والدولية، يجعل بلدان الجنوب – ومن بينها المغرب – تجد صعوبات حقيقية في بلورة رؤية وطنية متكاملة للعدالة الانتقالية. ومادامت هذه العوائق قائمة، يظل استكمال مشروع العدالة الانتقالية مرهونا بقدرة الدول على تطوير مؤسسات قوية، وإرساء ثقافة حقوقية راسخة، وتعزيز السلم الاجتماعي كخيار جماعي يضمن عدم تكرار الانتهاكات، ويحول التجارب المؤلمة للماضي إلى دعامة لمستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. أمام ما يطبع مسار العدالة الانتقالية بالمغرب من اختلالات بنيوية، وما يحيط به من مآزق واقعية تتراوح بين الإفلات من العقاب ومنطق الانتقام، يبرز بوضوح أن الاكتفاء بالتشخيص أو باستحضار التجارب السابقة لم يعد كافيا. فالسؤال الحقيقي لم يعد هو: ماذا حدث في الماضي؟ بل أصبح بالأساس: كيف نحول معالجة الماضي إلى رافعة للبناء الديمقراطي وضمان عدم التكرار؟ إن تجاوز أعطاب تجربة هيئة الانصاف والمصالحة، واستثمار ما راكمته من دروس، يفرض الانتقال من منطق التوصيف إلى منطق الفعل، ومن سرد الانتهاكات إلى بلورة اختيارات عملية قادرة على إعادة الاعتبار للضحايا، وتعزيز الثقة في المؤسسات، وربط العدالة الانتقالية بأفق ديمقراطي واضح. من هنا تطرح بإلحاح ضرورة الإجابة عن السؤال المحوري: ما العمل من أجل عدالة انتقالية منتجة للسلم الاجتماعي في المغرب؟ أولا – في ضرورة تحصين أولويات العدالة الانتقالية أحد الأمور الأساسية عند تنفيذ تدابير العدالة الانتقالية هو تقديم الاعتراف بالضحايا. لكن الاعتراف لا يعني فقط الإقرار بالمعاناة الكبيرة التي تحملوها، على الرغم من أن ذلك جزء مهم من إظهار الاحترام لهم. ووفقا للتجارب الدولية، فالاعتراف الأساسي الذي يسعى إليه الضحايا، هو الاعتراف بهم كمواطنين متساوين، كأفراد يتمتعون بحقوق يمكنهم ممارستها. الهدف هو إعادة الكرامة للضحايا، وإعادة بناء المفاهيم الأساسية لما هو صواب وما هو خطأ، التي غالبًا ما يتم قلبها رأسا على عقب بسبب الفظائع التي وقعت، بحيث تصبح أسوأ أنواع السلوكيات أمورا طبيعية. ثانيا – تعزيز المؤسسات العدالة الانتقالية تساعد أيضا على تعزيز المؤسسات وتقويتها أو إعادة بنائها على أساس الشرعية، سواء من خلال إصلاح القضاء وتعزيز عمل المحاكم التي خذلت الناس لفترات طويلة. العدالة الانتقالية تقدم فرصة للمجتمعات للتفكير في معنى العيش في مكان مليء بالظلم. من الضروري مواجهة الماضي بصدق، والبحث عن الحقيقة بشأنه. ثالثا- القناعة الجماعية بأن العدالة الانتقالية هي بوابة للمستقبل أرى العدالة الانتقالية وسيلة لمعالجة الماضي بحيث يصبح من الممكن بناء مستقبل أفضل. ففقط عند مواجهة الماضي، يمكن تحقيق مستقبل ديمقراطي وتنمية شاملة. أما إذا حاولنا التغطية على الماضي وتجاهل المساءلة والحقيقة، فسنكون أكثر عرضة لتكرار نفس الانتهاكات. إذ العدالة الانتقالية في جوهرها تدور حول هذا المفهوم: معالجة الماضي لضمان مستقبل مستقر وعادل وضمان عدم التكرار.